الأربعاء 11 سبتمبر 2024

مفاجآت رواية «زينب» على شاشة السينما

مقالات27-8-2024 | 14:58

في تاريخ السينما المصرية أهمية كبيرة لرواية «زينب» للدكتور محمد حسين هيكل «1888-1956»، فقد كانت وراء إنتاج فيلمين بنفس العنوان أحدهما صامتا عام 1930 والآخر ناطقا عام 1952 لمخرج واحد للفيلمين هو محمد كريم «1896-1972»، لكني لم أتوقع كم المفاجآت التي صادفتني وقت إعداد هذا المقال، قد تكون معلومات جديدة بالنسبة لي ولكنها في ذات الوقت ضرورية لكل مهتم بتاريخ السينما المصرية، خاصة ما ذكره المخرج الكبير محمد كريم في مذكراته التي نشرها المؤرخ السينمائي محمود علي عام 1972. 

وكما هو معلوم أن هذه الرواية حصلت على شهرة كبيرة بوصفها الرواية الأولى في الأدب العربي، كتبها الدكتور هيكل عندما كان يدرس القانون في فرنسا عام 1911 ونشرها لأول مرة بعد عودته للقاهرة وتحمل الطبعة الأولى تاريخ 1914 بقلم مصري فلاح، وقال هيكل إنه كان يخشى من رد فعل المجتمع على نشر مثل هذه القصة التي كانت تعتبر جريئة بمقاييس ذلك العصر، ولهذا صدرت الطبعة الأولى باسم مستعار وقال إنه أراد بذلك التأكيد على هويته المختلفة عن طبقة "الذوات" وهم أبناء المدينة من غير الفلاحين والذين لا يعرفون عادات وتقاليد الحياة في الريف المصري.. لذلك فإن هيكل ينظر لنفسه بأنه مصريا بمعنى "قاهري" يعيش في المدينة ولكنه ما زال فلاحا يلتزم بتقاليد الريف العريقة. 

عمل هيكل بالمحاماة بعد عودته من فرنسا ثم تفرغ للعمل بالصحافة وقام بتأسيس جريدة "السياسة" التي كانت تصدر ملحق "السياسة الأسبوعية" الثقافي، بعد ذلك التحق بحزب الأحرار الدستوريين وتولى منصب وزير المعارف عام 1938 وأصبح فيما بعد رئيسا لمجلس الشيوخ عام 1945. 

وفي الطبعة الثانية بعد 1930 يكتب هيكل في الإهداء: "إليك يا مصر ولأختي أهدي هذه الرواية....."، وعندي تفسير لهذا الإهداء فهو لمصر بعد أن تأكد هيكل من أهمية النص الأدبي الذي كتبه وأدخله التاريخ من أوسع أبوابه بوصفه صاحب أول رواية في تاريخ الأدب العربي، ولأخته لأنها التي قصت عليه أحداث الرواية ومن المرجح أنها كانت صديقة للفتاة "زينب" التي تحكي الرواية قصة حبها لإبراهيم عام 1905 في قرية كفر غنام بالدقهلية، معنى ذلك أن زينب شخصية حقيقية وقصتها دارت أحداثها في الواقع كما أكد ذلك المخرج الكبير محمد كريم في مذكراته وهذه كبرى المفاجآت.

