السبت 19 اكتوبر 2024

يحيا الحب وتحيا عيون بهية

مقالات14-10-2024 | 13:59

رحل عنا الفنان المصري الكبير حلمي التوني( 1934 -2024 )المصور و أستاذ الإخراج الصحفي والجرافيكي ومصمم الأغلفة العظيم وترك لنا عالماً ثرياً من إبداعاته الغزيرة الصادقة. فقد حصل على بكالوريوس كلية الفنون الجميلة تخصص ديكور مسرحى 1958. ودرس فنون الزخرفة والديكور واضطلع بالعديد من الوظائف حيث  عمل بدار الهلال مشرفا فنيا على المجلات. وعمل مخرجاً فنياً للعديد من دور النشر، رساماً ومصمماً جرافيكياً. وهو أول مدير فنى فى الصحافة المصرية، وكان رئيساً للتحرير الفنى لمجلة (وجهات نظر) وهى مجلة شهرية.

اتخذ حلمي التوني في إبداعاته التشكيلية مقاماً تأملياً وكأنه يتغنى بصوت آدم على هضبة الخلق حيث حافة العالم الأول، حيث تتجلى حواء في عالمها الطازج وفي صورها الكثيرة المقدسة ومعجزاتها التي أنعم الله بها على الكون فهي  ربة الفيروز حتحور منبع النورٌ التي تولدُ ُ من تنفس البرق، تفصح عن ذاتها غيمةً من رضا، نهودها نغم، في غمار رقصة الرحيق. فانطلق حلمي التوني في تشييد عالمه الطيب مصوراً الأنثى كمحور للعالم ومصدر للحياة فكانت ربة السماء "نوت" وهي تحتضن الجبال، حينما يولد جنينها الفيروزي المتألق في الصباح، وتلك التراتيل المدونة في ثنيات الحبوب، تتلقى بالمعرفة كل بركات الندى ومصوراً إيزيس تحمل بذرة الحق وتخفيه في الأحراش حيث حتحور ترعاه، أم موسى يوكابد تسلم رضيعها لليم وتقر عينها ولا تحزن. مريم العذراء تقطع الوادي وتختفي بالصغير المقدس. تتجلى السيدة زينب أم العواجز وحضن المساكين. الأميرة ذات الهمة. وأم المصريين وست الملاح وناعسة وبلقيس وهدهدها بجمالها وعنفوانها وصباها البديع وتلك البركة التي تنضح من بين أناملها على استحياء رهيف.

حلمي التوني وأحلام الفردوس القديم :

صاغ الفنان حلمي التوني عالمه التشكيلي بلغة رمزية هي أقرب للأحلام وللغة الأساطير القديمة،  ولقد استقى عناصر هذه اللغة من استلهامه للتراث المصري القديم وتراث الفن الشعبي المصري وكذلك من أساليب وتوجهات فنون المخطوطات والمنمنمات الإسلامية القديمة ولقد عرف بعض المفكرين الرمزية بأنها فن التفكير من خلال الصور، وقال البعض الآخر (كيونج مثلاً) بأن الصورة تصبح رمزية عندما يكون معناها كامناً خلف السطح وخلف الظاهر، وموجوداً بطريقة غير مباشرة بعيداً عن التناول الأول للعقل والإدراك.

وهو ما يبدو لنا تكويناً مشتركاً بين العمل الفني الذي يصوغه الفنان حلمي التوني في حالة الوعي وبين طريقة تكوين الحلم الذي يتكون في عقل النائم و"الأحلام فيما يرى يونج هي التخيلات المفككة المراوغة غير الجديرة بالثقة ولكنها المبهجة في نفس الوقت، والحلم يعبر عن شيء خاص يريد اللاوعي أن يقوله، وأبعاد الحلم في الزمان والمكان مختلطة جداً، ولفهم الحلم ينبغي أن نفحص كل جوانبه، والحلم رسالة مغلقة ينبغي فتحها من خلال رموزها الخاصة، وغلاف الرسالة قد يكون في مثل أهمية محتواها الداخلي، وتبدو صور الأحلام متعارضة على نحو مضحك أو مخيف، وهي تحتشد في رأس النائم وفيها يكون الحس العادي بالزمن مفقوداً، وتكون الصور المنتجة في الأحلام شديدة الحيوية والرمزية فهي صور لا تصرح بالواقع بشكل مباشر ولا تعبر عنه بشكل صريح."

