الجمعة 27 سبتمبر 2024

شخصيات مُبدعة| فان جوخ.. نصير الفقراء

فان جوخ

ثقافة20-9-2024 | 03:37

ياسر علي

مُصوّر هولندي شهير، من مؤسسى المذهب التعبيري في الفن التشكيلي بشكل عام، وفي فن التصوير بصفة خاصة، بدأ التصوير منذ عام 1886م، من خلال مجموعة مناظر مستوحاة من حياة المدينة والطبيعة في باريس، ثم ذهب إلى مدينة أرلز في الجنوب حيث ابتكر أسلوبه الخاص، تأثر كثيرا بالفن الياباني، وتحدث كثيراً عن أمله في الوصول إلى تلك اللمسات البسيطة الدقيقة الواثقة بالفرشاة التي يتمتع بها الفنان الياباني، عبّر في أعماله الفنية عن هواجس النفس البشرية، وكانت معاناة البسطاء والمُهمشين محور أعماله. إنه الفنان التشكيلي الهولندي الشهير فان جوخ، والمولود يوم 30 مارس 1853م.

عاش فان جوخ، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وكان منسيًا في حياته يعاني من شدة الفقر والمرض وعدم التقدير لأعماله حتى أنه لم يُكتَب عنه إلا مقالة واحدة قبل وفاته بأشهر قليلة في مجلة الميركيودي فرانس، بعنوان "المنسيون"، كتبها الناقد الفرنسي البير أوريه، وجاء فيها: "إن ما يميز لوحات، فان چوخ، تلك الشحنة البالغة والعنف في التعبير، إنه يُصوّر تصويرًا تسجيليًا حاسمًا الخصائص الأساسية للأشياء، ويبسط الأشكال في جرأة عن طريق ألوانه وخطوطه المتأججة بالعاطفة، وإصراره العنيد على الوقوف في وجه الشمس والتحديق إلى قرصها الباهر فتتجلى قوته كفنان وفي بعض الأحيان يبدو إنسانا رقيقًا، إلى أقصى حدود الرقة".
الدكتور بهاء الدين يوسف غراب، الأستاذ بكلية التربية الفنية جامعة حلوان، وصفه في مقاله المنشور بمجلة إبداع، تحت عنوان "فان جوخ من عالم الواقع إلى ما وراءه"، بأنه كان فنانًا صادقًا وجريء في التعبير عن انفعالاته، متجدد الإنتاج، جياش المشاعر، وكان للعاطفة دور أساسي في أعماله، فضربات فرشاته تُعبر عن تمرد وقوة جامحة عاش حياته متنقلا بين لاهای ولندن، إلى أن استقر في باريس التي درس فيها أعمال الفنانين الكبار. 
كانت لوحة أكلو البطاطس من أولى أعماله الفنية في هولندا سنة 1885م، والتي قال "غراب"، أن فان جوخ عبّر خلالها عن عدائه الشديد وموقفه المُتشائم تجاه التطور، لإيمانه بمجتمع متحرر من كل سيطرة يمتدح فيه عالم الحرفيين والعمال اليدويين، لذلك عُرف برسام الفلاحين رُغم أمه لم يرسمهم من أجل التعبير عن الشكل الظاهري؛ وإنما من أجل الجوهر، وهو التضامن مع هؤلاء الفقراء الذين يكسبون قوت يومهم بعد إرهاق شديد. لذا خيّم على لوحة "أكلو البطاطس" إظلام داخلي إلا من ضوء المصباح الأصفر الذي جاء ليؤكد حالة البؤس التي يعيشها شخوص اللوحة، حيث نجح الفنان في التعبير عن حياة البؤس والشقاء التي يعيشها الفلاحون البسطاء باستخدام الألوان البنية والخضراء المعتمة والأصفر المائل للحمرة القائمة مما يحقق البعد النفسي الإنساني.
