فى أول سبتمبر 1892 صدر العدد الأول من مجلة “الهلال” التى أعدها للنشر ورأس تحريرها جرجى زيدان الذى قدم من لبنان إلى مصر. ويبدو واضحا أن اختياره للهلال عنوانا جاء فى إطار عدم استغضاب حكام مصر الولاية العثمانية-التركية التى أصبحت خاضعة لاحتلال بريطانيا (1882)، حيث كانت سلطة الاحتلال تعمل على إثارة الفتنة الطائفية فى مصر بين المسلمين والمسيحيين مثلما كانت تفعل فى الهند بين الهندوس والمسلمين.
وعلى هذا جاء اختيار “الهلال” تقديرا لراية الدولة العثمانية (الهلال الذى يضم ثلاثة نجوم)، فضلا عن أن الهلال رمزا إسلاميا حيث على أساسه يتم تحديد أول الشهور الهجرية وخاصة شهر رمضان. وليس ببعيد أن جرجى زيدان تأثر باختيار بشارة وجبرائيل تقلا اسم “الأهرام” عنوانا لجريدتهم اليومية للتدليل على تقديرهم لتاريخ مصر منذ زمن الفراعنة.
والمتابع لتاريخ جرجى زيدان يعجب لأمر هذا الرجل الذى كان لظروف حياته التى مر بها تأثير كبير فى ظهوره كاتبا مثقفا واعيا، بدلا من أن يصبح صاحب حرفة يعرضها هنا وهناك، ذلك أن الظروف التى مر بها ومعيشته بعض الوقت فى بلدان أوروبا جعلته يتعلم اللغة الفرنسية والإنجليزية والألمانية وشيئا من الإيطالية والإسبانية فضلا عن العبرية واللاتينية.
وعندما جاء إلى مصر في عام 1883 برفقة آخرين هربا من المناخ العام في بلاد الشام (سوريا ولبنان) تحت الحكم العثماني، كانت مصر قد أصبحت تحت الاحتلال البريطاني وكان ينوي دراسة الطب. لكن الأحداث غيرت طريقه في الحياة فقد التقطته سلطات الاحتلال في مصر ليرافق الحملة العسكرية الإنجليزية بقيادة جوردون إلى السودان لإخماد ثورة المهدي 1884 ضد احتلال بريطانيا لمصر، ليقوم بدور المترجم لإجادته للغة الإنجليزية وهناك مكث عشرة أشهر.
ويبدو واضحا أن جرجى زيدان لم يكن مستريحا للتعامل مع الإنجليز بتلك الطريقة، فنراه بعد الحملة على السودان يعود إلى بلده لبنان ومنها إلى لندن وهناك اتصل بالمستشرقين الإنجليز الذين أثروا فى تكوينه الفكرى، وإن ظل حريصا على رابطة العروبة بعيدا عن منهج الاستشراق والتعصب الطائفى ومن هنا كان اختيار “الهلال” رمزا فكريا.
وبهذا التكوين الثقافى والفكرى ينتمي جرجي زيدان إلى ذلك الجيل الموسوعي في المعرفة الأدبية والعلمية وخاصة في دائرة العلوم الاجتماعية في التاريخ والاقتصاد والسياسة والقانون. ومن هنا اقترن اسمه في المصادر المعاصرة بأكثر من صفة: فهو الأديب، والروائي، والمؤرخ، والصحفي. ولا شك أن الظروف التي مر بها ساعدته على الكتابة في كل تلك المجالات.
وعندما استقر به الحال في القاهرة عمل صحافيا في جريدة “الزمان” وهي جريدة صاحبها شخص أرمني، وبدأت انطلاقاته في الكتابة. وكان يدرك تماما طبيعة المجتمع الذي استقر فيه من حيث أن أغلبيته من المسلمين، وأما غير المسلمين فيه من المسيحيين واليهود والأرمن وغيرهم أقلية في كل الأحوال. وهذا الإدراك يفسر لنا اختياراته في الكتابة حتى لا يصطدم بالمناخ السياسي العام شأن ما فعله آل تقلا أصحاب جريدة الأهرام، حيث حرصوا على عدم الاصطدام بالسلطة مهما كانت الأمور.
وفي هذا الخصوص نفهم لماذا اختار جرجي زيدان “الهلال” اسما للمجلة التي أصدرها في مصر 1892، إذا قال في أول عدد صدر من المجلة في أول سبتمبر (1892) “اتسمت بالهلال تبركا بالهلال العثماني الرفيع الشأن.. شعار دولتنا العلية أيدها الله”.
كما نفهم أيضا اختياراته لموضوعات التاريخ التي كتب عنها، ذلك أنه تحت كلمة “تاريخ” كتب أكثر من عشرة كتب أبرزها: “تاريخ مصر الحديث مع فذلكة في تاريخ مصر القديم” في جزئين عام 1889، ضمنه أحداث حملة جوردون لإخماد ثورة المهدي بالسودان التي سبقت الإشارة إليها، وفي هذا الكتاب قال: إن فترة الحكم العثماني لمصر (1517-1798) هي أظلم أقسام التاريخ المصري من حيث فساد الولاة واستبدادهم ونهب ثروة مصر؛ وكتاب “تاريخ التمدن الإسلامي” في خمسة أجزاء أنجزها في أربع سنوات (1902-1906)، وقام المستشرق مارجليوث البريطاني بترجمة الجزء الرابع منه وعده عملا أصيلا؛ و “تاريخ العرب قبل الإسلام” (1908). وتتابعت كتبه في تاريخ اليونان والرومان القدماء وتاريخ إنجلترا، وتاريخ الماسونية، وتاريخ آداب اللغة العربية.
