قبل أن يرحل الشاعر الكبير محمد إبراهيم أبو سنة في العاشر من نوفمبر الحالي طلب مني أن يصدر طبعة جديدة من أعماله الشعرية الكاملة، فحاولت مع دور النشر حتى استقر الأمر عند دار العالم العربي فنشرتْ أعماله الكاملة وتصدّرت مقدمتها دراستي النقدية، ومن ثم كنت أول قارئ لها، وعشت معها للمرة الثانية مختتما العام 2024، ومن خلال قراءتي النقدية كان الانطباع النقدي التالي عن سيطرة النصّ الكلّيّ على بوْحه الشعريّ.
العنونة والنصّ الكلي:
العنوان هو الدالّ الأول الذي يصافح قلب القارئ، ويوسّع ـ من ثم ـ آفاق توقعه، وتفسيره، فهو وثيق الصلة بنيـّة المبدع والقارئ على حد سواء الصلة الوثفى بنيـّة المبدع؛ لأنه خلاصة النص الكلّي، وهويّته، أمْ بنيـّة المتلقي؛ لأنه مفتاح البحث عن حركة المعنى، والقصد إلى التأويل، وهكذا يقوم العنوان بمهمة النص المحاذي، أو الموازي؛ لقيامه بالتمهيد للنصّ.
ونبدأ بملاحظة الموقع أو الترتيب الذي تحتله القصيدة العنوان في الديوان، عند الشاعر محمد إبراهيم أبو سنة، والتي تشير، في الأغلب، إلى هيـْمنة روحها وظلالها وإيحاءاتها ودلالاتها ورموزها على الديوان كله، حسبما أشار "جينيت" إلى ( العناوين الموضوعاتية )، وإذا نظرنا من مدخل تلك العلامة الدالة، وهي العنوان في دواوين محمد إبراهيم أبو سنة كلها سنجد أنه قد لا نقصر تلك الهيمنة على قصيدة العنوان، برغم سيطرتها، وكونها دالاّ على موضوع الديوان كله؛ ذلك لأن النص المهيمن (النص الكلي) هو الذي يسود الديوان كله بصرف النظر عن موقعه وترتيبه، وقد ترتب على ذلك أننا لم نجد – في دواوينه على وجه الحصر - عنوان الديوان محافظا على مكانه في صدارة الديوان في القصيدة الأولى دوما. بل وجدناه يراوح بين المواقع؛ فهو تارة في الموقع الأول في قصائد دواوين:
"حديقة الشتاء، والبحر موعدنا، ورماد الأسئلة الخضراء، وأغاني الماء"، وتارة يحتل موقعا آخر.
أمّـا أمْر العنوان في ديوان "أغاني الماء" فيبرق دالّه "ماء" في المفردة الأولى
ماء أخضرْ / يتدفق / في أشجار / بيضاءْ/ شهب...
بينما يتخلى العنوان عن مكانه في تلك الدواوين من الصدارة إلى الداخل؛ فيتنقل بين: الموقع الرابع عشر في الديوان الأول "قلبي وغازلة الثوب الأزرق"، والموقع السابع عشر في "الصراخ في الآبار القديمة"، والموقع الخامس عشر في "أجراس المساء"، والموقع السابع عشر في "تأملات في المدن الحجرية"، والموقع السادس في "رقصات نيلية"، والموقع الرابع في "شجر الكلام"؛ لتبرز القصيدة "الأمّ"، لا لأنّ العنوان يشعّ، ويوحي فتتنوع الدلالات فحسب، ولا لأن العنوان له بلاغة أعلى صوتا من بلاغة سائر النصوص فقط. ولكنْ لأنّ قصيدة العنوان، أو القصيدة "الأم" تسْري إشعاعاتها ودلالاتها في الديوان كله.
ولا يستقرّ أمر العنونة على حال واحد. بل يتنوّع حسب مقتضيات النصّ الكلّيّ؛ فيتغير الحال في دواوين أخرى، فلا نجد عنوان الديوان في ترتيب قصيدة بعينها تحمله. بل لا نجد قصيدة تحمل العنوان نفسه كليـّة، وذلك على نحو ما وجدناه في:
"مرايا النهار البعيد، وورد الفصول الأخيرة"؛ ففي الديوان الثاني لا نجد قصيدة اسمها "ورد الفصول الأخيرة". لكننا نفاجأ بشيوع الوقت والزمن. بل أوقات اليوم، والأرقام، والمواقيت، والموعد، والمرايا، فيما يقرب من التلخيص الزمني.
ومثلما نجد في "ورد الفصول الأخيرة" الذي خلا من قصيدة بهذا الاسم مكتفيا بالجملة العنوانية التي ترد في الافتتاحية منذ الدفقة الأولى.
