فرضت كوريا الجنوبية نفسها على الساحة العالمية كقوة اقتصادية وعسكرية بشكل متسارع للغاية، بعد انفصالها عن الجزء الشمالي، جعلها في مصاف الدول المتقدمة بعد أن كانت تتعايش تحت مظلة الفقر باقتصاد يقوم على الزراعة.
ذاك النجاح المحقق جاء بعد حرب دموية خاضتها مع جارتها الشمالية، كأحد نتائج الحرب الباردة بين القطبين "الرأس مالي" ممثلًا في الولايات المتحدة الأمريكية، والشيوعي ممثلًا في "الاتحاد السوفيتي".
الكوريتين
في مطلع القرن الماضي، كانت شبه الجزيرة الكورية جزءًا من الإمبراطورية اليابانية التي احتلتها عام 1910، قبل أن يُعلن الاتحاد السوفيتي في عام 1945 الحرب على اليابان.
جاء ذلك بعد أن توصل الاتحاد السوفيتي إلى اتفاق مع الولايات المتحدة الأمريكية في هذا الإطار، ونجح في احتلال كوريا إلى حد "خط العرض 38".
وعلى إثر نتائج الحرب العالمية الثانية التي هزمت فيها اليابان، احتل السوفيات الجزء الشمالي من شبه الجزيرة الكورية، وأقاموا فيها نظامًا شيوعيًا، وفي المقابل سيطرت الولايات المتحدة الأمريكية على الجزء الجنوبي، وأسست نظامًا رأسماليًا، بينما كان "خط العرض 38" الخط الفاصل بين الكوريتين.
وظاهريًا، كان ذلك التقسيم إدرايًا فقط لا أكثر، ولا يسعى إلى تقسيم كوريا إلى قطبين، لكن الأحداث ستتوالى لاحقًا مؤكدة أن البلد الواحد دفع لهذا الوضع دفعًا.
حيث أصبح البلدين على طرفي نقيض، ففي نهاية أربعينيات القرن الماضي كان الجزء الجنوبي يقبع لسيطرة حكم شديد العداء للشيوعية، التي كانت تحكم الجزء الشمالي، بدعم "سوفياتي".
وفي عام 1948، انسحب الاتحاد السوفياتي من الجزء الشمالي من شبه الجزيرة الكورية، مطالبًا الولايات المتحدة الأمريكية أن تحذو ذات النهج، وهو ما حصل بالفعل.
ومع انسحاب الولايات المتحدة، لم تفوت كوريا الشمالية تلك الفرصة السانحة للهجوم على الجزء الجنوبي، حيث كانت أكثر تسليحًا منه، حيث تخطت القوات "الشمالية" في يونيو 1950 "خط العرض 38"، وفي غضون ثلاثة أيام وصلت للعاصمة "سول".
وبدورها، دعمت الولايات المتحدة كوريا الجنوبية في الحرب الكورية في يوليو 1950، إذ كانت تعتبرها حربًا مع القوى الشيوعية العالمية.
وتسارعت الأحداث مسفرة عن طرد الكوريين الشماليين من "سول"، وانسحابهم إلى شمالي "خط العرض 38"، وآلت الأمور إلى توقيع اتفاق للهدنة في يوليو 1953، وتقسيم البلدين إلى كوريتين، شمالية وجنوبية، ورغم محاولات توطيد العلاقات بينهما، إلا أن الأوضاع السياسية بقيت مشتعلة ومتوترة حتى يومنا هذا.
كوريا الجنوبية
نجحت كوريا الجنوبية في فرض نفسها كدولة متقدمة على الصعيد الدولي، حيث استطاعت في فترة لم تتجاوز ثلاثون سنة أن تحقق نمو اقتصادي سريع وأن ينافس اقتصادها أكبر القوى الاقتصادية في العالم.
وعلى الصعيد الاقتصادي، حولت كوريا الجنوبية نفسها من دولة زراعية فقيرة إلى دولة رائدة عالمية في العديد من الصناعات المتقدمة، بما في ذلك الإلكترونيات، والسيارات، والصلب، والآلات، والبتروكيماويات.