تعتمد "زينب" في الأساس على وصف واقع الحياة الاجتماعية في الريف المصري في مطلع القرن العشرين وتمثل شخصيات الرواية ذلك الواقع مثل "حامد" و"عزيزة" و"إبراهيم" و"زينب" وزوجها "حسن" الذي أرغمه أهلها على الزواج منه.. كما يصف هيكل الطبيعة الجميلة الهادئة في القرية متأثرا بالمدرسة الرومانتيكية الفرنسية وتصبح شجرة الجميز الضخمة التي تجلس تحتها زينب مع إبراهيم رمزا للعلاقة العاطفية البريئة التي جمعت قلبيهما، ولكن استدعاء إبراهيم للخدمة العسكرية يحسم الفراق بينهما لأنه فقير لا يملك عشرين جنيها يدفعها "بدلا" عن التجنيد كما كان الحال في تلك الفترة وتحتفظ زينب بمنديل إبراهيم ذكرى لذلك الحب الطاهر، ولم تنس زينب إبراهيم حتى بعد زواجها من حسن.. وتنتهي الرواية بوداع زينب لإبراهيم قبل أن يسافر للخدمة في السودان ويقوم زوجها حسن بالذهاب معه مع جمع من أهالي القرية إلى محطة القطار لوداعه.. كانت هذه هي نهاية الرواية كما كتبها هيكل، لكن فيلم "زينب" الصامت ينتهي بأن تحزن زينب على فراق إبراهيم وتموت وهي تمسك منديله تحت شجرة الجميز، أما في فيلم "زينب" الناطق فالنهاية مختلفة تماما من تأليف كاتبا السيناريو عبدالوارث عسر، والمخرج محمد كريم، حيث تمرض زينب بداء السل ويرفض زوجها علاجها لبخله وتعود إلى بيت أهلها ويذهب بعض الجيران إلى الزوج لإقناعه بطلاقها، ويتم ذلك مع وصول إبراهيم إلى القرية ويأخذها للعلاج في المستشفى على أمل الزواج منها بعد شفائها. وهي نهاية تعتبر سعيدة ترفض اليأس والحزن والفراق وتمنح المشاهد بعض الأمل في أن صفحة جديدة لقصة الحب قد بدأت.

قام يوسف وهبي بإنتاج فيلم زينب الصامت 1930 وقامت بهيجة حافظ بدور زينب وسراج منير بدور إبراهيم وزكي رستم بدور الزوج حسن، بينما قام "ستوديو نحاس" بإنتاج الفيلم الناطق 1952 وقامت راقية إبراهيم بدور زينب ويحيى شاهين بدور إبراهيم وفريد شوقي بدور الزوج حسن، وذكر محمد كريم في مذكراته أن فيلم "زينب" الناطق مثَّل مصر في الدورة الثانية لمهرجان برلين وقد كان بدون مسابقة واحتفت الصحافة الألمانية بالفيلم القادم إليهم من مصر ويعبر عن البيئة والحياة في الريف المصري.

ونقرأ الآن صفحات من مذكرات المخرج محمد كريم الصادرة عن سلسلة كُتاب الإذاعة والتليفزيون عام 1972 وأعدها للنشر المؤرخ السينمائي محمود علي، ويحكي كريم بالتفصيل وبأسلوب كاتب السيناريو ويقول: "وكان أمامي مهمة البحث عن مؤلف القصة المجهول وساعدني أخي حسن إذ رجح لديه أن المؤلف هو الدكتور هيكل.. ذهبت إليه في جريدة "السياسة" وتأكدت أنه صاحب "زينب" فكاشفته برغبتي في إخراجها للسينما، فرحب وأعطاني تصريحا كتابيا بإخراجها دون أي مقابل، ذهبت بعد ذلك إلى يوسف وهبي وأخبرته بأني أعددت قصة زينب للسينما فرد وأنا قررت إنتاجها".

ويستمر محمد كريم في العودة بذاكرته ويقول: "كتب الدكتور هيكل خطابا لشقيقه يخبره بموضوع الفيلم وأن المخرج يريد زيارة كفر غنام التي كانت مسرح لأحداث القصة ورد الأخ مرحبا.. وسافرت إلى القرية حيث كان في انتظاري آل هيكل الذين رحبوا بي أجمل ترحيب، والتف حولي كثير من الأهالي وكلهم يعرف زينب ويتحدث عنها ويقص عن سيرتها ما يعلم وطلبت زيارة منزل زينب.. سار معنا عمدة البلدة وعدد كبير من الأهالي، وفي طريقنا إلى منزلها كنا نسير في رهبة وخشوع وكل منهم يتنهد ويتشهد ويرتفع بين الحين والحين صوت يقول الله يرحمها "زينب الإمام" ويقطع الصمت واحد يقول: عارف يا بيه في الدنيا كلها مفيش واحدة كانت في جمالها وأخلاقها وأدبها الله يرحمها.. كانت تمشي ماترفعش عينها من الأرض والابتسامة مافارقتش بوقها لغاية ما ماتت.. وأمام بيت متداعي وقفنا وطرق أحدهم الباب فسمعنا من الداخل صوتا ضئيلا وفتح الباب عن امرأة عجوز متهدمة.. وسألها سائل ده بيت مين ياخالة فقالت ده بيت زينب الإمام الله يرحمها راحت وراحت أيامها الحلوة.. دي ماتت من 25 سنة ياولادي.. زرت بقايا هذا المنزل والغرفة التي عاشت وماتت فيها".

