اهتم الألمان بمصر منذ مطلع القرن التاسع عشر، مصاحباً لنهضة مملكة بروسيا في أعقاب الحروب النابليونية، بعد أن أصبحت هذه المملكة كبرى الممالك الألمانية، وأقواها اقتصاديًا وعسكريًا. حيث تزامنت النهضة في بروسيا تقريباً مع نهضة مصر في عصر محمد علي، بل وتشابهت معها في كثير من الأوجه.
ويستعرض د.وجيه عبد الصادق عتيق، أستاذ التاريخ المعاصر بكلية الأداب، جامعة القاهرة في إصداره الثاني من سلسلة "مصر في عيون الألمان" الصادر مؤخرًا عن دار سنابل للنشر والتوزيع رؤية الرحالة الألمان ممن زاروا مصر في عصر خلفاء محمد علي، وعلى التحديد عباس حلمى باشا الأول، والخديوى إسماعيل، ويعرض لدراسة مذكرات وتقارير هؤلاء الرحالة بهدف إلقاء مزيد من الأضواء على الأوضاع العامة بمصر في عصر خلفاء محمد علي، في ضوء ما شاهده هؤلاء الرحالة خلال فترات إقامتهم بها، والتعرف على رأيهم فيما كانت تمر به مصر من أحداث وتطورات.
ويوضح أستاذ التاريخ المعاصر أنه قد وصل لمصر في فترات متفرقة من هذا العصر ثلاث من الرحالة الألمان، تجولوا في أنحائها، ودوّنوا مذكرات وتقارير مطولة عن انطباعاتهم ومشاهداتهم آنذاك لمختلف أوجه الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في مصر، في الربع الثالث من القرن التاسع عشر تقريباً.
يقول أستاذ التاريخ المعاصر: "كان من النتائج الجانبية لهذه النهضة في بروسيا أن أقدم عدد من الرحالة البروسيين وغيرهم من الألمان على القيام برحلات علمية واستكشافية في الأصقاع البعيدة عن بلدهم، ومنها مصر، في حين كان من بين نتائج أفول النهضة في مصر منذ عام 1841 أن تكالب عليها الأوربيون لمأرب شتى، كان من بينها سرقة آثار الحضارة المصرية القديمة".
ويتابع: "جاء الألمان إلى مصر فى عهد خلفاء محمد على الرحالة الثلاثة الآتية أسماؤهم: الدوق فيلهلم فون شليفين، الذى زار مصر عدة مرات كان أولها في 24 فبراير من عام 1851 ، ثم جاء الرحالة هاينريش بروجش الذي زار مصر عدة مرات أيضاً كان أولها في 14 يناير 1853 ثم جاء ولى عهد مملكة بروسيا فريدريش فيلهلم، والذي وصل إلى بورسعيد في 16 نوفمبر 1869 للمشاركة في افتتاح قناة السويس، وقام بعد افتتاح القناة برحلة نيلية نادرة، زار خلالها كثيراً من البلدان المصرية والمواقع الآثارية في الجنوب والشمال، وتجول في عدد من أحياء مدينة القاهرة".
وتناولت الدراسة ما جاء من مذكرات رحلات الدوق فيلهلم فون شليفين في مصر، يقول أستاذ التاريخ المعاصر: "زار هذا الدوق البروسى فيلهلم فون شليفين مصر في رحلات ثلاث بصحبة والدته الأميرة صوفي Sophie وحاشية من المرافقين والمساعدين لهما من الألمان".
ويتابع: "طغى الطابع الأثرى على يوميات الدوق فيلهلم فون شليفين خلال هذه الفترة الثانية من رحلته الثانية، وانعدمت تقريباً ملاحظاته الإجتماعية والسياسية والاقتصادية، ولم تعثر بين أسطر يومياته فى المرحلتين الأولى والثانية من رحلته الثانية، ما كنا نرجوه من مدونات حول مشاهدات وانطباعات عن مختلف جوانب الحياة في مصر والنوبة أو حتى السودان. الأمر الذي يدعونا هنا للقول إن يوميات رحلته الثانية بصفة خاصة لها عظيم الفائدة للدراسات الأثرية، وفي مقدمتها دراسات الحضارة المصرية في أسوان والنوبة، أو دراسات البيئة في ضوء كتاباته، وإن كانت محدودة عن الغابات والأحراش والطيور والحيوانات النادرة في أثناء رحلته إلى السودان، في حين تكاد تنعدم منها الفائدة لدراستنا الحالية عن رؤية هذا الرحالة للمجتمع المصرى فى تلك الفترة من القرن التاسع عشر".
