الأحد 6 اكتوبر 2024

جرجي زيدان في فرنسا 1912.. ماذا رأى وكيف كتب؟

مقالات7-9-2024 | 00:52

قبيل وفاته بنحو عامين سافر جرجي زيدان إلى أوربا في رحلة الصيف لعام 1912، حيث زار كل من فرنسا وإنجلترا وسويسرا على التوالي، ولم تكن تلك الرحلة كعادة سفر المشارقة إلى أوروبا في ذلك الوقت للاستجمام والبعد عن صيف الشرق شديد الحرارة؛ بل رأي فيها زيدان، فرصة لإعلام بني جنسه وبخاصة في مصر ما وصلت إليه فرنسا من تقدم وحضارة وفي ذلك طريق لتطوير أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية، وعقد زيدان كثير من المقارنات بين حال الشرق وأوربا وبدا له أن مصر قريبة في مدنيتها وحضارتها الحديثة مما يحدث في باريس وذلك بفضل جهود التحديث في مصر منذ القرن التاسع عشر

لاشك أن تلك الرحلة على أهميتها جاءت في وقت مفصلي من تاريخ أوروبا التي كانت حبلى بحرب كبيرة في ظل الصراع الكبير والممتد بين القوى الكبرى فيها وبخاصة الدول، التي توحدت حديثا مثل ألمانيا 1871 وإيطاليا 1870 والإمبراطوريات القديمة مثل بريطانيا وفرنسا والدولة العثمانية وإمبراطورية النمسا والمجر وروسيا القيصرية.

ورغم ذلك لم يهتم جرجي زيدان في رحلته بالحديث عن السياسة أو التنافس الاستعماري والصراع بين القوى الكبري والتحالفات والتحالفات المضادة التي ساقت العالم نحو حرب كبرى لم يعرفها من قبل، ولعل ذلك راجع إلى أنها أمور لم تثار كثيرا بشكل علني بقدر ما كانت تغلي في الغرف المغلقة والأماكن السرية، وأمر آخر مهم، وهو شخصية جرجي زيدان الذي لم يعرف عنه أنه اشتبك كثيرا مع الواقع السياسي بقدر ما اشتبك مع تاريخ أمته العربية وأمراضها الاجتماعية.

ورغم أن زيدان قدم تعاريف مختصرة لفرنسا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، إلا أنه اهتم بشكل كبير بالمجتمع والمؤسسات التى تعمل على تنمية التعليم الثقافة والفنون والعلوم والأمراض التى يعاني منها المجتمع وطرق التقدم الذي يسلكها، وكان يورد مقارنات بين ما هو في فرنسا وما هو في مصر سواء في جوانبه الحسنة أو السيئة وكان يود أن ينصلح ما هو فاسد في رأيه.   
وقد أكد جرجي زيدان على أن هدفه من تدوين ما رآه في فرنسا نقل ما يهم قراء العربية من أحوال تلك المدنية التي يقلدها العرب على مدار قرن كامل وأنهم يتخبطون في اختيار ما يلائم أحوالهم وأن في هذه الرحلة درس للقارئ العربي.

وبدا أن ذلك اتفاق ألزم زيدان نفسه به إلا أن هناك أمورا لو أوردها فلم تكن لتخلو بذلك الاتفاق بقدر ما كانت ستزيد الفائدة للقارئ بل وتكمل ما كنا نستحسن وجوده ولعل أهم تلك الأمور:
* رغم الفرصة الكبيرة بوجود زيدان في فرنسا، ورغم أنه صحفي قدير لم يتناول وضع الصحف في باريس وكبار كتابها واتجاهاتها كما لم يتعرض للحياة الحزبية كجزء من حياة فرنسا وأي تيار كان يحكمها أثناء وجوده في ذلك الوقت، 
* محتوى الرحلة في بعض مواضعه كان يحتاج إلى الحبكة العلمية التى تضع بعض النقاط في مكانها الصحيح ولا يجعلها تختلط بغيرها وتحدث ارتباكا للخط العلمي لموضوعات الرحلة، كما كان هناك حاجة لتأكيد بعض المعلومات والمقولات التى أوردها.
* لم يوضح متى بدأت الرحلة ومتى انتهت ومتى زار كل مكان حتى ولو ذكر ذلك في هوامش الصفحات 
* لم يشر زيدان ولو بالقليل عمن صحبه في تلك الرحلة أو قدم له يد العون وهو ما كان سيكون عرفانا بالجميل لإنجاز هذا العمل العلمي وحبذا لو كان من الفرنسيين.