ويضيف كريم: "بعدها خرجنا في صمت وذهول وسرنا في الطريق الذي كانت تقطعه إلى شجرة الجميز والعمدة يحدثني في خفوت عن أسرتها ماتت زينب وكذلك لحقتها أختاها بعد زواجهما بثلاثة أشهر ويتبعهما الأب ثم الأم، وهكذا قدر لهذه الأسرة أن تنقرض والجميع ناقمون على أبويها لإرغامهما زينب على الزواج من حسن الثري.. كانت لا تحبه لهذا قضت نحبها وما زال هذا الزوج على قيد الحياة.. وارتفع صوت جمال الدين بيه يدعونا إلى مقبرة زينب، تقدمنا العمدة ووقف أمام قبر مهدم عبثت به يد الأيام فقالوا قبر زينب.. وعندها تمشت رعدة قوية في جسمي وسرت في الجميع روح الحزن فارتفعت أصواتهم بالفاتحة، وتتابعت الزفرات فانهمرت دموعي حارة وأنا أسائل نفسي هنا ثوت زينب في ضجعتها الأخيرة".. بعد ذلك ذكر كريم أنه تمكن من مقابلة إبراهيم حبيب زينب وهو رجل خجول يحفظ غيبتها الأبدية ولم يذكر كلمة واحدة عن ما كان يدور بينه وبين زينب وكان يترحم عليها في حزن وأسى.

ويختتم كريم ذكرياته عن بداية العمل في فيلم زينب ويقول: "إذا كنت أسهبت في وصف الزيارة للقرية التي دارت فيها أحداث أول قصة مصرية أخرجت للسينما.. فذلك لكي أقرر أمرين: أولهما أن الواقعية كانت أسلوب العمل في أول خطوة خطتها السينما المصرية نحو الوجود، وثانيهما أن الصبر على الدراسة وتجميع كل التفاصيل التي يصح أن يبنى على أساسها فيلم للسينما هي أيضا من عناصر العمل السينمائي السليم".

يتحدث المخرج محمد كريم عن الواقعية كأنه يدافع عن نفسه بعد أن قال البعض بأنه كان يغسل الشجر والبقر والحمير قبل التصوير في القرية، واعترف كريم بأنه كان يفعل ذلك فعلا ولكن ليس بهدف خداع المشاهد وتجميل الريف وتصويره بغير الحقيقة.. كان يفعل ذلك بهدف أن تكون الصورة بالأبيض والأسود واضحة على الشاشة لأن كاميرات التصوير السينمائي في تلك الفترة البعيدة كانت تعطي نتائج باهتة للصورة، فإذا كان على الشجرة تراب كثيف أو أن الجاموسة غير نظيفة تغطيها رمال وطين وأتربة فإن الصورة في الكادر السينمائي تكون غير واضحة، لذلك فإن محمد كريم لم يكن يهدف إلى تجميل الريف بل إلى توضيح الصورة السينمائية التي تظهر على الشاشة.  

ويعترف كريم بأن زوجته الألمانية "نعمة الله" أم ابنته ديانا هي التي اقترحت عليه إعادة تقديم قصة زينب في فيلم ناطق وهو لم يكن يفكر في ذلك أبدا.. 