ويؤكد د.وجيه عبد الصادق أن الدوق فيلهلم فون شليفين أولى في يومياته خلال رحلته للسودان اهتماماً بالغاً بتسجيل ملاحظاته عن الطيور والحيوانات البرية في غابات السودان، التي كان يراها لأول مرة في حياته، وعبر في فقرات عديدة عن شديد إعجابه بالحياة البرية في هذه الغابات، حتى إنه رسم بقلمه الرصاص لوحات عديدة لتلك الطيور والحيونات ونعتقد أنه لهذا السبب انعدمت تقريباً هنا أيضاً كتابات وملاحظات الدوق فون شليفين عن الحياة الاجتماعية والاقتصادية للسكان المحليين في جنوب مصر والسودان، وكان الدوق في غاية السعادة لنجاحه خلال رحلته الثانية في جلب بعض من هذه الطيور وحيوانات الغابات السودانية داخل أقفاص مختلفة الأحجام، وفي مقدمتها قفصان، واحد لاثنين من أشبال الأسود، والآخر لاثنين من صغار النمور. وأصبح ما بداخل هذه الأقفاص من طيور وصغار الحيوانات البرية محل رعاية الدوق طوال رحلة عودته، ومن معه من السودان ومصر، وحتى وصوله إلى مدينته وقصره في شليفينبيرج في بروسيا. وكان الدوق يأمل أن يزين قصره بهذه الطيور والحيوانات الاستوائية، وهو الأمر الذي نجح فيه أيضاً. وفيما يتعلق بيوميات الجزء الثانى من رحلة الدوق فون شليفين الثانية في مصر حتى وصوله إلى وطنه، لم نعثر على أى من هذه اليوميات، وخاصة يوميات عودته من السودان وحتى وصوله إلى مدينة أسوان في 6 مايو 1853. وربما أن هذه اليوميات فقدت أو تلفت، كما سبقت الإشارة، خلال فترة حفظها لدى ورثته في قصره بمدينة شليفينبيرج.
كما يشير أستاذ التاريخ المعاصر إلى رحلة الرحالة الألماني هاينريش بروجش ثاني عالم بروسي متخصص في تاريخ الحضارة المصرية القديمة، بعد ليبسيوس، يتم ابتعاثه بصفة رسمية من جانب حكومة مملكة بروسيا إلى أرض وادى النيل في يناير 1853 وطبقا لخطاب التكليف الصادر إلى بروجش من حكومة بروسيا، كان عليه أن ينفذ عدة مهام في مصر. وجاء في مقدمة هذه المهام الاطلاع على أحدث اكتشافات عالم الآثار الفرنسي مارييت في مصر، بعد تلك الضجة الصحفية الواسعة، التي عمت أوربا أنذاك، في أعقاب النجاح الذي حققه هذا العالم الفرنسي نتيجة الحفرياته ومكتشفاته في منطقة مقابر سقارة.
وكان على بروجش أن يحاول أيضاً العمل بجانب مارييت فترة من الوقت، بهدف التجسس عليه، والتعرف منه على طريقة عمله في الحفريات، واكتساب الخبرة منه في البحث عن الآثار في المعابد والمقابر المصرية القديمة.
ويوضح أن مهمة بروجش أيضاً تضمنت استكمال الدراسات التي أجرتها بعثة ليبسيوس في مصر في خلال الفترة من 1842 وحتى 1845 ، وعلى أقل تقدير استكمال بعض نواقص هذه الدراسات وكان من بين تلك المهام أيضاً جلب أكبر كمية من الآثار المصرية القديمة والمخطوطات البردية إلى القسم المصرى بالمتحف الملكي في برلين (37) وفي تقديرنا أن هذا التكليف الأخير، والخاص بجلب الآثار المصرية القديمة إلى المتحف الملكي في برلين، كان هو الغرض الأهم من وراء تلك المهمة المكلف بها بروجش.