فرنسا تحت أعين جرجي زيدان

بدأ زيدان كتابه عن الرحلة بالتعريف بنظام الحكم ومؤسساته في فرنسا ومناحي الاقتصاد فيها بشكل سلس ومختصر موثقا بالأرقام والإحصائيات المتنوعة، ثم انتقل إلى وضعها العلمي والتعليمي وذكر أنه كان في فرنسا 15 كلية حكومية للآداب تخرج منها في عام 1910 عدد 6373 طالبا و13 كلية للحقوق حكومية تخرج منها 16915 طالبا بإجمالي 23288 طالبا أما باقي الكليات العلمية التي تخضع للحكومة أيضا (الطب والعلوم والصيدلة وغيرها) فقد تخرج منها 17756 طالبا، هذا علاوة على مدارس عليا تابعة لنظارة المعارف الفرنسية مثل مدرسة فرنسا المشهورة College de France  وعشرات الكليات الخاصة بالعلوم الإنسانية ومختلف أوجه الثقافة، وقد أنفقت فرنسا على التعليم عام 1910 ما يوازي 11557000جنيها مصريا (أحد عشر مليونا وخمسمائة وسبع وخمسين ألفا من الجنيهات المصرية)  وهو ما يقارب 10 % من ميزانية الحكومة الفرنسية التي بلغت نحو 170 مليونا من الجنيهات المصرية (الجنيه المصري يساوي في ذلك الوقت 25 فرنكا فرنسيا ) في حين أنفقت الحكومة المصرية على التعليم عام 1910 نصف مليونا من الجنيهات المصرية  والأمر لا يحتاج إلى تعليق. 

ووجد جرجي زيدان أن مسارح مصر قريبة الشبه بمسارح باريس في حسنها، وإن كانت الأعمال المسرحية التي تعرض عليها تهتم بانتقاد العادات والتقاليد والأخلاق والسياسة في شكل بين الجد والهزل؛ فكانت تعرض مسرحيات تتناول موضوعات مثل حرية المرأة وما ينتج عنها والمعاهدات والمجاملات السياسية، والحرب الدائرة عام 1912 بين الدولة العثمانية وإيطاليا في ليبيا. 

تحدث زيدان عن الطرق والمواصلات العامة الفرنسية ونظامها والفرق بينها وبين المواصلات العامة في مصر، وبين أنها تشبهها كثيرا وأن حضارة مصر الحديثة صورة مصغرة من حضارة باريس أهم مدن فرنسا وأوربا عامة، لكن السلوكيات السيئة من الركاب ومن القائمين على تلك المواصلات العامة تسئ للمصريين، وتناول جرجي زيدان تفنن الفرنسيسين في الإعلان عن بضائعهم وبراعتهم في صنع الأزياء رغم تأكيده على عدم جودتها، وعرض باستفاضة لطرق دفع الإكراميات (البقشيش) وطبائع الفرنسيين، وإبراز جمالهم وعذوبة حديثهم، واهتم بالحديث عن معرفة الفرنسيين بالواجبات المنوطة بكل فرد دون رقيب ومعرفة قيمة الوقت وصدق المواعيد واشتغال كل منهم بنفسه.