وفي تلك الكتب حرص على أن يذكر حقائق التاريخ على طريقة السرد المتتابع لما حدث وكأنه يريد أن يقول: هكذا حدث التاريخ دون تدخل من جانبه. وأما رواياته التاريخية فكانت تحرره من الالتزام الصارم بالوقائع، وتمكنه من صياغة الشخصية التي اختار أن يكتب عنها دون أن يجرؤ أحد على محاسبته على اختياراته، إذ هكذا الأدب الرمزي الذي يلجأ إليه كثير من الروائيين حتى يومنا هذا. وفي هذا الخصوص كتب أكثر من عشرين رواية تتناول موضوعاتها فترات في التاريخ الإسلامي ابتداء من الفتح وحتى حكم المماليك، في أسلوب سهل يغري بالمتابعة دون ملل لعل أبرزها: “ارمانوسة المصرية”، وموضوعها يتعلق بفتح مصر؛ و”عذراء قريش” وموضوعها يتعلق بمقتل سيدنا عثمان بن عفان وواقعتي الجمل وصفين؛ ورواية “17 رمضان” وتختص بأحداث الفتنة الكبرى بين سيدنا علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان؛ ورواية “غادة كربلاء” وتختص بمقتل الحسين بن علي.. وهكذا.
ويلاحظ أن موضوع “رواياته” في التاريخ الإسلامي يتعلق بالصراع على السلطة والنفوذ، ومؤامرات البلاط، ودور المرأة في الصراع السياسي وغير ذلك من المواقف التي تتصل بفن البناء الدرامي للحدث وشخصياته، فبدا ذلك للمتشددين دينيا أنه تجريح في المسلمين وتجديف في الدين، الأمر الذي أثار ضده خواطرهم، فانتقدوه باعتباره مسيحي يكتب عن الإسلام، وأنه متأثر بتربيته في مدارس الإرساليات الدينية الأجنبية الفرنسية والأمريكية بلبنان، وأنه يتعمد تحقير العرب.
وهذه النظرة الضيقة من أولئك المتشددين لم تقتصر على ما كتبه جرجي زيدان “المسيحي”، بل لقد طالت الشيخ علي عبدالرازق عندما كتب “الإسلام وأصول الحكم” (1925)، لمجرد أنه قال: إن الإسلام دين لا دولة ورسالة لا حكم، وأيضا طالت طه حسين حين كتب “في الشعر الجاهلي” (1926) إن هذا الشعر لابد وأن يكون منتحلا وتمت تنقيته من مظاهر الجاهلية التي كانت لابد وأن تظهر في الشعر باعتبار أن الشعر مرآة العصر.
وعندما افتتحت الجامعة المصرية في عام 1908 تم انتداب جرجي زيدان لتدريس مادة التاريخ الإسلامي وكان قد أصدر كتابه “تاريخ التمدن الإسلامي” كما سبقت الإشارة، وسرعان ما تم استبعاده من التدريس بدعوى مسيحيته، مع أن سعد زغلول في حفل افتتاح الجامعة قال: “الجامعة لا دين لها إلا العلم”، وهى عبارة أثيرة، لكنها ذهبت هباء مع موجة التشدد ومناخ التعصب الذي كانت سلطات الاحتلال الإنجليزي في مصر تنفخ في ناره. مع أن الرجل قال عن الإسلام كلاما مضيئا لم يلتفت إليه أولئك المتشددون فقد قال: إن تاريخ الإسلام حلقة موصلة بين الشرق والغرب لأنه بامتداد أصحابه إلى أقصى الشرق وإلى أقصى الغرب تمكنوا من الوصل بينهما، وهو أيضا حلقة موصلة بين التمدن الغربي القديم والتمدن الغربي الحديث، لأنه حفظ ما توالى على عوامل التمدن الغربي القديم من التغيير أو التحوير في العلوم الفلسفية والطب مما اشتغل به المسلمون في أثناء تمدنهم، ولا سبيل إلى معرفة ذلك إلا بتاريخ الإسلام. وهذه العبارة تؤكد من ناحية أخرى أن جرجي زيدان كان حريصا كل الحرص على ألا يكتب ما يغضب المجتمع الذي انتقل للعيش فيه هربا من مناخ حكم الأتراك حتى لو كان يريد، وأكثر من هذا أنه عندما كان يكتب في التاريخ الإسلامي، كان يذكر التاريخ الهجري بجوار التاريخ الميلادي فيقول: سنة كذا من هجرة صاحب العزة والشرف. كما قال مع القائلين “الفتح العثماني” لمصر ولم يقل “الغزو” العثماني. وفي كتابته عن الحملة الفرنسية على مصر (1798-1801) لم يمتدحها حتى لا يفهم أحد أن مديحه لها ينطلق من مسيحيته، بل قال “إنها عادت بخفي حنين”.
وفي هذا الخصوص يذكر سلامة موسى في كتابه “تربية سلامة موسى” الذي نشره عام 1947، أن جرجي زيدان قال له بعد الاستغناء عنه في التدريس بالجامعة: لا بأس أن ننتقد المسيحية لأن المسيحيين ألفوا نقد ديانتهم، أما المسلمون فيجب أن نتوقاهم لأنهم لم يألفوا النقد”. وتلك عبارة لها دلالتها على الفرق بين النقل والعقل، وتفسر الكثير من جمود الفكر عند المتشددين، وبالتالي تجمد الفكر في بلدنا وبقائه أسيرا.