ومن الطرائف التي ذكرها محمد كريم في مذكراته أن العاملين في الفيلم بعد اختيار الفنانة راقية إبراهيم للقيام بدور زينب أطلقوا فيما بينهم اسم جديد للفيلم وهو "مدام زينب".. لأن راقية إبراهيم في ذلك الوقت كانت أشيك فنانة في مصر فهل من المعقول اختيارها للقيام بدور الفلاحة زينب، وقد ذكر كريم أن ملابس راقية في فيلم "زينب" تكلفت خمسة جنيهات فقط في حين أن فساتين راقية إبراهيم في فيلم "رصاصة في القلب" تكلفت 500 جنيه وهى تكلفة باهظة بأسعار عام 1944. أما الدكتور هيكل فقد حصل على ألف جنيه نظير الموافقة على تقديم القصة في فيلم ناطق. 

ونعود لمشاركة الفيلم في مهرجان برلين عام 1952 وقد سافرت مع الفيلم البطلة راقية إبراهيم والمنتج النحاس ومعهم مونتير الفيلم المخرج المعروف ولي الدين سامح الذي قام بترجمة حوار الفيلم إلى الألمانية ليطبع على النسخة التي سوف يشاهدها الجمهور والنقاد في برلين، ولم يسافر المخرج محمد كريم بسبب مرض زوجته ويكتب كريم: "اشتركت في المهرجان أفلام من 24 دولة وكان عدد الأفلام المقبولة 30 فيلما.. 9 أفلام من إيطاليا و5 من فرنسا و3 أفلام من ألمانيا وهي الدولة المضيفة و3 أفلام من أمريكا وفيلمين من السويد وفيلم واحد من مصر هو "زينب"، وفي اليوم التالي للعرض وصلتني برقية من المنتج تقول إن الفيلم نجح نجاحا باهرا وبعد بضعة أيام وصلتني هذه الرسالة من راقية إبراهيم: "عُرض الفيلم ونال نجاحا كبيرا بفضل الله وكان ربنا معانا وانتهى كل شيء على مايرام.. ولو تعرف قد إيه كنت اتمنى تكون معانا، ولما طلب مني الجمهور الصعود على المسرح بعد عرض الفيلم.. قابلني بعاصفة من التصفيق لم أستمع إليها منذ 12 عاما.. لقد ذقت في هذه الليلة وحدها أول طعم للنجاح وظل قلبي يخفق وأنا أمام الميكروفون أنتظر هدوء هذه العاصفة لأتكلم إلى الجمهور.. كانت روحي في هذه اللحظات تحلق في السماء شاكرة ربي على عطفه الكريم، لقد كنت فعلا واثقة من نجاح زينب ولكني لم أكن أنتظر ولا أحلم بهذا النجاح الخارق.. حقا إنها كانت أول صفحة مجد في تاريخ حياتي الفنية". 

وينقل كريم بعض ما ذكرته الصحف الألمانية عن إعجاب النقاد بالفيلم المصري ومنها ما نشرته صحيفة "ديرشبيجل" الشهيرة حيث قالت: "فيلم "زينب" هو أول فيلم مصري يعرض في هذه البلاد ويعتبر مفاجأة حقة لنا، الفيلم يحتوي على الكثير من العادات والتقاليد المصرية مما جعلنا نشعر أننا أمام فيلم "ثقافي" من الدرجة الأولى، وموضوع الفيلم مشوق جدا وقد أخرج إخراجا نظيفا "بكل ذكاء" وهو مؤثر إلى أكبر درجة واستولى على مشاعرنا من أول لحظة ومثل أحسن تمثيل وقدم خير تقديم".

انتهى كلام المخرج محمد كريم والحكايات عن فيلم زينب لم تنتهي.. فقد كان يمثل مرحلة في تاريخ السينما المصرية تزاوج فيه الأدب الوليد من الفن الوليد في تجربتين صامتة وناطقة، وهو ما لم يحدث مع رواية أخرى في تلك المرحلة التي شهدت ازدهارا واضحا في شتى المجالات.