السبت 5 اكتوبر 2024

محمد نور الدين.. قاهر العطش في ملحمة كبريت

محمد الشافعى

ثقافة5-10-2024 | 14:44

محمد الشافعي

عملت كبوة عدوان الخامس من يونيه 1967 علي تغيير الكثير من المفاهيم والسياسات.. خاصة بعدما أعلن الرئيس جمال عبدالناصر يوم التاسع من يونيه.. تحمله لكامل المسئولية عما حدث خلال هذه الكبوة العنيفة.. ولم يتوقف عبد الناصر عند إعلان تحمله للمسئولية.. ولكنه أعلن تنحيه عن الحكم.. لتخرج ملايين الشعب المصري في كل القري والنجوع والمدن.. تعلن رفضها لقرار التنحي.. ليس حباً في عبدالناصر فقط.. ولكن لكي تحمله مسئولية رفع آثار العدوان.. وجاءت تلبية عبدالناصر لهذا التكليف سريعة وحاسمة..

حيث أصدر يوم الحادي عشر من يونيه عدة قرارات.. تهدف إلي وضع مسئولية القوات المسلحة المصرية في يد أصحاب الكفاءة والوطنية.. فجاء الفريق محمد فوزي قائداً عاماً.. وجاء الفريق عبدالمنعم رياض رئيساً للأركان.. وجاء الفريق مدكور أبو العز قائداً للقوات الجوية.. وهكذا في كل قطاعات الجيش المصري.. وكان معروفاً عن الفريق فوزي صرامته الشديدة في الضبط والربط.. كما كان معروفاً عن الجنرال الذهبي الفريق رياض خبراته الكبيرة في كل العلوم العسكرية.. وخاصة في إعداد الاستراتيجيات والتكتيكات.. وقد بادر الفريق رياض بأن طرح علي الرئيس عبدالناصر حتمية التوسع في تجنيد حملة المؤهلات العليا والمتوسطة.. وذلك لكي يصبح الجندي المصري أكثر قدرة علي استيعاب الأسلحة الحديثة والخطط العسكرية المبتكرة.. وتم الدفع بعشرات الآلاف من خريجي الجامعات والمدارس الفنية إلي صفوف القوات المسلحة.. وكان الشاب محمد نورالدين خريج كلية العلوم قسم الكيمياء عام 1968 أحد هؤلاء الأبطال الذين كان لهم الدور الحاسم في بطولات حربي الاستنزاف وأكتوبر.. وبعد إنهاء دراسته في كلية ضباط الاحتياط.. انضم إلي أول فريق لتصحيح نيران المدفعية.. وكان هذا الفريق مكوناً من 16 فرداً من خريجي كليات الهندسة والعلوم بقيادة المقدم عفت السادات.. وقد نجح هذا الفريق في ضبط نقاط الأهداف التي تضربها المدفعية المصرية.. مما عمل علي زيادة دقة الضربات ونتائجها.

