الجمعة 17 مايو 2024

رحلة التكفير الإخوانية بين سيد قطب وتلميذه شكرى مصطفى

1-3-2017 | 11:38

بقلم –  ثروت الخرباوى

فى شهر مارس من عام ١٩٧٨ تم تنفيذ حكم الإعدام فى حق شاب ضل السبيل اسمه شكرى مصطفى، وإذا كان شكرى قد حوكم بتهمة قتل وزير الأوقاف وقتها الشيخ الذهبى، إلا أنه لم يحاكم إلى الآن عن أفكاره التكفيرية، وقد كان الظن أن من سيحاكمه فكريًا هى الجماعات التى زعمت أنها وسطية ومعتدلة، وفى مقدمتها جماعة الإخوان، إلا أنها لم تفعل لأن شكرى هو ابنها ونتاج أفكارها، فمن هو شكرى مصطفى التكفيرى وما هى صلته بالإخوان؟

فى سجون عبدالناصر كان هناك شاب صغير، أبيض الوجه أسود الشعر له نظرة عميقة متفرسة، ووجه غاضب جاد، هذا الشاب هو شكرى مصطفى الذى سيصبح ذات يوم علمًا من أعلام التكفير والعنف والإرهاب فى القرن العشرين، تعوَّد هذا الشاب على أن يفرق شعر رأسه من المنتصف؛ اقتداءً منه برسول الله، صلى الله عليه وسلم، كان هذا الشاب الصغير قد سيق به إلى السجن فى قضية تنظيم سيد قطب عام ١٩٦٥، إذ كان من المحبين له والمتلقين منه، دخل هذا الشاب إلى جماعة الإخوان وهو فى بلده أسيوط، فقد كان دائم التردد على إحدى المكتبات العامة، وأثناء تردده عليها ليقرأ الكتب التى تشبع نهمه تعرف على أمين المكتبة ويدعى محمد منيب، وتصادف أن كان محمد منيب هذا من شباب الإخوان فأخذ يدعوه برفق إلى فكر جماعة الإخوان إلى أن أفلح فى تجنيده وإدخاله التنظيم الذى كان قد تعرض لضربات أمنية من النظام الناصري، كانت حياة هذا الشاب الوافد حديثًا على الإخوان شديدة القسوة عانى فيها من شظف العيش وقسوة الوالد الذى كان قد طلق زوجته ـ أم الشاب ـ فعاش شكرى فى كنف زوجة الأب ولم يلق إلا كل إهمال وتوبيخ وضرب وركل إن صدرت منه هفوة، فهرب هذا الشاب من ضيق الحياة وعنتها مع والده فى أسيوط وجاء إلى القاهرة كاسف البال مهدود الوجدان، يحمل «بقجة» ملابسه وبعض كراسات دوَّن فيها أفكاره وأشعاره، وكان من التصاريف أن كانت الفترة التى جاء فيها للقاهرة هى تلك الفترة التى أعقبت الإفراج عن سيد قطب من سجنه قبل منتصف الستينيات فأتيحت له الفرصة أن يتردد بضع مرات على الرجل الذى اعتبره قِبلته بل قِبلة الإسلام كلها، كان زوار سيد قطب فى فيلته بضاحية حلوان فى هذه الآونة يجدون هذا الشاب جالسًا تحت قدم سيد قطب مثل طلبة العلم فى القرون الأولى، يحمل ورقة وقلمًا، يدون فيها كل شاردة وواردة من أقوال قطب ولفتاته.