وإذا ما تركنا العنوان إلى ما تتكلم به قصائد الديوان، مجتمعة - بما فيها من سياق، ومقام، ومخطط ذهني، وموضوع، وظروف، وقنوات، وصيغ، وأحداث، وأغراض - فإننا قد نجد النص الكلي في دواوين أبي سنة يبرز غير بعيد عن مناقشة قضية عامة مهيمنة في شعره، هي: أزمة الحب الإنساني على مستوى الأفراد، والأمم، والشعوب، والعلاقات الدولية، وعلاقات الأقوى بالأضــعف، والأزمان، والأوطان، والأماكـن، أو ما يمكن إيجازه في "الحياة حب"، وذلك عبـْـر تعاقب المراحل الفنية في شعره منذ مرحلته الأولى البادئة في (قلبي وغازلة الثوب الأزرق) الصادر سنة 1965 جامعا معظم ما كتبه الشاعر منذ مطالع الستينيات. في وقت كان العقلاء فيه جميعا يتوجسون ويتوقعون ويقيمون في همّ دائم تحسـّبا، وتوقـّعا لكارثة ما، قبل حدوث أقسى نكسة في تاريخ العرب الحديث في الخامس من يونيو من سنة 1967، وكان هذا قدر الديوان الثاني "حديقة الشتاء" الذي صدر سنة 1969 حاملا أوجاع 1967، ومرارتها، وقتامة شتائها، وجفاف أوراقها، وأسن مياهها!!!.
وليشهد عام 1973 ميلاد "الصراخ في الآبار القديمة " ليكون "المغامر المجنون" على حق في تساؤله مع الأساطير، ثم مع "عرّافة الأسى"، ومع "الممثل يخلع القناع"، و"مرثية رياض"، ومقاومة "شادية أبو غزالة"، و"الحب حدّ السيف". وقد أرهص بذلك قول محمد إبراهيم أبو سنة في مقدمة ديوانه الأول (قلبي وغازلة الثوب الأزرق) شعرا، بعْد الإهداء النثري:
إلي الذين يصرون علي انقاذ الحب ومجد الإنسان:
إنْ يكن غيري يعزف في ناي ذهبْ
فاغتفر يا شعب أن أعزف في ناي حطب
الأمر الذي جعلنا نجد في ديوان "أجراس المساء" الصادر سنة 1975، بعد نصر أكتوبر بوقت كاف، يسمح للطير أنْ يغرّد بطلاقة بعد هدوء العاصفة التي تكبـّل الطير وتعوق خريته، بما يوحيه دالاّ العنوان من: صوت ومناخ، وزمان ومكان، حتى لكأن النص الكلي مولود في مساء يونيو الدامي الحزين، ومترعرع مع أجراس أكتوبر المجيد؛ لنجد أصوات:
"أيها اليأس تمهل"، و"المحاربون"، و"ترى يكون هو الوطن؟"، و"في وجه غربان الحدود"، أصواتا لنص كلّيّ آخر غير ذلك النص الذي كان في مرحلة سالفة من حياته ومن إبداعه معا.
وفي "ورد الفصول الأخيرة" الصادر سنة 1996 تمثل ثلاثية مفردات الديوان حدود النص الكلي وأبعاده، وهي ثلاثية تلخـّص، بتكثيفها كما هو واضح، أبعاد النصّ الكلي، ومفرداته: ورد - الفصول – الأخيرة.
لنجد للمرايا حضورا في دواوينه؛ فهي في دواوين: "البحر موعدنا" -1982، و"ورد الفصول الأخيرة " - 1997( أربع مرات )، وعنوان "مرايا النهار البعيد " – 1986، وفي داخله: ( ثلاث مرات )؛ مفتاحا لقضية الديوان، وهي الزمن.
ويسيطر الخطاب الشعري الشاكي على جنبات النص الكلي في "شجر الكلام" الصادر سنة 2000، مسجـّلا إبداع الشاعر بين سنوات: 1996-1999 متمثلا في وجود جموع في تبادل هذا الخطاب في نظرات بين الماضي والحاضر والمستقبل في ضوء تفسير دلالات مادّة شجر في دالّ "الشجر" المصورة للفرقة والتفرقة العربية، و"شتاء العروبة". وإذا ما بلغنا الديوان الحادي عشر (أغاني الماء) الصادر سنة 2002 للشاعر محمد إبراهيم أبو سنة وجدنا النص الكلي، أو الفكرة المهيمنة متمثلة فيما نوجزه في كلمتين تتصلان بالفكرة المهيمنة المشار إليها في مطلع حديثنا: أزمة الحب الإنساني العالمي، وهاتان الكلمتان هما:
“الوجود حب”.
هكذا كانت معايشتي للأعمال الشعرية الكاملة للشاعر الراحل محمد إبراهيم أبو سنة رحمه الله..