انضم محمد نورالدين إلي اللواء الجديد.. الذي تم تشكيله تحت اسم اللواء 130 مشاة أسطول.. تحت الرعاية المباشرة للفريق سعد الشاذلي رئيس أركان حرب القوات المسلحة.. ويتكون اللواء من كتيبتين 602، 603 ومعهما الكتيبة 652 مدفعية.. مع مجموعة من الدبابات البرمائية وتدرب أبطال هذا اللواء علي شواطئ أبوقير وسيدي كرير والحمام وبرج العرب بالإسكندرية.. كما تم التدريب علي أرض جبلية.. تشبه مسرح العمليات في سيناء.. وكانت التدريبات جادة وعنيفة.. من دون معرفة المهمة المكلف بها اللواء.. وحضر الفريق سعد الشاذلي أحد تلك التدريبات.. وقال للجنود "إن شاء الله ستكونون الشماعة التي سيتم تعليق النصر عليها".. فشعر الأبطال بثقة كبيرة في أنفسهم بعد هذا الكلام.. وفي منتصف شهر سبتمبر 1973 صدرت التعليمات بتحرك اللواء 130 إلي منطقة السويس.. ثم تحرك اللواء ليكون بالقرب من خط المواجهة علي شاطئ القناة.. وكان البطل نورالدين قائد سرية مدفعية مضادة للدبابات.. ويوم السادس من أكتوبر 1973.. كان أبطال اللواء 130 في مقدمة القوات التي عبرت القناة.. وتم العبور بعد الضربة الجوية الأولي مباشرة من خلال أضيق نقطة في الممرات.. وكانت المدفعية المصرية مازالت تدك مواقع العدو علي الضفة الشرقية للقناة.. وتم تكليف اللواء 130 بأن تندفع إحدي كتيبتيه إلي ممر متلا.. بينما تندفع الأخري إلي ممر الجدي.. حيث توجد النقاط الحصينة لخط بارليف.. وذلك لخداع العدو حتي تتمكن قوات الجيش الميداني الثالث من التوغل في عمق سيناء.. وأيضاً للعمل علي تعطيل تقدم قوات العدو.. مع العمل علي تأمين مد الكباري اللازمة لعبور المدرعات إلي الجانب الآخر.. ويوم الثامن من أكتوبر جاءت التعليمات للمقدم إبراهيم عبدالتواب بأن يتقدم بكتيبته 603 لاحتلال النقطة الحصينة الموجودة في منطقة كبريت.. وهي نقطة تقع علي بعد أربعين كيلو متر من السويس في طريق البحيرات.. وتقع في ملتقي الطرق العرضية شرق القناة.. بين البحيرات المرة الصغري والكبري.. وعندها تتضاءل المسافة بين الشاطئين الشرقي والغربي لتصل إلي 500 متر فقط.. وفي الوسط جزيرة يستطيع العدو من خلالها تطويق الجيش الثالث.. وكانت هذه النقطة الحصينة مركزاً لقيادة العدو الفرعية.. وتقع في خط بارليف.. في ملتقي الطرق العرضية شرق القناة بين السويس والإسماعيلية.. وبفضل هذا الموقع تمكنت هذه النقطة من السيطرة علي جميع التحركات الشرقية والغربية.. في المنطقة التي تفصل بين الجيشين الثاني والثالث.. وقرر المقدم إبراهيم عبدالتواب الدفع بفصيلة استطلاع مكونة من 25 جندياً فقط.. ثم اندفعت كل الكتيبة 603 لاقتحام النقطة الحصينة في كبريت.. ليجدوا أن جنود العدو قد فروا منها.. رغم أن تلك النقطة مصممة بشكل يصعب اختراقه مهما كانت قدرات من يهاجمها.. ولكن جنود العدو فروا مرعوبين وتركوا أسلحتهم خلفهم.. رغم أنهم قد حصنوا تلك النقطة ضد الموجات الانفجارية.. ورغم أنهم قد جهزوها بمستشفي وغرفة عمليات جراحية وبكمية من المؤن تكفى شهراً كامل.. وفور السيطرة علي تلك النقطة الحصينة.. طلب المقدم إبراهيم عبدالتواب من عناصر سلاح المهندسين في الكتيبة 603.. سرعة زرع حقول الألغام المضادة للدبابات.. علي كل الطرق المحتملة لتقدم العدو.. كما سارع الأبطال يرفع العلم المصري أعلي هذه النقطة الحصينة.. لتصاب قوات العدو بحالة من الجنون.. جعلتها تواصل قصف هذا العلم.. ولكنه ظل صامداً يرفرف ليذكرهم بهزيمتهم وفرارهم.