وفى شقة صغيرة بمنطقة زراعية فى عزبة النخل استقر المقام بـصاحبنا شكرى مصطفى وكان قد تعرف على الشيخ الأزهرى على إسماعيل شقيق الشيخ عبدالفتاح إسماعيل «وقد أعدم هذا الأخير مع سيد قطب» كان صاحبنا شكرى يجلس مع الشيخ على إسماعيل ليفهم منه كتاب «معالم فى الطريق» لسيد قطب الذى كان وقتها كراسة لم تتح لها الظروف لرؤية المطبعة ومن ثم الخروج منها، ومن كراسة معالم فى الطريق التى استمدها قطب من كتابات أبو الأعلى المودودى فهم شكرى مصطفى المعصية فهما قطبيًا متعسفًا، كانت فكرة المعصية هى التى تستحوذ على تفكير هذا الشاب، المعصية هى التى أخرجت آدم من الجنة، أيترتب على المعصية خروج المسلم من الدين؟ لماذا قال الله سبحانه وتعالى فى سورة النساء «ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارًا خالدًا فيها وله عذاب مهين» هذا هو قول الله، يترتب على المعصية الخلود فى النار، ولا يخلد فى النار إلا الكافرين، إذن المعصية تـُخرج المسلم من الإسلام، ولكن هل من نطلق عليهم (المسلمون) هم فعلا يؤمنون بالإسلام؟ إذا كانوا كذلك فلماذا يتحاكمون إلى الطاغوت ولا يتحاكمون لله رب العالمين ألا يعرفون قوله «إن الحكم إلا لله» كانت هذه هى الأفكار التى يعيش بها وفيها صاحبنا الذى تأثر أيما تأثر بأستاذه سيد قطب، وكانت هذه هى الأسئلة التى ظل يبحث عن إجابتها عند سيد قطب، ومع ذلك فإن فكر سيد قطب وحده لم يشف غليل صاحبنا فأخذ يتردد على الكاتب محمد قطب شقيق سيد قطب، ومن خلاله استوت الأفكار واتضحت الرؤية، مرتكب الكبيرة الذى لم يتب كافر وسيكون مخلدا فى النار، ولكن ما حال القرون الأولى التى جاءت بعد فترة الخلافة؟ وما مصير تلك الأمم التى ضلت السبيل بعد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لاشك أن من خطل الرأى أن نعتبرهم مسلمين، فالإسلام ليس كلمة تقال، ولكنه قول باللسان وتصديق بالجَنان وعمل بالأركان، والعمل لا يجب أن تكون فيه معصية وإلا لكانت هذه المعصية قد هدمت «تصديق الجَنان» ظلت هذه الأسئلة تلح على صاحبنا شكرى مصطفى وتقض مضجعه، ومن أجلها استطاع التسلل إلى فيلا سيد قطب عدة مرات يسأله ويأخذ منه.

وفى هذا الجو المشحون بالريبة والترقب وثق سيد قطب فى هذا الشاب، وفى ذات الوقت نشأت صلة طيبة بين شكرى والحاجة زينب الغزالى التى كانت تلقب بـ»سفيرة سيد قطب»، وحين تم كشف تنظيم قطب سنة ١٩٦٥ الذى كان يستهدف اغتيال جمال عبدالناصر باعتباره رأس الجاهلية فى القرن العشرين وفقا لفقه سيد قطب بدأت عمليات القبض على أفراد التنظيم، فكان أن فر هذا الشاب هاربًا، حيث اختبأ فى ضاحية من ضواحى القاهرة عند بعض معارفه من الإخوان المسلمين، وفى هذه الفترة كتب صاحبنا بعض أشعار عبَّر فيها عن مشاعره وهو بعيد عن أهله تتنازعه الأهواء، فتارة يحتويه شعور الغربة والضعف والهوان، وتارة أخرى يقبض الإيمان على قلبه فيشعر وكأنه يمتلك الدنيا وما فيها.

ظل هذا الشاب مختبئًا عند رفاق له من الإخوان حتى إذا ضُيق عليه الخناق استقر به المقام فى مسجد منعزل، حيث حلق لحيته وقص شعره وأقام فى المسجد كمقيم للشعائر ومؤذن للصلاة، إلا أن أحدهم شك فيه فأبلغ عنه فتم القبض عليه وأودع فى السجن الحربى مع المجموعة التى تم القبض عليها، ثم انتقل بعد ذلك إلى عدة سجون منها أبو زعبل وطرة.