فحين نتأمل أعماله تبدو مسألة "النموذج القديم " -التي تحدث عنها يونج- حيث تظل الأسطورة كامنة في نسيجنا وهي محتفظة بتكوينها المستقل ثم تؤدي دورها عند استعادتها في العمل الفني الأصيل وتسلك مسلكها في تكوين التجربة الإبداعية وهي تتحقق في تجليات ذاتها المركزية ثم التفرعات المنبثقة عنها والناتجة عن عمليات الصياغة المتفردة التي يقوم بها لعناصره.

حلمي التوني وتوظيف التناص التشكيلي :

إن مفهوم التناص الذي أشارت إليه جولياكر يستيفا في تناولها للأعمال الأدبية يبدو هنا بوضوح حين تواجهنا كيانات تشكيلية لها وجودها المستقل لكنها تستدعي بقوة نصوصاً سابقة عليها في تكوين الوعي وتراكم الطبقات الثقافية والحضارية، والحق أنها عملية خطرة قد تقود إلى الإسقاط المباشر أو الوقوع في هاوية التأويل السطحي، فالنص التشكيلي عند الفنان حلمي التوني كتلة بصرية ثرية  لها أنظمة خاصة من صنعه،  مفتوحة على التأويل بسبب تعددية الدلالات وتنوعها وهو ما أنجزه عبر تفاعل  التشكيلات اللونية والملمسية والخطية  والتراكيب القديمة والحديثة أو السابقة واللاحقة، ضمن أنساق فرعية وأساسية.

ويتم تشكيلها وصياغتها في شبكة من العلاقات المنسجمة من حيث الترابط بين المعنى وما وراء المعنى،  وبين التراكيب وطرق صياغتها.حيث ارتبط النص التشكيلي بالنص البصري للفيلم السينمائي،  كما في معرض يحيا الحب عن عنوان فيلم محمد عبد الوهاب الشهير، كذلك في عنوان معرضه "ليه يا بنفسج" في قاعة بيكاسو،أو في التناصات البديعة في معرضه المغنى حياة الروح عن أغنية أم كلثوم.

فنراه وهو يصور بطلاته في لوحاته التصويرية مستلهماً الصورة الشعبية للأنثى في الحكي لقصة ياسين وبهية وفي أغنيات الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم ونراه يكتب نص "مصر يامة يا بهية يا ام طرحة وجلابية مصر الزمن شاب وانتي شابة هو رايح وانتي جاية مصر  يامة يا سفينة، وكذلك نجده في تصويره لتلك الصورة الأنثوية المثالية في وجهة النظر المصرية كما قال نجيب سرور في مسرحيته الشعرية ياسين وبهية حيث يصف بهية قائلاً

أمَّا بهية: فلها عينا غزال،

ولها جيد غزال،

ولها عود كما البان،

ووجه كالقمر

ليلة الرابع عشر.  

كذلك تتبدى قضية الاستلهام الفنى للثقافة الشعبية وهو كما عرفه أستاذنا د.صلاح الراوي : "هو ذلك النشاط الإنسانى النوعى الذى يسعى فيه الفنان من خارج دائرة الجماعة الشعبية إلى الاستعانة بثقافة هذه الجماعة أو أحد أجناسها أو أنواعها أو عناصرها لبناء نص فنى خاص قولى أو موسيقى أو حركى أو تشكيلى أو درامى"  وقد أتى استلهام حلمي التوني  التشكيلي للتراث الشعبي المصري  تعبيراً مجسداً لموقفه الفكري الباحث عن الأصالة والقيمة الجمالية بعيداً عن الزيف أو الادعاء أو الترصيع الشكلي وحسب.

استلهام الفنون المصرية القديمة 

في أعمال حلمي التوني :

في الأساطير القديمة التي ترتبط بالعديد من الحضارات في بلاد الشرق اللوحات تتمتع بتلك الصفة البارزة التي تميز الأعمال الفنية التشكيلية الناجحة وهي القابلية للقراءة Readability في إطار من الثراء الدلالي المنفتح على آفاق التلقي التشكيلي الرحيب. فوجود الاتجاهات المتتابعة نحو النوستالجيا أو الحنين إلى الماضي والتي تومض من حين إلى آخر في أعمال الفنان حلمي التوني  عن طريق استخدام تقنيات التناص بين العناصر التشكيلية القديمة الكامنة في الذاكرة البصرية لدينا وبين العالم المتميز بالجدة والطرافة الذي يقدمه في لوحاته حيث  حضور الأسطورة الشعبية أو استلهامها ككيان مستقل مشع يسكن المسطح التشكيلي لديه  ويمتزج في شرايينه مكوناً وجوداً  جديداًمستعصياً على الإسقاط،منفلتاً من غواية الزخرفة والترصيع.