ورأى أن الفرنسيين اهتموا بالنابغين منهم فأقاموا لهم التماثيل في كل ميدان وفي واجهات القصور أو الساحات العامة، وأن باريس وحدها عام 1912 بها أكثر من 160 تمثالا للقادة والملوك والكتاب والشعراء والفلاسفة والعلماء ومنها تماثيل لمشاهير من دول أخرى مثل دانتي شاعر إيطاليا وجورج واشنطن محرر الولايات المتحدة الأمريكية وشكسبير شاعر الإنجليز، هذا بخلاف التماثيل الرمزية عن الحرية والاتحاد، هذا العدد لا يدخل فيه تماثيل المتاحف والكنائس والمسارح والمدارس والمنازل. 

ويأخذ جرجي زيدان على الفرنسيين التطرف في الحرية، حتى شكوا في الأديان ففسدت الآداب، ورأى "أن العامة لا تستغني عن وازع ديني يصلح من آدابها، ومن أكبر أسباب الفساد إلقاء الشكوك الدينية في أذهان الناس"

كان رأيه في عامة فرنسا أنهم أكثر ثقافة وعلما بسبب ما حدث في فرنسا بعد الثورة عام 1789 حيث صار العديد من العامة في مقدمة الصفوف وحصلوا لطبقتهم على كثير من الامتيازات، وهو أمر هاجمه زيدان بقوله "أنها أضرت به وبالأمة من جهة أخرى فإن العامي مهما بلغ من ارتقائه لايبرح قصير الإدراك" وقد جانب زيدان الصواب في هذا الرأي كما أنه أورد أقوالا للإمام على ومعاوية بن أبي سفيان لم تصح أنهما ذكروها وبدا زيدان رجل طبقي الفكر بكل معاني الكلمة في نظرته للعامي سواء في فرنسا أو في مصر.

وأكد زيدان أن الفرنسيين أكثر الشعوب الأوربية احتراما للمرأة، حيث نالت حقوقها واهتموا بها وسمح لها بالعمل في كل المهن من أصغرها إلى أرقاها وشاركت في الحياة السياسية، واتجهت إلى العمل بعد الانتهاء من دراستها مثلها مثل الرجال ومن أبلغ الاهتمام بها وتكريمها أنهم عندما أنشأوا تماثيل للاتحاد والحرية والبلاغة جعلوها على هيئة امرأة

من ناحية أخرى انتقد زيدان ما وصلت إليه ممارسة بعض النساء الفرنسيات لحريتها بشكل سافر وبخاصة في المدن الكبرى مما أساء إليها عندما ارتبط ذلك بممارسة الرذيلة، وهو أمر جعل الشرقيين يسيرون في طريق وضع العراقيل أمام نيل المرأة الشرقية لحريتها كاملة، خوفا من المصير الذي آلت إليه بعض نساء فرنسا، وانتقد زيدان بشدة عمل المرأة الفرنسية في هذا المجال الذي كان مرخصا من الحكومة وشرح أسبابه بشكل مستفيض، ومن يعمل به من الجنسيات الأخرى وأثر ذلك على الطلاب المصريين الذين يدرسون في الجامعات الفرنسية بباريس، وخلص إلى أن فرنسا بها إيجابيات كثيرة علينا أن نستفيد منها وبها من المساوئ ما يجعلنا أشد حرصا في الابتعاد عنها.