وأصبحت واحدة من أهم الاقتصادات في العالم، إذ تحتل المرتبة الـ13 عالميًا من حيث الناتج المحلي الإجمالي الاسمي لعام 2024، والذي يُقدر بنحو 1.67 تريليون دولار أمريكي، مما يجعلها رائدة على مستوى آسيا، خصوصًا في قطاعات التكنولوجيا والإلكترونيات، إذ تُعد أحد أكبر مصدري الرقائق ومنتجات التقنية المتطورة.
وسياسيًا، تعد "سول" واحدة من الدول الآسيوية القليلة التي حققت الديمقراطية، ووسعت نفوذها الثقافي في جميع أنحاء العالم.
عسكريًا، تحتل كوريا الجنوبية المركز الخامس عالميا في تصنيف القوة العسكرية لـ"جلوبال فاير باور"، وفي المقابل تحتل الجارة الشمالية المرتبة الـ36.
وفي الوقت الراهن، يشغل منصب رئيس كوريا الجنوبية، يون سوك يول، المنتمي لحزب قوة الشعب المحافظ، وذلك منذ عام 2022، حيث فاز في الانتخابات بهامش ضئيل للغاية، متقدمًا على منافسه لي جاي ميونج، عضو الحزب الديمقراطي، بأقل من نقطة مئوية واحدة.
ومنذ توليه المنصب، تراجعت معدلات شعبيته جراء سلسلة من الفضائح والقضايا التي دفعت مئات الآلاف إلى المطالبة بعزله، كان آخرها أزمة "الأحكام العرفية".
وقد أمضى الرئيس الكوري السنوات الـ27 السابقة من حياته المهنية كمدع عام، قبل أن يدخل الرجل البالغ من العمر 64 عامًا مؤخرًا إلى عالم السياسة، الذي أفضى به رئيسًا للبلاد من 2022.
أزمة الأحكام العرفية
ودخلت كوريا الجنوبية في خضم أزمة سياسية بشكل متسارع للغاية، وذلك عقب إعلان الرئيس يون سوك يول، الثلاثاء، فرض "الأحكام العرفية" في عموم البلاد، إثر اتهامه المعارضة بالتورط في أنشطة مناهضة للدولة.
وبرر الرئيس الكوري تلك الخطوة، بأنها تستهدف القضاء على القوات الموالية لكوريا الشمالية، والحفاظ على الحرية والنظام الدستوري، لكن هناك من ربطها برفض الحزب الديمقراطي المعارض مشروع قانون الميزانية في البرلمان.
أما كتلة المعارضة بالبلاد ذكرت أن القرار الرئاسي بإعلان الأحكام العرفية، يأتي في سياق حماية السيدة الأولى كيم كيون هي، من تحقيق تخضع له، في إشارة إلى تهمة قبول حقيبة "كريستيان ديور" بقيمة 2200 دولار هدية، وهو انتهاك محتمل لقانون مكافحة الفساد في كوريا الجنوبية.
وبشكل عام، تلجأ الدول إلى الأحكام العرفية، التي تتمثل في مجموعة من القواعد والتدابير الاستثنائية، في ظل ظروف طارئة تسمح لها بصورة مؤقتة بتعطيل كل أو بعض القوانين السارية فيها، لدرء الأخطار التي تتعرض لها البلاد.
وعلى إثر ذلك، عقد برلمان كوريا الجنوبية، الثلاثاء، جلسة للمطالبة برفع الأحكام العرفية، وهو ما تم بالفعل، خلال الجلسة التي حضرها 190 عضوًا من أصل 300.
وذكر البرلمان أن الأحكام العرفية المعلنة في البلاد أصبحت "لاغية" بعد التصويت، وتباعًا غادر بشكل كامل جميع الجنود الذين كانوا قد دخلوا إلى المبنى الرئيسي للبرلمان، عقب إصدار القرار الرئاسي المشار إليه.
وفي غضون ذلك، قرر الرئيس "يون"، اليوم الأربعاء، رفع الأحكام العرفية بعد التصويت البرلمان، وعلى إثر ذلك جرى سحب كافة القوات التي تم حشدها لتطبيق الأحكام العرفية.
وبعد أن رضخ الرئيس "يون" لقرار السلطة التشريعية المتمثلة في "البرلمان" ورفع الأحكام العرفية، التي سبق أن أقرها، وجد نفسه أمام أصوات من كل ناحيه تطالبه بالتنحي قبل أن يعزل.