الأربعاء 18 سبتمبر 2024

التنوير في مواجهة الإرهاب


ماهر فرغلي كاتب مصري

مقالات7-9-2024 | 00:46

ماهر فرغلي

نشأت دار الهلال في عام 1892، على يد «جورجي زيدان»، وساهمت بمطبوعاتها العديدة في صياغة فكر وثقافة ووجدان أجيال كثيرة، حيث تخصصت في الجانب الفكري والأدبي والفني، وأصدرت أول وأقدم مجلة ثقافية في العالم كله وهي ‹مجلة الهلال› سنة 1892، وحرصت على أن تكون نافذة واسعة للقراء المصريين والعرب على أحدث إنتاج فكري وثقافي في العالم كله بإصداراتها العديدة المترجمة لأبرز المؤلفات العالمية.

كانت الميزة الكبيرة للهلال أنها كان يكتب بها نخبة مميزة من أهم رموز الفكر والثقافة في عالمنا العربي، ابتداء من المؤسس لها "جرجي زيدان"، و'إميل وشكري'، ثم طه حسين، عباس محمود لعقاد، محمد حسين هيكل، المازني، سلامة موسى، حافظ إبراهيم، أحمد شوقي، ميخائيل نعيمة، جبران خليل جبران، حسين مؤنس، لطيفة الزيات، أمينة السعيد، مي زيادة، يوسف السباعي، أحمد بهاء الدين، فكري أباظة، مكرم محمد أحمد، ورجاء النقاش.

ولم تكن النخبة السابقة وحدها هي من تكتب في الهلال، بل حرصت على ألا يكون هناك انقطاع جيلي، بل جيل يسلم جيل، وكانت المجلة ملعبا كبيرا يتبارى فيه الأدباء والشعراء والمثقفون، وكل المدارس الفكرية في كل جوانب الحياة، لأنها جاءت لتغطي الثقافة بكل تنوعاتها في التاريخ والفلسفة والعلوم والاجتماع والسياسة والاقتصاد والفن والفلسفة.

ووفق ما ورد في موسوعة "وكيبيديا" فإن مجلة 'الهلال كان لها أثر كبير في الحياة الأدبية والفكرية، حيث تناولت العديد من الموضوعات الحيوية في مصر فاعتبرت بأنها بيت الثورات المصرية، وديوان الصحافة العربية، والداعي الأول الى مشروع إنشاء الجامعة المصرية، وصدر عنها عدد كبير من الإصدارات؛ منها: مجلة المصور، التي بدأت عام 1924، ومجلة الكواكب، التي بدأت في عام 1949، ومجلة حواء التي بدأت في عام 1955، وطبيبك الخاص، وسلسلة كتاب الهلال، وسلسلة كتاب الهلال الطبي، وسلسلة روايات الهلال، ومجموعة كبيرة من إصدارات الأطفال، وفي عام 1894 أصدر جرجي زيدان سلسلة روايات الهلال وكانت عبارة عن أعمال مترجمة، كان الهدف من إنشائها منافسة الروايات الأخرى التي لا تتفق مع عادات وتقاليد أهل البلاد ومحاربة غلاء أثمانها.

من هنا فإن كل الجهود السابقة من الهلال ومؤسسها ومن كتبوا فيها تعتبر من أهم وسائل التنوير والثقافة، التي ساهمت في مجابهة التطرف، والحد من التزام المواطنين بمعتقدات متطرفة، وتغييرها عن طريق الثقافة حتى تتفق مع القيم السائدة؛ لأن هذه العملية تمت بواسطة كل الأفكار المتنوعة التي كانت تطرحها، فدائما التطرف مدفوع بالفكر، الذي يكون أحيانا سابقا له أو تابعا له، ومكافحة التطرف والإرهاب؛ تستهدف مجتمعاً بالحيلولة بين شبابه وبين تبني أفكار متطرفة، أو أن يكونوا هدفًا لمحاولات إرهابيين تجنيدهم، ويكون هذا من خلال استهداف كل المجتمع في برامج ثقافية متنوعة كما كان يحصل على صفحات الهلال العريقة.

لقد كانت الهلال بما تنشره تستهدف بطريقة عارضة مباشرة أو غير مباشرة أعضاء أي جماعة إرهابية يفكرون في مغادرتها، أو الذين غادروها طواعيةً أو رغماً عنهم، بهدف تقليل احتمال معاودة الانضمام لها، كما كانت تستهدف ولا زالت أشكال من المتطرفين، وهم: الباحثون عن انتقام ممن يرونه سبباً لإحباط أو ظلم، والباحثون عن تقدير آخرين، والباحثون عن تعريف هوياتهم من خلال الانتماء لجماعة، والباحثون عن شعورٍ بالمجد يتصورون الحصول عليه بالانتماء لتنظيم إرهابي، وعلاج الصنوف كلها بتسهيل تغيير إدراك هذه الجماعات والتعلق بها عن طريق الثقافة، التي من أهم خصائصها الاكتشاف المبكر للكراهية والتطرف عن طريق معرفة الدوافع الجاذبة له، ودوافع القبول بالجماعات والتنظيمات المتطرفة.