يقول د.وجيه عبد الصادق: "أما عن نشاطه الأثرى فى القاهرة هذه المرة، فعلى الرغم من أنه يقع في دائرة اختصاص الأثريين والمهتمين بالحضارة الفرعونية، فقد لفت نظرنا حديثه عن محاولات الكشف عن خبيئة ثمينة ترقد تحت جسم تمثال أبوالهول أمام أهرامات الجيزة. ومن قبل حاول الوصول إلى هذه الخبيئة دون جدوى ثلاثة من علماء الحضارة المصرية القديمة من الأوربيين خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر. وتتبع بروجش جذور قصة هذه الخبينة إلى ما ألمح إليه هيرودوت في كتاباته، ثم جاء الإيطالي كافجليا Caviglia إلى مصر عام 1817 ونزح كثيرا من الرمال من حول جسم أبو الهول دون أن يحالفه الحظ، ولم يعثر أنذاك سوى على معبد صغير امام صدر 1 أبو الهول، وعليه نصوص هيروغليفية لحوار بين أبو الهول والملك تحتمس الربع الرمزية استشف منه كافجليا هذا أنه يتعلق بتلك الخبينة. ولما يئس كافجليا من الوصل إليها، ترك بين أوراقه خريطة لمن يأتى من بعده، قيل إنها توضح الطريق إلى هذه الخبيئة ألوان تحت جسم أبو الهول. ثم جاء العالم الألماني ليبسيوس إلى مصر عام 1842 وحاول الوصول إلى هذه الخبيئة، واستأجر عمالاً، قاموا برفع كم هائل من الرمال من حول جسم أبو الهول، لكنه أيضاً لم يصل إليها بعد أن أنفق كثيرا من الأموال في تحرير جسم أبو الهول من كم هائل من الرمال".
وتذكر الدراسة حول رحلة ولي عهد مملكة بروسيا لمصر بمناسبة افتتاح قناة السويس عام 1869 أنه دون مذكرات دقيقة، شملت رأيه فيما عايشه في أثناء تلك الاحتفالات، وما شاهده من آثار مصرية قديمة، وأنماط الحياة المصرية التي شاهدها خلال رحلته البحرية على صفحة مياه نهر النيل في الذهاب والعودة بين القاهرة وإسوان، ثم رحلته بالقطار من القاهرة إلى الإسكندرية.
يقول أستاذ التاريخ المعاصر: "كان فريدريش فيلهلم دقيقاً عندما كتب عن أوضاع المصريين، وسجل أكثر من مرة أسفه لتدهور أوضاع الفلاح المصرى بصفة خاصة، وما أصاب الآثار المصرية من ضرر وإهمال، كما انتقد سياسة الخديو إسماعيل في أكثر من مناسبة، وحملها تردى الحالة الاقتصادية، التى لمسها خلال رحلته في مصر، لكنه عبر عن سعادته بتلك الرحلة، حتى إنه تمنى العودة لمصر بصحبة أسرته في أقرب فرصة. وفي الحقيقة بعد ولى عهد مملكة بروسيا فريدريش فيلهلم من أهم الرحالة الألمان الذي زاروا مصر في القرن التاسع عشر، وبتكليف رسمى من والده فيلهلم الأول ملك بروسيا. وقد وصل ولى العهد البروسي إلى بورسعيد في 16 نوفمبر 1869 من أجل المشاركة في افتتاح قناة السويس، بناءً على دعوة من الخديوى إسماعيل، كما سبقت الإشارة. وعايش فريدريش فيلهلم كافة تفاصيل احتفالات افتتاح القناة، ودون كل مشاهداته في مذكرات جديرة بتعريف القارئ العربي عليها، خاصة أن رحلة ولى عهد مملكة بروسيا فريدريش فيلهلم هذا لمصر لم تقتصر على حضور احتفلات افتتاح قناة السويس، بل إنه تجول في أنحاء البلدان المصرية، وزار معظم معالمها الأثرية قبل عودته إلى بلاده من الإسكندرية في مساء 8 ديسمبر 1869".
كما يذكر أن ولي العهد عبر في مذكراته عن فخره واعتزازه عندما أطلعه ليبسيوس على المواقع التي أجرى فيها حفرياته، وحقق عدداً من الاكتشافات في منطقة الأهرام، عندما جاء إلى مصر عام 1842. وكان ولى العهد أيضاً مبتهجاً عندما وجد بعض سكان المنطقة المحيطة بالأهرامات مازالوا يعرفون ليبسيوس تمام المعرفة، حيث كان هؤلاء السكان سعداء للغاية لرؤيته هذا العالم البروسى مرة أخرى. وهنا وصف ولى العهد ليبسيوس بأنه محل فخر واعتزاز لنا جميعا نحن البروسيين.