أصيبت قوات العدو بحالة من الجنون.. لفشل كل محاولاتها لاستعادة نقطة كبريت الحصينة.. ووصل هذا الجنون إلي ذروته يوم السادس عشر من أكتوبر.. وهو اليوم الذي حدثت فيه ثغرة الدفرسوار.. وعبور قوات العدو إلي غرب القناة.. بمساعدة كبيرة من التكنولوجيا الأمريكية حيث تعرضت نقطة كبريت في هذا اليوم إلي قصف عنيف من طيران العدو.. مما أدي إلي استشهاد عدد كبير من أبطال الكتيبة 603.. وتم تدمير جزء من النقطة الحصينة.. وتدمير جهاز اللاسلكي الموجود بالكتيبة.. لينعزل الأبطال عن قيادتهم.. ورغم كل هذا استطاع أبطال الكتيبة الصمود وصد كل محاولات العدو لاقتحام نقطة كبريت.. فانطلقت قوات العدو إلي مدينتي الإسماعيلية والسويس.. في محاولة يائسة لاحتلال المدينتين.. وحصار الجيشين الثاني والثالث.. وإجبارهما علي العودة إلي غرب القناة.. ولكن أبطال الصاعقة المصرية.. استطاعوا بقيادة العقيد أحمد أسامة إبراهيم صد هجوم العدو علي مدينة الإسماعيلية.. وتدمير دباباته عند قرية كفر أبوعطوة.. ومازالت بعض هذه الدبابات موجودة حتي الآن.. رمزاً يؤكد بطولات الجندي المصري.. وأصدر مجلس الأمن قراره رقم 338 يوم 22 أكتوبر بوقف إطلاق النار علي الجبهتين المصرية والسورية.. وقبلت مصر القرار بعد صدوره مباشرة.. وقبلته سوريا يوم 24 أكتوبر.. ولكن جولدمائير رئيسة وزراء الكيان الصهيوني.. طلبت من اليهودي هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي.. إمهال جيشها بعض الوقت حتي يحتل مدينة السويس.. ولكن أبطال منظمة سيناء العربية من الفدائيين المدنيين.. ومعهم بعض جنود الجيش الثالث.. استطاعوا قهر الهجوم الشرس لقوات العدو.. ودمروا دباباته وقتلوا جنوده.. فاكتفت قوات العدو بحصار مدينة السويس.. وأصدر مجلس الأمن قراريه 339، 340 بحتمية وقف إطلاق النار.. وفي ذات الوقت أطبقت قوات العدو حصارها علي الأبطال المصريين الموجودين في نقطة كبريت الحصينة.. ذلك الحصار الذي ازداد منذ يوم 22 أكتوبر 1973.. حيث تعرضت نقطة كبريت إلي 250 غارة جوية وكانت أصعب مهمات الأبطال المحاصرين تكمن في كيفية نقل زملائهم الجرحي بعيداً عن هذا الحصار.. خاصة وأن قيادة الجيش الثالث بعد انقطاع الاتصال مع المقدم إبراهيم عبدالتواب قائد الكتيبة 603.. كانت تظن أن الكتيبة بكاملها قد وقعت في يد العدو.. ولكن البطل عبدالتواب أمر بخروج دورية مكونة من فردين فقط.. للتواصل مع أقرب قوات مصرية موجودة في المنطقة.. وكانت الفرقة السابعة.. التابعة للجيش الثالث.. والتي يقودها العميد أحمد بدوي "المشير أحمد بدوي وزير الدفاع بعد ذلك".. هي أقرب قوات من منطقة كبريت.. حيث كانت موجودة علي بعد 15 كم.. واستطاع البطلان الوصول إلي قوات الفرقة السابعة.. والأهم أنهما استطاعا العودة إلي نقطة كبريت الحصينة.. ومعهما جهاز لاسلكي جديد.. لتبدأ بعد ذلك مهمة إخراج الجرحي والمصابين من منطقة الحصار.. حيث كانت تلك العمليات تتم بإمكانات بدائية.. وتستلزم المرور بين خطوط العدو.. ونجحت تلك العمليات عدة مرات.. وفي إحدي هذه المرات اكتشفت قوات العدو بعض الأبطال وهم عائدون إلي النقطة الحصينة.. فأطلقوا عليهم النار ليصاب بعضهم.. ولكنهم نجحوا في العودة إلي زملائهم في نقطة كبريت الحصينة.