ولمعرفة أهمية مجلة الهلال، فإنه عمليات المواجهة مع التطرف تجيب دائما عن أسئلة حول الظروف المؤاتية التي يمكن أن تصنع التطرف، وما هي الخلفيات الفردية للعناصر المتطرفة؟ وهل لدى المتطرف تماثل مع المظالم الجماعية؟ وهل لديه تظلّمات مجتمعية؟ كما هل تعرضت الشخصية المتطرفة لتشويه وإساءة في استخدام المعتقدات والأيديولوجيات السياسية؟ وهل يشعر المتطرف بانعدام الفرص الاجتماعية والاقتصادية؟ لكن أجوبة هذه الأسئلة أغلبها يتعلق بالثقافة، التي بدونها لن نصل لا إلى الأسباب أو المسببات لهذه الظاهرة، لأنه من أهم علامات التطرف تغير العلاقة مع أفراد الأسرة؛ والميل إلى العزلة، وإظهار الرفض لقيم والديه ومعارضته للمبادئ الأخلاقية التي يتبنونها، وسرعة الغضب والتوتر، والمكوث منفردًا لفترات طويلة، وتوجيه أسئلة تتعلق بالهوية وعدم الاقتناع بإجابات تقدم له، وقلة الثقافة.

وطالما أن قلة الثقافة هي عامل كبير في الدفع ناحية التطرف فإن التنوير والثقافة في المقابل هي العنصر الأكبر والمهم في المكافحة، لأنها الوحيدة التي تستطيع استهداف مجتمع بالحيلولة بين شبابه وبين تبني أفكار متطرفة أو أن يكونوا هدفًا لمحاولات إرهابيين تجنيدهم، ويكون هذا من خلال استهدافها كل المجتمع في برامج ثقافية، عبر مجموعة سياسات وتدابير، يتم التغيير من خلالها وللوصول إلى عملية الاجتثاث للتطرف إما معرفياً، أي المكون المعرفي للأيديولوجية، وإما تغييراً سلوكياً، بالتخلي عن العنف والاحتفاظ بالتطرف، وإما كليهما معاً.

وتظهر قوة الثقافة في قدرتها وتأثيرها على الرأي العام والقرارات السياسية وحل مشكلات المجتمع، لأن المواطن يصبح أكثر تفاعلا مع ثقافته، وهي تدفعه ناحية ما يسمى الوعي والإحاطة، التي تكون مزيجا مما يتلقاه من علوم ومعارف، وتساعده على فهم المحيط والواقع.

وبالنظر إلى أزمة التطرف والإرهاب، فإنه يمكن للثقافة التقليل من آثار الأزمة عن طريق خلق جوٍّ علمي وعقلاني، أو من خلال التوسّط بين عوامل الأزمة والجماعات ذات الصلة والمصلحة للحدّ من الصراعات السياسيّة، إضافةً إلى فاعليّتها وتأثيرها في المواطنين وإشراكهم في إدارة الأزمة السياسيّة، وهذا دور كبير جدا للثقافة ووسائلها، فهناك في إدارة الأزمات، نوعٌ من التدبير الاستراتيجي يتم فيه تحليل البيئتين الداخليّة والخارجيّة لأيّة أزمةٍ ما، ومن ثمّ وضع استراتيجيّات تساعد النُخب على الوصول إلى الأهداف المحدّدة والإدارة المناسبة للأزمة، وهذا من دون الثقافة لا يجدي.

وفي هذا الصدد نجد أن بعض الدراسات تشير إلى أن الثقافة تعد واحدة من أهم مصادر معرفة أنماط السلوك والوعي الاجتماعي، كما أنها تلعب دورا كبيرا في تشكيل الوعي الاجتماعي لدى الشباب، ومن هنا نعتقد أن مجلة الهلال كواحدة من أهم المجلات الثقافية ليس في الشرق الأوسط بل في العالم، فمنذ نشأتها لعبت دورا كبيراً في الحد من ظاهرة الغلو والتطرف والإرهاب، على اعتبار أنهم مثل المتواليات، كل منهم متعلق بالآخر، فالغلو سابق اللتطرف، والتطرف مرحلة سابقة للإرهاب، والثقافة وحدها هي من يمكنها أن تدرك نوع الأزمات وكيف يتم اجتنابها في مهدها.

على هذا كانت الهلال العريقة هي من أهم العناصر والوسائل التي لعبت على المكون الثقافي للمجتمع ولعبت أكثر من قرن على استراتيجية المجابهة عبر التنوير والثقافة بكل مكوناتها المعرفية، لأنه وفق مختصين فإن الأسباب في التحول إلى التطرف العنيف هو واحد من ثلاثة مسببات، هي السياسة، أو المرض النفسي، أو الأفكار وقلة الثقافة، ولكي يتم تقليل فرص تجنيد ودعم وتسهيل التورط في الإرهاب المدفوع أيديولوجياً، لا بد من برامج متنوعة تستند إلى خطط تتعلق بالمعالجة والتفكيك والوقاية للمجتمع، التي تلعب فيها الثقافة الدور الأعظم.