يقول أستاذ التاريخ المعاصر: "سجل ولى العهد البروسي في مذكراته استحسانه لما أمر الخديوى إسماعيل إنجازه منذ فترة وجيزة، وهو تمهيد الطريق الرابط بين قلب القاهرة وأهرامات الجيزة، وبناء عدد من الاستراحات على جانبى هذا الطريق من أجل الزوار الأجانب"، الذين حضروا إلى مصر للمشاركة في افتتاح قناة السويس، والراغبين في مشاهدة منطقة الأهرام. وأضاف ولى العهد علاوة على تمهيد هذا الطريق، وإنشاء استراحات على امتداده حتى داخل منطقة الأهرام، كانت هناك نقاط ثابتة للحراسة، ومعين بها أيضاً عدد من الخدم. وتم أيضاً إنشاء عدد من القناطر الحديثة لمساعدة هؤلاء الزوار على عبور الخلجان، وبرك المياه، والأراضى الزراعية، دون معاناة، وهم في طريقهم إلى هذه الأهرامات".
ويتابع: "بعد منتصف نهار يوم 6 ديسمبر 1869، توجه ولى العهد البروسي بصحبة عالمي الآثار ليبسيوس ودمشين لزيارة متحف الآثار في بولاق الذي توسع فيه وطوره مارييت بناء على أوامر الخديوى إسماعيل، بمناسبة توافد كثيراً من الأجانب على القاهرة، بعد انتهاء حفل افتتاح قناة السويس، وكان مارييت في استقبال فريدريش فيلهلم أيضاً في هذا المتحف، وشرح له تاريخ محتوياته، وأشاد ولى العهد بدقة عرض القطع الفنية الرائعة، التي أنجزها الفنان المصرى القديم، وخاصة قطع الحلى الذهبية وغير الذهبية المعروضة بالمتحف، وعلق عليها ولى العهد بقوله: "من دقة هذه القطع الفنية يتأكد لنا أن المصريين القدماء امتلكوا ناصية الفن من جميع جوانبه، وبرعوا فى صناعة تحف ثمينة وبمهارة ومقدرة لا مثيل لها، وقبل مغرب ذلك اليوم توجه ولى عهد بروسيا إلى جزيرة الزمالك لزيارة ما قال عنه: لقصر الجزيرة قصر عمر الخيام بالزمالك، وهو عبارة عن قطعة فنية معاصرة، أمر الخديوى إسماعيل بتشييده بمناسبة افتتاح قناة السويس، وهو القصر الذي أقامت فيه إمبراطورة فرنسا أوجينى وحاشيتها خلال زيارتها للقاهرة في أعقاب افتتاح القناة". وذكر ولى العهد أن المهندس المعمارى البروسي المعروف" فون ديبيتش Von Diebitsch )، صاحب العلم الغزير في فنون العمارة"، ويتكليف شخصي من الخديوى إسماعيل، هو من وضع لوح الرسومات الهندسية لهذا القصر، كما شارك هذا المهندس قبل وفاته في الإشراف على تنفيذ مراحل متقدمة من هذه الرسومات، إلا أن المنية وافته قبيل افتتاحه بوقت وجيز. وقد أشاد ولى العهد بروعة وفخامة القصر وكذلك بحديقته الغناء الفسيحة، والتي كانت تكثر فيها أشجار الفاكهة المثمرة، وبعض أقفاص الحيونات النادرة".
ويضيف: "في صباح يوم 7 ديسمبر قرر ولى العهد البروسى القيام بجولة في حي مصر القديمة الفسطاط، وما سماه في مذكراته "القاهرة العتيقة Alte - Cairo"، والتي وصفها بقوله: "تقف بعض معالمها شامخة عبر التاريخ، ومنها ذلك المسجد ذو الأعمدة الكثيرة ويقصد هنا مسجد عمرو بن العاص، وإن كان بعض من هذه الأعمده، كما شاهدتها، أيلاً حالياً للسقوط". ولكن عبر ولى العهد البروسي عن ضيقه وعدم رغبته في البقاء طويلاً في هذا الحي يسبب "القذارة المنتشرة في كل شوارعه تقريباً، والروائح الكريهة التي تنبعث منها، وتساءل ولى العهد البروسى متعجباً من ترك حكومة الخديوي إسماعيل لهذا الحي في هذه الحالة المزرية، في الوقت الذي تبذل فيه جهود جبارة في تطوير قلب القاهرة على شاكلة المدن الأوربية".