لعلك أدركت الآن أن التزامك الصمت أمامهم كان أبلغ من أي حديث كنت تظنه سيحقق لك أي مكسب أو فائدة، فأنا شاهدة على احتفاظك بكل كلمات العتاب التي أعددتها ثم آثرت أن تغلق الباب عليها، على الرغم مِن أنك مَن قمت بترتيبها متحريًا فيها الدقة.
كلماتك كانت منتقاة بعناية كزهرات يانعات جمعتها من بساتين إنسانيتك، نسقتها بذوقك المعهود وبرقتك، نطقت بالحسن والجمال وبروعة كروعتك، دونتها بأدبك الجم ورهافة حسك، سطرتها بمداد امتزج بعبير نبلك، غلفتها بغلاف مزين بطيبة قلبك وحسن أصلك.
إنك وعلى الرغم من تكرار عدد مرات خذلانهم لك ما زلت تحرص على عدم إيذاء مشاعرهم ولو بلفظ أو بكلمة تدفع بها ظلمهم عنك، أراك تشير إلى أولئك الذين أثقلوك بسيء أقوالهم وأفعالهم، أولئك الذين كانوا يتآمرون عليك، أقرأ معك رسالتك الأخيرة التي وجهتها إليهم، رسالتك جاءت مكونة من كلمتين لا ثالث لهما حيث قلت: "لقد اكتفيت"
أدركت قيمة المغادرة في صمت دون نقاش أو جدال، فهل مللت؟ أم أنك أيقنت أن جدالك مع هؤلاء لن يؤتي ثماره مهما اجتهدت، وجودهم علمك أن بعض الخسران والفقد قد يتحولان لنعمتان تستحقان الشكر والحمد.
ها أنت قد شيدت صومعتك التي ستقيم بها، تحتمي بداخلها بعيدًا عن أعتى أشرار عالمك، تتنقل بينها وبين محراب تعبدك، تبتهل إلى الله كي يخلصك من الذين استحلوا دائمًا إيذاءك وظلمك.
أحسنت إذ قررت أن تحيا متقربًا لرب الخلائق وحده، فهو المرتجى في عالم سادته المكائد والفتن، عالم دفعك نحو البعاد تجنبًا لكل شر قد يحاك من أجلك. أصبت يوم قررت أن تحافظ على سلامك النفسي، فهو أغلى ما يمتلك في هذا الزمن.
تعلمت أن الأحاديث الجوفاء مثلها كمثل الريح الهوجاء؛ لا نفع فيها ولا فائدة، وأن التلاعب بالكلمات والألفاظ عرف سائد في محاولات البعض لإرباكك، التشتيت هو قوتهم وكل سلاحهم، وفي نهاية الأمر كانوا سيعلنون تفوقهم عليك بفارق خبرتهم، فهم حواة في نسج الألعاب والحيل.
أراك سعيدًا الآن بإقامتك بعيدًا عنهم، حيث جاورك الأمل وعاش الأمان على مقربة منك، حيث يقينك برحمة ربك التي قبلتك واستقبلتك ورحبت بك، أبرت بقسمها ووعدها إليك بأن ما شكوت منه هو على الله أهون من كل هين، وها هى قد ضمدت جراحك، وأزالت عنك ألمك.