آثار فرنسا

أفرد جرجي زيدان لآثار فرنسا في كتابه ما يقرب من نصف ما كتبه عن فرنسا خلال وجوده بها، ورأى أن أهم آثار فرنسا المعنوية مبادئ الحرية واستقلال الفكر واستخدام اللغة الفرنسية في المكاتبات بين الدول واستخدامها كلغة للثقافة العالمية، أما آثارها المادية فقد تحدث زيدان باستفاضة وقال إنه لا يمكن حصرها وأورد ما شاهده في مدينتي باريس وليون وأنها تتنوع ما بين المتاحف والقصور والكنائس والمسارح والميادين والجسور والأضرحة، ويوجد في باريس 70 كنيسة أهمها "نوتردام" التى تحتوي على العديد من الكنوز التاريخية و"كنيسة لافوفير" في ليون وبها لوحة توثق "معركة ليبانتو" 1571 بين السلطان العثماني سليم الثاني وتحالف البندقية (الحلف المقدس) وأيضا "قصر الانفاليد" حيث يوجد ضريح نابليون وقاعات عديدة بها من المقتنيات التاريخية النادرة ما يتعلق بتاريخ فرنسا الحربي في أوروبا وباقي قارات العالم عبر حقب تاريخية عريضة وأفاض زيدان في وصف ضريح نابليون بشكل كبير.

اهتم زيدان في زيارته لفرنسا أن يقدم لنا صورة بانورامية عن متاحف باريس التي زارها ومن الغريب أنه عند بدء الحديث عن متاحف باريس، بدأها بالحديث عن "متاحف الفاطميين" وكيف أنهم أول من أنشأ المتاحف في مصر ولكنها كانت خاصة، وقد يبدو للقارئ لأول وهلة أن هذه المتاحف في باريس إلا أنه على ما يبدو أن زيدان حاول أن يثبت أن الفاطميين أسبق من الفرنسيين في بناء المتاحف وهو أمر كان يحتاج إلى كثير من التوضيح حتى لا يضيع القارئ وتختلط عليه الامور.

لقد أورد زيدان أن في باريس وحدها عام 1912 نحو 40 متحفا وهي متنوعة ما بين متاحف عامة مثل اللوفر ومتاحف فنية ومتاحف عسكرية ومتاحف علمية ومتاحف دينية ومتاحف للمشاهير مثل هوجو وأوجست كونت، ورصد زيدان الكثير من المعلومات عن تلك المتاحف عندما زارها فأورد تاريخ بنائها وتناول قاعاتها ومقتنياتها بشيء من التفصيل، وكان زيدان حريصا على ذكر جزء من الحوادث التاريخية التي ارتبطت بتلك المتاحف، وبدا من خلال عرض زيدان أن جزءا ليس بالقليل من محتويات متاحف باريس مقتنيات لحضارات أخرى وبخاصة مصر والدول التي استعمرتها أو حاربتها فرنسا في قارات العالم المختلفة، طوال فترات تاريخية كبيرة وهي على كل تمثل نقطة غير مضيئة من تاريخ هذا البلد.

وزار زيدان المكتبة الأهلية وأفاض في وصفها وما تحتويه من كنوز المعرفة وتاريخها الضارب في القدم حيث أنشئت في القرن السادس عشر الميلادي وهى مقصد كل راغب في المعرفة.
لقد كانت لغة جرجي زيدان في وصف ما رآه في فرنسا سلسة وممتعة ويجعل القارئ وكأنه هو من يقوم بزيارة الأماكن أو من يشاهد شوارع وحواري فرنسا أو من يجلس على مقاهيها أو يقيم في فنادقها أو يرتاد مطاعمها أو يستخدم وسائل المواصلات العامة بها.

وقدم زيدان في توثيقه لرحلته إلى فرنسا مجموعة من الأرقام والإحصائيات المهمة التى كان من الصعب على القارئ العادي الحصول عليها وصلت لحد أنه ذكر رواتب أعضاء البرلمان الفرنسي وإحصائيات عن كثير من الجوانب الاقتصادية والاجتماعية

لقد كانت رحلة جرجي زيدان في تلك الفترة المبكرة من القرن العشرين وفي ظل ندرة ما يصل للقارئ العربي عن فرنسا وأحوالها عملا مهما ونقاط مضيئة لجرجي زيدان حيث وضع يد القارئ العربي على الكثير مما أنجزته فرنسا، ويمثل معلما مهما لمن يريد التقدم وأوضح المآخذ لمن أراد السلامة.