وداخل عنابر سجن طرة عام ١٩٦٦ جلس صاحبنا شكرى مصطفى يستمع إلى الشيخ الأزهرى على إسماعيل وهو يشرح الآية الكريمة من سورة الجن «ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدًا» كان درس الشيخ على إسماعيل مؤثرًا بليغًا، بعدها انكب الشاب على دراسة فقه المعصية، استهوته أفكار الخوارج، فقد كانت الآيات التى قرأ تفسير الخوارج لها تدل على أن مرتكب المعصية الذى لا يتوب سيخلد فى النار أبدًا، وها هى إحدى الآيات التى تتحدث عن الربا، أخذ الشاب يقرأ الآية على مهل «الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذى يتخبطه الشيطان من المس» أخذ الشاب يسترسل فى القراءة إلى أن وصل إلى قوله «ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون»، الفكرة الآن فى طريقها للاستواء فى ذهن الشاب الغامض، وقد استمدها من تفسير قطب الذى كتبه فى «الظلال» المسلم إذا أقرض مسلمًا بالربا فإنه سيخلد فى النار، إذن المعصية تؤدى إلى الخلود فى النار!! وليس الكفر فقط، يقرأ الشاب شكرى مصطفى قول الله «تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجرى من تحتها الأنهار» حسنُ ُ حسن، من يلتزم بحدود الله سيدخل جنات الله، إذن ما هو موقف من يعص الله ورسوله؟ الآية تقول «يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين»، وحتى يستقيم الأمر فى ذهن الشاب الغامض أخذ يقرأ التفاسير المشهورة فلم يقتنع بما ورد فيها من أن الخلود فى النار هنا إنما يكون لمن عصى الله معصية كفر، أى إنما يكون لمن أنكر آيات الله كفرا بها وكفرا بالله، فالمسلم لا يخلد فى النار من معصية، لم يلق الشاب بالا لكل كتب التفاسير التى تفرق بين المعصية الكفرية والمعصية التى قع فيها الكل، معصية المسلم العادى الذى يقترف الكبائر والصغائر، ثم يقترب من الله بالعبادات والطاعات، كل الكتب تفرق بين الكافر والمسلم ولكن سيد قطب وضع الجميع فى جراب واحد وقد أسعد هذا التفسير خاطر الشاب شكري، ولا شك أن نفسيته الغاضبة الناقمة على مجتمعه هى التى قادته للتأثر بقطب الذى كان بدوره ساخطا غاضبا على مجتمعه يبحث لنفسه عن ريادة وقيادة، ولكن ليس ما يتمناه قطب يدركه.

عاد الشاب شكرى مصطفى إلى «كراسات» تسربت إليه فى السجن تحتوى على تفسير أستاذه سيد قطب لكثير من سور وآيات القرآن الكريم، اقتطعها بعضهم من كتاب «فى ظلال القرآن» ومن كتب أخرى متفرقة، نظر صاحبنا على وجه الخصوص إلى تفسير قطب فى شأن آيات المواريث، فوجد أنه يُكفـِّر المسلم الذى يرتكب إحدى الكبائر، انتقل الشاب بعدها إلى تفسير آية «إن الحكم إلا لله» فقرأ قول سيد قطب «ويدخل فى إطار المجتمع الجاهلى (الكافر) تلك المجتمعات التى تزعم لنفسها أنها مسلمة لا لأنها تعتقد بألوهية أحد غير الله ولا لأنها تقدم الشعائر التعبدية لغير الله، ولكنها تدخل فى هذا الإطار لأنها لا تدين بالعبودية لله وحده فى نظام حياتها» ابتسم صاحبنا شكرى وهو يقول لأحد أصحابه فى الزنزانة: هاهو المعنى واضح، كلمات سيد قطب لا تحتاج إلى تأويل أو تفسير أو إبحار فى علوم اللغة العربية، يكفيك أن تعلم أن المسلم لا يكون مسلما أبدا لمجرد أنه يعتقد بألوهية الله ولا لمجرد أنه يقيم الشعائر التعبدية لله، هذا المسلم هو فى الحقيقة كافر إذا لم يدين بالعبودية لله فى نظام حياته.

يعود صاحبنا شكرى إلى قراءة كلمات سيد قطب فوجده يقول: «لا نجاة للعصبة المسلمة فى كل أرض من أن يقع عليها العذاب إلا بأن تنفصل عقيديًا وشعوريًا ومنهج حياة عن أهل الجاهلية من قومها، حتى يأذن الله لها بقيام دار إسلام تعتصم بها، وإلا أن تشعر شعورًا كاملًا بأنها هى الأمة المسلمة، وأن ما حولها ومن حولها ممن لم يدخلوا فيما دخلت فيه جاهلية وأهل جاهلية» وعلى مهل يكرر صاحبنا لنفسه هذه الكلمات، ننفصل عقيديا وشعوريا عن أهل الجاهلية.. حتى يأذن الله بقيام دار إسلام.. نعتصم بها، هذه إذن دار حرب تلك التى نعيش فيها، دار كفر، متى يأذن الله بقيام دار إسلام فى ذلك العالم الذى يتلاطمه الكفر.