قرر المقدم إبراهيم عبدالتواب.. العمل علي إرباك قوات العدو وبث الرعب في قلوب جنوده.. وذلك من خلال استخدام تكنيك الهجمات الليلية.. بعدد قليل من أبطالنا.. حيث كانت كل غارة تتكون من ضابط ومعه أربعة جنود فقط.. لمهاجمة قوات العدو.. وكل غارة في مكان مختلف.. وقد أدت هذه الهجمات إلي تكبيد العدو خسائر كبيرة.. إضافة إلي بث الرعب بين جنوده.. ولذلك قررت قوات العدو مهاجمة النقطة الحصينة بعدد كبير من الدبابات.. وكان المقدم إبراهيم عبدالتواب قد أوكل إلي الملازم أول سامى حجازي مهمة الاستطلاع ومراقبة قوات العدو.. وقد نجح في رصد كل تحركات العدو.. وفجأة أبلغ القائد بتقدم عشرين دبابة مرة واحدة من جهة الغرب.. ودخلت هذه الدبابات في حقول الألغام المعدة سلفاً.. كما راح أبطال الكتيبة 603 يمطرون هذه الدبابات بالأسلحة المختلفة.. ليتم تدمير 16 دبابة.. وهروب الأربع الأخرى.. ووصلت دبابات العدو المدمرة إلي 22 دبابة.. مع بعض العربات المختلفة.. ومنها عربة كان علي متنها ثلاثة من الجنود.. فتم استهدافها وأسر هؤلاء الجنود.. وعند استجوابهم.. أقروا بأن قواتهم ستقوم بغارة كبيرة علي نقطة كبريت في الخامسة مساءً.. فتم اتخاذ الاحتياطات الواجبة.. لتمر تلك الغارة بسلام.

بعد أن اشتد حصار قوات العدو لأبطال الكتيبة 603 في نقطة كبريت الحصينة.. راح كل جندي من أبطال الكتيبة.. يعمل علي استثمار دراسته الجامعية.. وتقديم ابتكار ينفع الكتيبة ويحميها.. فقام النقيب جابر الشعراوي خريج كلية الهندسة باختراع مصدات لحماية المركبات البرمائية من تسرب المياه إلي غرف محركاتها إذا توقفت تلك المحركات.. وذلك حماية لتلك المركبات من الغرق.