أما الكاتب والناقد سعد عبدالعزيز، فيرى أن فان جوخ، كان من أشد الناس حساسية وأقلهم قدرة على تحمل الاذى، وكان ذا ذكاء ثاقب غير أن العاطفة هي التي كانت تسيطر على حياته وبخاصة عاطفة الحب للإنسانية والعطف الشديد على البؤساء الكادحين، وقد استطاع في نهاية الأمر أن يُعبّر عن هذا الحب المتأجج الدافق في صورة رائعة من صور الفن التعبيري.
عبّر "عبدالعززي"، في مقاله المنشور بمجلة الثقافة عام 1963، تحت عنوان "معنى التعبير في فن فان جوخ"، عن مدى شاعرية فان جوخ وتأثره بمجتمعه، مؤكدًا على ما قاله الدكتور "بهاء غراب"، وخاصة فيما يتعلق بعمال المناجم والفلاحين، قائلًا: في إحدى مراحل فان جوخ الفنية نراه ينهمك في رسم الفلاحين الهولانديين وعمال المناجم البؤساء الذين كانت صورهم قد نقشت نقشًا في مخيلته، حيث رسم فان جوخ عام 1885م، لوحة من أروع لوحاته عنوانها "آكلو البطاطس"، وهي لوحة قاتمة مقبضة تنطوى على قوة باطنة وعطف إنساني عمیق ولعل خير وصف لها ما قاله "فان جوخ" في رسالة إلى أخيه: ما زلت أعمل في لوحة أولئك الفلاحين الملتفين في المساء حول طبق البطاطس وعملي هذا هو بمثابة صراع متصل، فقد حاولت أن أوضح كيف أن هؤلاء الذين يأكلون البطاطس تحت ضوء المصباح قد حفروا الأرض بهذه الأيدي ذاتها التي يتناولون بها طعامهم".
أمّا الدكتور شاكر عبدالحميد أستاذ علم الجمال بأكاديمية الفنون ووزير الثقافة الأسبق، قال في مقاله المنشور بعدد أكتوبر 2019، بمجلة الجسرة الثقافية، تحت عنوان "الصمت والإرجاء: بين فان جوخ وشكسبير"، إن فان جوخ تأثر كثيرًا بالحياة في لندن، سواء على المستوى المعيشي والاجتماعي أو على المستوى الثقافي والفني، كما تأثر بالكاتب الإنجليزي الأشهر "وليم شكسبير". 
وأضاف "عبدالحميد": "كان فان جوخ يذهب كثيرًا لزيارة الأكاديمية الملكية البريطانية، حيث كان يرى أعمال فنانين أمثال جون كونستابل ومُصوّرين ينتمون إلى المدرسة المُسماة ما قبل الرفائيلية"، وهي رابطة تشكّلت من الرسامين والشعراء البريطانيين الشباب عام 1848م، كاحتجاج على المستوى المُتدني للفن الإنجليزي.
وأشار وزير الثقافة الأسبق إلى أن فان جوخ عاش في إنجلترا ثلاث سنوات، ولا بد من أنه قد اطلع خلالها على ثقافتها وعلى مختارات من الأدب الانجليزي، مثلما اطلع على فنون تلك البلاد، قائلًا: "هكذا تزخر خطاباته - أيضًا - بالإشادة بشكسبير وأعماله، ومن ذلك تمثيلاً لا حصرًا، مما قاله عنه في سبتمبر 1880م: "لقد تطلعت إلى دراسة هذا الكاتب منذ وقت طويل، إنه في مثل جمال رمبرانت". وكذلك ما قاله في خطاب آخر بعد سنة هو يقول: "إن الصراع مع الطبيعة يشبه إلى حد ما، ما يسميه شكسبير ترويض النمرة أي ضرورة القيام بغزو الفن أو التغلب على صعوباته من خلال المثابرة والإرادة الصلبة وهذا ينطبق على أشياء كثيرة، ولكن بشكل خاص أكثر في الرسم، فإن الانغمار بعمق في شيء ما، أفضل من تركه يمر هكذا، سدى أو هباء".