من أشهر وأهم علماء العصر الذهبي للعلوم، فهو طبيبٌ وكيميائيٌ وفيلسوفٌ ورياضيّاتيٌّ من أصول فارسية، وصفته المستشرقة الألمانية سيغريد هونكه في كتابها شمس العرب تسطع على الغرب بأنه «أعظم أطباء الإنسانية على الإطلاق»، حيث ألف كتاب الحاوي في الطب، الذي كان يضمُّ كل المعارف الطبية منذ عصر الإغريق حتى عام 925م وظل المرجع الطبي الرئيسي في أوروبا لمدة 400 عام بعد ذلك التاريخ، إنه العالم أبو بَكر الرَّازِيّ.
اشتهر «الرازي» وجاب البلاد وعمل رئيسًا لمستشفى وله الكثير من الرسائل في شتَّى مجالات الأمراض وكتب في كل فروع الطب والمعرفة في ذلك العصر، وترجم بعضها إلى اللاتينية لتستمر المراجع الرئيسية في الطب حتى القرن السابع عشر،وهو أول من ابتكر خيوط الجراحة، وصنع المراهم، وله مؤلفات في الصيدلة ساهمت في تقدم علم العقاقير.
الميلاد والنشأة
ولد إنه أبو بَكر مُحَمَّد بن يَحْيَى بن زَكَرِيّا الرَّازِيّ، نحو سنة 250هـ / 864م، ويقال أنه ولد في سنة 251 هـ / 865 م، و يعتقد أن مولده في مدينة الري، بالقرب من طهران الحديثة، وعُرِفَ منذ نعومة أظفاره بحب العلم؛ فاتجه منذ وقت مبكر إلى تعلم الموسيقى والرياضيات والفلسفة، ولما بلغ الثلاثين من عمره اتجه إلى دراسة الطب والكيمياء، فبلغ فيهما شأنا عظيما، ولم يكن يفارق القراءة والبحث والنسخ، ووكان وقته موزع بين القراءة والبحث في إجراء التجارب أو الكتابة والتصنيف، ودرس الفلك والمنطق والأدب.
وكان من رأي «الرازي» أن يتعلم الطلاب صناعة الطب في المدن الكبيرة المزدحمة بالسكان، حيث يكثر المرضى ويزاول المهرة من الأطباء مهنتهم، ولذلك أمضى ريعان شبابه في بغداد، فدرس الطب هناك حيث مدينة السلام.
رئيسًا للمستشفى
بعدما أتم «الرازي» دراساته الطبية في بغداد، عاد الرازي إلى مدينة الري، مسقد رأسه بدعوة من حاكمها، منصور بن إسحاق، ليتولى إدارة مستشفى الري، و ألّف الرازي حينذاك كتابه «المنصوري في الطب» ثم «الطب الروحاني» وكلاهما متمم للآخر، فيختص الأول بأمراض الجسم، والثاني بأمراض النفس، ثم انتقل منها ثانية إلى بغداد ليتولى رئاسة «المعتضدي الجديد»، الذي أنشأها الخليفة المعتضد بالله (279– 289 هـ /892– 902 م)، وكانت تعني بلغة عصرنا المستشفى.
اكتشافات في الفيزياء والكيمياء
كان «الرازي» مؤمنًا باستمرار التقدم في البحوث الطبية، ولا يتم ذلك، على حد قوله، إلا بدراسة كتب الأوائل، وله إسهامات في مجال علوم الفيزياء حيث اشتغل الرازي بتعيين الكثافات النوعية للسوائل، وصنف لقياسها ميزانا خاصا أطلق عليه اسم الميزان الطبيعي، ويظهر فضل الرازي في الكيمياء، بصورة جلية، عندما قسم المواد المعروفة في عصره إلى أربعة أقسام هي: المعدنية، النباتية، الحيوانية، والمشتقة.
قسّم «الرازي» المعادن إلى أنواع، بحسب طبائعها وصفاتها، وحضّر بعض الحوامض وما زالت الطرق التي اتّبعها في التحضير مستخدمة إلى الآن، وهو أول من ذكر حامض الكبريتيك الذي أطلق عليه اسم زيت الزاج أو الزاج الأخضر، وحضّر «الرازي» في مختبره بعض الحوامض الأخرى، كما استخلص الكحول بتقطير مواد نشوية وسكرية مختمرة. وكان يفيد منه في الصيدلية من أجل استنباط الأدوية المتنوعة.