و لقد اجتاز في أثناء تجريبه لفكرة التناص الغنائي السينمائي - التشكيلي وهي في حد التماس بين اللغوي والبصري مقامات من القراءة لإشعاعات النص الممكنة التي يضخها النص البصري  من محيط دائرة  المعنى دون أن يبتعد أو يفارق،  دون أن يبرح البرزخ النابض الموار،  دون أن يفلت من بين يديها وفؤادها  مركز القراءة اليقظة حول نويات النص.

السينوغرافيا في لوحات حلمي التوني:

"إن مصطلح السينوغرافيا يقصد به الصورة المكتملة للبناء التكويني لعناصر العرض المسرحي بجميع مستوياتها الدلالية والتي تشتمل على المؤدي والحركة والأزياء والإضاءة والمناظر والروائح والأصوات وغيرها من عناصر بناء الفضاء المسرحي التي يصوغها المخرج ومصمم المناظر والسينوغرافيا معاً للتعبير عن النص المسرحي المكتوب. حيث كان حلمي التوني يعمد إلى بناء المنظر التصويري بشكل يشبه المنظر المسرحي ونراه يستخدم عناصر سينوغرافية لتصوير روح المكان وتشكيل روح العالم المحيط بعناصره ولعل دراسته للديكور المسرحي كان لها أثر كبير في اتخاذه لهذا الأسلوب المتفرد.

 تلك الرحلة الفريدة التي خاضها في تلك اللوحات التي يسكنها وجه الفتاة يلوح بين النوافذ ويتردد شكل العقد المعماري والشبابيك الخشبية ووجه الفتاة ذات الشعر الطويل الممشط كضفائر ناعسة التي ضحت بها من أجل أيوب،  وجسد الأنثى المشكل على هيئة أقواس أيضاً، وذقنها القوسية مثل العقد الذي يظللها، والقوس المتردد في نهايات النوافذ الخشبية القديمة التي سقطت بعض أجزائها في التفاتة رشيقة نحو الماضي، حيث منازل الجدات في الحارات المصرية العتيقة، ثم القوس نصف الدائري الذي يمثل جسدها البض. تلك(البين نصية) عند   تقوم باحتراف واقتصاد على تلك العلاقة الحيوية بين العمل التشكيلي  الذي يمثل الفنان وبين ما يسميه رولان بارت بالكتاب الأكبر و هو الكتاب الذي يضم كل ماكتب بالفعل،- أو بوسعنا أن نقول كل ما تشكل بصرياً من قبل - أي أن النص الحاضر يحمل في شفراته بقايا وآثاراً وشذرات من ذلك الكتاب وأنه جزء من كل ما تمت كتابته. وقد نراه يحجب جسدها ويلفه بالملاءة السوداء،  أو يحجب ويكشف في آن واحد لجسدها الفارع خلف الرداء أو خلف سور الشرفة أو خلف المشربية الأرابيسك أو يؤطرها برواز التسريحة التي تتزين أمامها،  أو يفرض عليها ظلاً ذكورياً غليظاً يفرض عليها ثقله وظله الأسود ويكبل رقبتها بقلادته. وإحاطة تلك الأنثى بالعناصر السينوغرافية البليغة كنوافذه الخشبية المعشقة بالزجاج الملون، والستائر والقناديل والثريات الذهبية وآنية الزهور والحلي التي ترتديها بطلته التاج وطوق الزهور لزينات الشعر، والخلخال والأساور والكردان والقرط على شكل مخرطة والزهور التي تملأ الفراغ حولها كأنها تغني في حديقة.