ورغم استشهاد وإصابة حوالي 200 جندي من أبطال الكتيبة 603 أي نصف عدد الكتيبة.. إلا أن ضراوة المواجهات لم تكن هي المشكلة أو الأزمة.. لأن المشكلة الأكبر كانت في تناقص كميات الطعام والمياه الصالحة للشرب.. حتي تلاشت تماماً.. فلجأ الجنود إلي صيد السمك من القناة بواسطة المتفجرات.. فهرب السمك بعد أيام قليلة.. فراح الجنود يبحثون عن بقايا الطعام في المراكب المحتجزة.. كما اضطر الأبطال إلي السير في دوريات استشهادية.. للوصول إلي أقرب نقطة تتمركز فيها قواتنا.. للحصول علي بعض الطعام والمياه الصالحة للشرب.. وأثناء تلك الظروف شديدة الصعوبة.. داعب الجندي محمود مصباح زميله النقيب محمد نورالدين قائلاً: "إيه يا عم نور.. يعني كلية علوم.. وكيميا كمان.. وقدامنا مياه القناة وهنموت من العطش".. فتلقي البطل نور هذه الدعابة وراح يفكر في كيفية تحلية مياه البحر ليعمل علي قهر جنود العطش.. وهي أكثر قسوة من جنود العدو.. وبدأ النقيب نور في إعداد المعدات اللازمة لعملية "تقطير المياه".. وهي "جركن لتسخين المياه المالحة.. خراطيم توصيل بين الجركن وترمس ميداني لاستقبال المياه المقطرة.. خيش يتم لفه حول الخرطوم بعد أن يتم غمره في المياه الباردة.. الخشب اللازم لإشعال النيران.. التي ستعمل علي تسخين المياه إلي درجة الغليان".. وللأسف الشديد فشلت التجربة الأولي.. وبحث نور عن أسباب الفشل.. ووجد أن كمية المياه التي يتم غليها كانت أكثر من اللازم.. فأعاد التجربة مع تقليل كمية المياه.. وتم استقبال بخار الماء في الأنابيب البدائية التي تم صناعتها بأبسط الخامات.. وبعد ذلك تم تكثيف هذا البخار بفعل الخيش البارد.. ليسقط الماء العذب المكثف في أحد الجراكن.. وكانت صيحات الجنود عالية جداً فرحاً بنجاح التجربة البسيطة.. التي تعني إنقاذهم من الموت عطشاً.. والأهم أن تلك المياه العذبة.. ستعمل علي زيادة قدراتهم وصلابتهم في مواجهة العدو.. واستخدم الأبطال أي أخشاب في متناول أيديهم حتي صناديق الذخيرة الفارغة.. وعندما نفدت كل الأخشاب التي في حوزتهم.. لم يجدوا أمامهم إلا "فلنكات" خط سكة حديد قديم.. موجود شرق القناة.. وكانت المشكلة أن هذا الخط يبعد عن النقطة الحصينة بمسافة ثلاثمائة متر.. بما يعني أن من سيذهب إليه لابد وأن يكون مكشوفاً لقوات العدو.. ورغم هذه المخاطر الشديدة.. ذهب الأبطال وراحوا يفكون هذه الفلنكات الخشبية بأيديهم.. أو بأدوات شديدة البدائية.. ثم يحملون هذه الأخشاب علي أكتافهم.. وقد اكتشفهم العدو أكثر من مرة.. فكان يطلق عليهم نيرانه.. ليصاب البعض.. وليستشهد البعض.. وكان الجندي الذي لم يصب يحمل الفلنكات علي كتفه ويذهب بها إلي النقطة الحصينة.. ثم يعود ومعه بعض زملائه لحمل الشهيد أو المصاب.

وقد نجح النقيب محمد نورالدين في أن يجعل لكل فصيلة جهاز تقطير خاص بها.. تتناوب عليه دوريات ليظل يعمل علي مدار الساعة.

بدأت المرحلة الأولي من مفاوضات فض الاشتباك بين مصر والعدو الصهيوني فجر الثامن والعشرين من أكتوبر 1973.. عند الكيلو 101 بالقرب من مدينة السويس.. وتمت المرحلة الثانية من تلك المفاوضات في مدينة أسوان.. خلال شهر يناير 1974.. وطوال هذه الفترة حاولت قوات العدو مرات كثيرة إعادة السيطرة علي النقطة الحصينة في منطقة كبريت.. ولكنها فشلت أمام صلابة وقوة الجندي المصري.. وراهن العدو علي أن عامل الوقت سيؤدي حتماً إلي انهيار تلك المقاومة ولكنه خسر الرهان.. وعندما فشلت القوة.. لجأ المفاوض اليهودي إلي طرح هذه القضية خلال مفاوضات فض الاشتباك في الكيلو 101.. ورفض اللواء محمد عبدالغني الجمسي رئيس وفد التفاوض المصري.. قائلاً: إن أبطال مصر في النقطة الحصينة يرفضون تماماً الخروج منها.. وراح الجمسي يقول "إن صمود أبطال كبريت يعطينا القوة".. وأمام هذا الصمود العظيم.. طلبت قوات العدو من المقدم إبراهيم عبدالتواب قائد الكتيبة 603.. التفاوض حول سحب دباباتهم المدمرة "22 دبابة".. واختار عبدالتواب النقيب جابر شعراوي لهذه المهمة.. وعلي الفور قام زملاؤه الجنود بعملية غسل الأفرول وتجفيفه.. ووضعه تحت "المرتبة" ليظهر وكأنه قد خرج للتو من عند المكوجي.. ثم جمعوا له بعض السجائر "الفرط".. التي كانت بحوزتهم ووضعوها في علبة.. وقام شعراوي بحلق لحيته.. وأعطاه زملاؤه زمزمية مياه صالحة للشرب.. وكل هذا حتي يري العدو بعينيه بأن حصاره الطويل.. لم يؤثر أبداً في معنويات الأبطال.. ولم يؤثر أيضاً علي مظهرهم واحتياجاتهم من الماء والطعام.