كتاب «الحاوي في الطب»
و أقدم مخطوطة موجودة من كتاب «الحاوي في الطب»، للرازي، تعود إلى عام 1094 م، محفوظة في المكتبة الوطنية للطب في بيثيسدا ، ميريلاند، ويعتبر هذا الكتاب من أكثر كتب الرازي أهمية وقد وصفه بموسوعة عظيمة في الطب تحتوي على ملخصات كثيرة من مؤلفين إغريق وهنود إضافة إلى ملاحظاته الدقيقة وتجاربه الخاصة وترجم كتاب «الحاوي في الطب» من اللغة العربية إلى اللغة اللاتينية وطبع لأول مرة في بريشيا في شمال إيطاليا عام 1486 وأعيد طبعه مرارا في البندقية في القرن السادس عشر الميلادي.
وتتضح مهار ة «الرازي» في هذا المؤلف الضخم ويكاد يجمع مؤرخو «الرازي» بأنه لم يتم الكتاب بنفسه ولكن تلاميذه هم الذين أكملوه كتبه مثل «إن للعبد خالقا» و«طبقات الأبصار» و«الطب الروحاني».
مؤلفات «الرازي» .. العالم الموسوعي
يزيد عدد كتب «الرازي» على المائتي كتاب في الطب والفلسفة والكيمياء وفروع المعرفة الأخرى، ويتراوح حجمها بين الموسوعات الضخمة والمقالات القصيرة، وومنها ما انتقل إلينا ومن النسخ المخطوطة من مؤلفات «الرازي »مفقودة،
وتمت ترجمة كتب «الرازي» إلى اللغة اللاتينية، ومنها في مجالات الطب والفيزياء والكيمياء، كما ترجم القسم الأخير منها إلى اللغات الأوروبية الحديثة ودرست في الجامعات الأوروبية ومنها هولندا حيث كانت كتب «الرازي » من المراجع الرئيسية في جامعات هولندا حتى القرن السابع عشر.
ويذكر أن مؤلفات أبو بكر الرازي، وما توصل إليه ممن جاؤوا من بعده، بلغت نحو 146 مصنفا: منها 116 كتابا، و30 رسالة، فقد ظل طوال حياته بين القراءة والتصنيف، حتى قيل إنه إنما فقد بصره من كثرة القراءة، ومن إجراء التجارب الكيميائية في المعمل.
امتازت مؤلفات الرازي بالموسوعية والشمول، بما تجمعه من علوم اليونان والهنود بالإضافة إلى أبحاثه المبتكرة وآرائه وملاحظاته التي تدل على النضج والنبوغ، وامتازت مؤلفاته بالأمانة العلمية الشديدة؛ إذ إنه ينسب كل شيء نقله إلى قائله، ويرجعه إلى مصدره.
ومن مؤلفات «الرازي» في الطب.. كتب «الحاوي في الطب»، «الجامع الكبير»، «في الفصد والحجامة»، «الطب الروحاني»، «أخلاق الطبيب»، «كتاب المنصوري في التشريح»، حققه حازم البكري الصديقي، «تاريخ الطب»، الحاوي في علم التداوي»، «الجدري والحصبة»، «الكافي في الطب»، «من لا يحضره الطبيب، «الحصى في الكلى والمثانة»، « منافع الأغذية، دفع مضار الأغذية»، «سر الطب»، «المدخل إلى الطب»،« القولنج» (الشلل)، وكتاب «الأدوية المفردة» الذي يتضمن الوصف الدقيق لتشريح أعضاء الجسم.
ومن مؤلفاته في مجالات الفلسفة والمنطق والعلوم الأخرى.. كتب «الشكوك على جالينوس»، «إن للعبد خالقا» حول العقيدة والعلوم الإسلامية، «المدخل إلى المنطق»، «طبقات الأبصار»، «هيئة العالم» في الكيمياء، و«الكيمياء وأنها إلى الصحة أقرب»، وكتب «مقالة في اللذة،» ،«المدخل التعليمي، «المدخل البرهاني»، «الانتقام والتحرير على المعتزلة».
وكان الطبيب في عصر الرازي فيلسوفًا، وكانت الفلسفة ميزانًا توزن به الأمور والنظريات العلمية التي سجلها الأطباء في المخطوطات القديمة عبر السنين وكان«الرازي» مؤمنا بفلسفة سقراط الحكيم (469 ق. م– 399 ق. م)، فيقول، أن الفارق بينهما في الكم وليس في الكيف، وكان ويدافع عن سيرة سقراط الفلسفية.
رحيل وأثر باق وعلم للبشرية
أمضى الرازي» الشطر الأخير من حياته بمدينة الري، وكان قد أصابه الماء الأزرق في عينيه، ثم فقد بصره ورحل عن عالمنا في مسقط رأسه في 5 شعبان سنة 311هـ /923م، 19 من نوفمبر 923م،عن عمر بلغ نحو ستين عامًا، لكنه سيظل من أعظم علماء المسلمين في الطب من الأصالة في البحث، والخصوبة في التأليف، فقد ألف كتبًا قيمة في الطب، وقد أحدث بعضها أثرًا كبيرا في تقدمه، وفي طرق المداواة والعلاج وتشخيص الأمراض.