يعود صاحبنا لكراسته فوجد أستاذه وشيخه سيد قطب يقول: «إن هذا المجتمع الجاهلى الذى نعيش فيه ليس هو المجتمع المسلم» تتكرر الكلمات فى ذهن صاحبنا.. ليس هو المجتمع المسلم.. ليس هو المجتمع المسلم، يعود للقراءة من كراسة سيد قطب: «إن المسلمين الآن لا يجاهدون، ذلك أن المسلمين اليوم لا يوجدون، إن قضية وجود الإسلام ووجود المسلمين هى التى تحتاج اليوم إلى علاج» يصرخ ضميره: نعم المسلمون الآن لا يجاهدون، لا لأنهم نكصوا على أعقابهم، ولكن لأنه لا يوجد مسلمون من الأصل، انتهى عصر المسلمين منذ آماد بعيدة، وهاهو الأستاذ سيد قطب يقول لنا «إن قضية وجود الإسلام هى التى تحتاج إلى علاج» عنده حق، هل الإسلام موجود!! إذا كان هناك إسلام فأين هو؟ أين الحكم بما أنزل الله؟ بل أين المسلمون؟ كل الذين يعيشون على البسيطة الآن ويقولون إنهم مسلمون إنما يتحاكمون إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به، لم يستطع عقل شكرى مصطفى وقتها أن يستوعب أن هذه الآيات كانت لها خصوصية، وأنها كانت فى حق اليهود الذين جاءوا للرسول يتحاكمون إليه فى قضية زنا، أرادوا من الرسول أن يحكم لهم ليهربوا من حكم التوراة بالرجم، كا أنه لم يفهم هو وأستاذه قطب أن الحكم هنا هو العدل، أى من لم يحكم بالعدل ابتغاء الحياة الدنيا وكفرا وإعناتا فإنه حكم على نفسه بالظلم والفسوق والكفر، فالله يقول فى كتابه الكريم «لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ» أى أن مقاصد الكتب السماوية هى أن يقوم الناس بالقسط أى أن يتحاكموا فيما بينهم بالعدل.

 يعود صاحبنا شكرى إلى كراسته فيقرأ فيها عبارة اعتبرها جامعة مانعة يقول قطب فيها: «لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء هذا الدين إلى البشرية بـ(لا إله إلا الله)، فقد ارتدّت البشرية إلى عبادة العباد وإلى جور الأديان، ونكصت عن لا إله إلا الله، وأن ظل فريق منه يردد على المآذن لا اله إلا الله، ونحن ندعو إلى استئناف حياة إسلامية فى مجتمع إسلامى تحكمه العقيدة الإسلامية والتصور الإسلامى كما تحكم الشريعة الإسلامية والنظام الإسلامي، ونحن نعلم أن الحياة الإسلامية – على هذا النحو – قد توقفت منذ فترة طويلة فى جميع أنحاء الأرض، وأن وجود الإسلام ذاته من ثم قد توقف كذلك».

طوى صاحبنا الكراسة وقد بلغ تأثره بكلمات سيد قطب مبلغا كبيرا، الإسلام توقف، لا يوجد إسلام، يجب أن نعيد الإسلام إلى الوجود مرة أخرى، وكأن صاحبنا شكرى قال وقتها «وجدتها وجدتها» وأظنه قفز فرحا من مكانه، وبعد أن حفظ ما قاله سيد قطب عن ظهر قلب أغمض عينيه فى هدوء، فقد أخذ الكرى يداعب أجفانه ولم تقو الفرحة على مقاومة النوم، فنام، ولكن مصر فى يوم ما لن تعرف للنوم طريقا، فقد بدأ صاحبنا الشاب الغامض فى طريق كانت بدايته سيد قطب، إلا أن هذا الطريق لن يكون له منتهى، وإلى الآن ونحن نجتر العنف والإرهاب، ونعيش مع أنصار بيت المقدس وحسم وسواعد مصر، والكماليين، وفريق محمد عبدالرحمن المرسي، ومحمود عزت، وجمال حشمت، ومذابح يرتكبونها فى العريش وفى غير العريش، ومحاولات لا تنتهى للإيقاع بين المسلمين والأقباط، وكلهم أبناء الإخوان، وقادته، وتلاميذ سيد قطب ومن ثَمَّ التكفيرى القح شكرى مصطفى.