ورغم كل هذا لم تتوقف محاولات العدو لاقتحام موقع كبريت.. ذلك الموقع التي لا تزيد مساحته عن كيلو متر واحد.

وقد كان المقدم إبراهيم عبدالتواب أهم عوامل صمود جنوده.. فقد ولد هذا البطل بمحافظة أسيوط عام 1973.. وتخرج في الكلية الحربية عام 1956.. وشارك في حرب اليمن.. وتم تعيينه مدرساً بالكلية الحربية عام 1967.. وكان شديد الالتزام بالدين وبالأخلاق الحميدة.. مما جعله قدوة شديدة النبل لكل جنوده.. وكان دائماً في مقدمة الصفوف.. كما كان علي يقين بأنه سيحظي بالشهادة.. ولذلك أوصي بأن يتم لف جثمانه في علم مصر.. وأن يتم منح مصحفه إلي ابنته.. ومنح مسبحته إلي ابنه.. وفي يوم الرابع عشر من فبراير 1974.. استشهد البطل إبراهيم عبدالتواب.. قبل تنفيذ اتفاق فض الاشتباك الأول بأربعة أيام فقط.. وجاء استشهاده نتيجة إصابته بدانة دبابة من دبابات العدو.. وعندما علمت قوات العدو باستشهاد هذا البطل العظيم قررت وقف إطلاق النار تماماً.. وبعد أربعة أيام جاءت قيادة الجيش الثالث.. لتستلم النقطة الحصينة في منطقة كبريت.. وليخرج منها أبطال الكتيبة 603.. وسط مظاهرة عسكرية حاشدة.. حيث وقفت قوات العدو وأدت تحية سلام سلاح.. وأطلقت طلقات نارية في الهواء.. احتراماً وتقديراً لأبطالنا الذين صمدوا.. أمام هذا الحصار العنيد لمدة 134 يوم.. واستطاعوا تكبيد العدو خسائر فادحة في الأفراد والمعدات.. وعادت الكتيبة 603 إلي مقرها الرئيسي في مدينة الإسكندرية.. ليتم استقبالها استقبالاً شعبياً حاشداً.. وقد حصل كل أفرادها علي الأوسمة والأنواط.. التي مهما كانت قيمتها فلن تصل أبداً إلي مستوي شجاعتهم وصمودهم.. وقد حصل البطل محمد نورالدين علي نوط الشجاعة من الطبقة الأولي.. من الرئيس أنور السادات بعد حرب أكتوبر.. كما حصل علي درع التفوق العسكري من الرئيس عبدالفتاح السيسي.. وبعد حرب أكتوبر واصل البطل محمد نورالدين نجاحاته العلمية والعملية ليحصل علي الماجستير والدكتوراه.. وليتولي مناصب قيادية كبيرة في العديد من شركات البترول.. والمؤسسات العلمية.. ورغم كل نجاحاته إلا أن ملحمة كبريت تظل دوماً أعظم وأهم وأنبل هذه النجاحات.

الاكثر قراءة