حلمي التوني وجماليات المنمنمات الشرقية :

في تصميمات أغلفة الكتب والروايات وقصص الأطفال كثيراً ما نجد استلهام الفنان حلمي التوني لفنون الشرق والمخطوطات القديمة المنمنمة ويتضح ذلك في تصوير حلمي التوني للأبعاد المكانية في لوحاته، وكما نرى في مجموعة أغلفة سلسلة أجمل الحكايات الشعبية في قصة بلح الشاطر حسن،  فقد أبدع في فنه عالماً جديداً يتجاوز مظاهر "العالم الممثل" والحكاية المسرودة، فهو كون منتظم وعالم صغير تتخذ الأشكال والألوان مواضعها فيه لأسباب باطنة في العمل الفني لا لغرض محاكاة الطبيعة، لذلك حذف المنظور الهندسي واستبعد تضاؤل الأشياء بفعل المسافة والتجسيم والتأثيرات الجوية. كذلك في غلاف قصة جميل وجميلة، ونحن إذ نتأمل هذا الملمح الجمالي الفلسفي لدى حلمي التوني نستشهد بما أوردته الأستاذة الدكتورة أمل نصر في كتابها الشهير  "جماليات الفنون الشرقية وأثرها على الفنون الغربية ".حيث توضح ما سمي بالمنظور الروحي الذي قدم الأشياء من خلال رؤية شاملة، لا تحدها زاوية بصرية ضيقة، فهي رؤية من جميع الجوانب لأنها صادرة من نقاط لا حد لها وغير ثابتة، والفنان يقوم بتجميع إسقاطات هذه الرؤية وبسطها على سطح واحد يكون بمثابة شريحة للأشياء تكشفت فيها جميع الخصائص الشكلية في وحدة العمل الفني.

هذه الرؤية التي تتجه لجميع الأشياء على اختلاف كنهها في عمق الوجود، وهذه الأشياء التي لا حدود لها يلتقطها الفنان وينقلها إلى عمله حيث تبدو في خلفيات العمل التصويري كثيفة مسطحة فتساعد على تفسير وجودها المترامي في البعد، فتتداخل في كون الصورة شديدة الاندماج وعندها لا نرى مكان المشاهد من هذه الأشياء أهو في اقصى البعد عنها أم في أقصى القرب منها أم هو في أعماقها، فالمسافات والفراغ تلتحم في هذا الكون التصويري الجديد.

كذلك يتضح هذا الملمح في استلهام الفنون الشرقية لدى الفنان حلمي التوني كما ذكر أستاذنا الدكتور محمد بن حمودة في كتابه أصداء الفنون الإسلامية في التشكيل العربي المعاصر،  حيث ينفتح العمل التشكيلي الكثيف  على خواطر حميمية تتلاءم مع البنية التصغيرية  ومنه من ناحية،  تخلصه "من حاكمية الصورة الفنية" التي تؤطرُ الوقائع وتلتزم فقط بما هو ضمن المظاهر، ومن ناحيةٍ أخرى تجعل من القيمة الشاملة أمراً في المتناول، بما أنها غير قابلة للاختزال لمعرفة (اي لنسق من العلامات) وإنما هي حاصل خبرة تضع الفكر في الوجود. وذلك كما في معالجاته لبعض العناصر الحيوانية التي تتجلى في الكثير من أعماله مصاحبة لأنثاه المحببة وبطلته المقدسة بارعة الجمال،  فنراه وقد تردد في لوحاته الهدهد الحكيم في قصة النبي سليمان والملكة بلقيس، وكذلك نرى الحصان الطائر الذي يشبه البراق في التصوير الشعبي لقصة الإسراء والمعراج، وقد يمزج العنصر الأنثوي بالصفات الطيرية فيصنع للمرأة جناحين أو يمزجها بالفراشة، أو يمزجها بالقطة في أحيان أخرى، وعن طريق معالجاته السيريالية لكسر الحواجز بين العوالم يمزج بين المرأة وبين البقرة التي يمتلئ ضرعها وتجيش ملامحها بالأنوثة والخير والتدفق فتذكرنا بحتحور التي أرضعت حورس  الصغير في أحراش الدلتا. ومن العناصر الحيوانية التي ترددت كثيراً لدى حلمي التوني عنصر السمكة وعنصر البيضة بما تحمله من دلالات مرتبطة بالذاكرة الشعبية المصرية. ومن السمات التي تميز أعمال الفنان حلمي التوني التصويرية أو الطباعية الاعتماد على الخط  في بناء العمل الفني،  خطٌ صريح واضح صارم قد يصبغه باللون وفي أغلب الأحيان يدعمه بالظلال السوداء، التي تصنع تبايناً قوياً مع الألوان الساخنة الصريحة، امتزاج الأنثى المقدسة بالسماوات والأهلة والأقمار والنجمات الساطعات في عتمة الكون.