عندما اكتشف صامويل هازليدين وارن "رمح كلاكتون" في عام 1911، لم يكن يتوقع أن هذا الاكتشاف سيغير النظرة السائدة عن القدرات التقنية والذهنية للبشر الأوائل.
فقد أظهر هذا الرمح المصنوع بدقة من خشب الطقسوس أن سكان بريطانيا قبل 400 ألف عام لم يكونوا مجرد جامعي طعام بدائيين، بل كانوا صُنَّاع أدوات ماهرين يتمتعون بمعرفة عميقة بالطبيعة واستخدام مواردها بفعالية.
صنع الرمح من خشب الطقسوس المعروف بقوته ومرونته، ما يجعله مثاليًا لصناعة أدوات الصيد، وبالنسبة إلى هندسته، فكان يشير الطرف المدبب للرمح إلى فهم الإنسان القديم لأساسيات الديناميكا الهوائية والدقة في الصيد.
بلغ طول الرمح 38.7 سم وقطره 39 ملم عند اكتشافه، لاحقًا، انكمش بفعل الجفاف ليصل طوله إلى 36.7 سم وقطره إلى 37 ملم، ويُعتقد أن صنع الرمح تطلَّب أدوات صوانية حادة ومنحنية لنحت الطرف وإعطائه الشكل المناسب.
كُشف الرمح في موقع غني بالرواسب الجليدية القديمة يعود إلى فترة هوكسنيان بين 430 ألف و360 ألف سنة مضت، وهي فترة بين جليدية امتازت بمناخ دافئ وغابات كثيفة من أشجار البلوط، الصنوبر، والبتولا، حيث مثلت هذه البيئة مصدرًا للمواد الخام اللازمة للصيد والبقاء، حيث اعتمد الإنسان القديم على استغلال هذه الموارد لصنع الأدوات الخشبية.
يُظهر رمح كلاكتون فهمًا عميقًا لتقنيات النحت وصنع الأدوات، مما يدل على أن البشر الأوائل كانوا يمتلكون مهارات معقدة تتجاوز مجرد البحث عن الطعام، فضلا عن أن ذلك الرمح يشير إلى أن الصيد كان نشاطًا جماعيًا ومنسقًا، حيث اعتمدت المجتمعات البشرية الأولى على التعاون لتحقيق أهدافها، وقد عكس تصميم الرمح وجود ذكاء تطوري سمح للإنسان القديم بالتكيف مع بيئته، وتطوير أدوات أكثر كفاءة للبقاء، وبعد أكثر من 80 عامًا من اكتشاف رمح كلاكتون، عثر على مجموعة من الرماح الخشبية في موقع شونينجن بألمانيا، تعود لنفس الحقبة الزمنية تقريبًا بين 300 و400 ألف سنة.
وكانت مواصفات رماح شونينجن أن طوله يتراوح بين 2 و3 أمتار، ومصنوعة من خشب الصنوبر والتنوب، مع قواعد دقيقة لتثبيتها في مقابض خشبية، ومثل ذلك الرمح تقنيات أكثر تطورًا للصيد والرمي من مسافات بعيدة.
رغم أن رماح شونينجن تُعتبر أكثر اكتمالًا وأكبر حجمًا، إلا أن رمح كلاكتون يحمل أهمية خاصة كأقدم دليل على استخدام البشر للأدوات الخشبية المعقدة.
اكتشف رمح كلاكتون في موقع أثري يعود إلى العصر الحجري القديم الأوسط، وهو يُعتقد أنه صنع بواسطة إنسان هايدلبيرج، نوع بشري عاش في تلك الحقبة، ويتميز هذا النوع بذكائه الذي يقارب الإنسان الحديث، وقدرته على ابتكار أدوات معقدة واستخدامها بفعالية.
الذكاء التقني والتنظيم الاجتماعي
أظهر إنسان هايدلبيرج مهارة فائقة في استخدام الأدوات الحجرية الدقيقة لصنع رماح، مما يبرز تطوره التقني، كما أن استخدام هذه الأدوات في الصيد كان يعتمد على التعاون الجماعي، مما يشير إلى وجود تنظيم اجتماعي متقدم بين أفراد المجموعة.
لقد أحدث اكتشاف رمح كلاكتون نقطة تحول في دراسة التطور البشري، حيث أكّد أن البشر الأوائل كانوا أكثر تطورًا من المتوقع، ودفع هذا الاكتشاف الباحثين للبحث عن أدوات خشبية أخرى، مما أسهم في اكتشاف رماح شونينجن التي تعزز الفهم حول قدرة الإنسان القديم على استخدام الموارد الطبيعية، كما وفّر الموقع الأثري لرأس الحربة معلومات قيمة حول البيئة الطبيعية وحياة البشر في العصر الحجري القديم، وذلك طبقا لما ذكره موقع labrujulaverde.