سعل جدّي بشدَّةٍ، وانقبضت ملامح وجهه، وتغضَّن الوشم الباهت المدقوق على صدغيه، وعندما هدأ سعاله قال بنبرةٍ مشبَّعة بالأسى: ستموت صبية اللَّيلة.. مساكن الجن في الخلاء، وهناك فوق سرير الرَّمل تنام الصَّبية.. روحها مُعلَّقة، وأمُّها الجنّيّة بجانبها تبكي بحرقةٍ، وتشكو إلى القمر، والقمر بكى لبكائها.. خلاصة القول القمر اللَّيلة حزينٌ.
نطرق علب الصَّفيح، نطوف شوارع النَّجع، تحوطنا العتمة من كلّ جانبٍ، نتطلَّع إلى القمر الأحمر المخنوق، نتوسَّل إلى بنات الحور أن يدعن تلابيب قمرنا الَّذي شارف على الموت، نردّد أغنيتنا الطَّويلة، ونتوسَّل إليهنَّ ببنت النَّبي، وطبقها الشَّهيّ الَّذي أقسمت ألَّا تقربه إلَّا بعد أن يستردَّ القمر عافيته، ويعود هانئًا في فضائه العلويّ.. تهلك صفائحنا، وتتكسر عصينا، وتُبحُّ أصواتنا؛ فتشعر نساء النَّجع بأنَّ التَّعب قد نال منَّا، ويقرّرن أن يشعلن في عروقنا الحماسة من جديدٍ؛ فتؤازرنا طرقاتهن على الآنية النُّحاسيَّة، وقد اجتمعن فوق أسطح الدُّور الطّينيَّة الواطئة، واستترن بأكوام الدّريس الجاف.
تقف على عتبة باب الدَّار، وضوء مصباح الكيروسين يأتي من خلفها، ويضيء بالكاد مسافة مترٍ أمامها، سمح لها بأن تبصر وجه خميس الَّذي ألقى تحية المساء، وغمز بعينه، وغرس سهام نظراته في جسدها اللَّدن؛ فعضَّت صباح شفتها السُّفليَّة، وتمايلت بدلالٍ، وسرعان ما ابتلع الظَّلام خميسًا؛ فلم ننتبه إلى مروره من أمامنا؛ إذْ كانت أبصارنا معلَّقة بقرص القمر الأحمر.
أقسم الولد الفشَّار الَّذي تُبعثر الرّيح ثلاثة أرباع كلامه، ولا تُبقى من كلامه غير الربع أنّ هناك سبعًا بيته فوق تل الرَّمل المتاخم للنَّجع. وزاد في فشره وأيمانه الَّتي يحلفها بلا حسابٍ، وزعم أنَّ للسبع جناحين، طار بهما إلى السَّماء، وعارك القمر، وأن اللَّون الأحمر الذي نراه ما هو إلا دم القمر الجريح. وكعادته حاول أن يبث الرُّعب في قلوبنا، فقال: لو فاز السَّبع الليلة، وأكل القمر، فسوف يهبط غدًا إلى النَّجع بجناحيه وأسنانه الحامية وسوف يأكل كلَّ من يقابله كبيرًا كان أم صغيرًا.
ورغم علمنا أنَّ حكاية السَّبع حكايةٌ جديدةٌ من نسج خياله، فلم نسلم من جاذبيتها، ورحنا نتخيَّل حجم السَّبع الضَّخم، وشكل أنيابه، ومخالبه؛ فسرى الخوف في قلوبنا للحظاتٍ، قطعها ولدٌ آخر ثقيل الظلّ، هزأ بكلام الفشَّار، فاشتعل بينهما الشّجار، واضطررنا إلى إلقاء صفائحنا وعصينا على الأرض للحجز بينهما؛ فتخلَّفنا نحن السَّبعة عن موكب الطَّارقين.. حاولنا الصُّلح بينهما، لكنَّهما رفضا بشدَّة، وأصرَّ الفشَّار على كلامه، وأصرّ خصمه على تكذيبه؛ فحكم بينهما ولدٌ ضخم الجثَّة خفيف العقل بحكمٍ أثار الفزع في نفوسنا؛ إذْ رأى أن نصعد نحن السَّبعة التَّل الرَّمليّ؛ لنشاهد بأعيننا بيت السَّبع في حال كان له وجود من الأساس، وعندما ذكَّرناه بأن التَّل مرتع العفاريت، اتَّهمنا بالجبن، وبعد لغطٍ وجدالٍ وافقنا على فكرته مكرهين؛ لا لشيء سوى نفي تلك الصّفة المشينة عن أنفسنا.
سرنا ببطءٍ، واتَّجهنا إلى خارج النَّجع، ووصلنا إلى التَّل؛ وأخذنا نصعد بحذرٍ، وقد انحبست أصواتنا، وارتجفت أبداننا، وارتعشت أرجلنا، في حين لم تنقطع أصوات الطَّرْق عن الوصول إلى مسامعنا، وما إن اكتمل صعودنا، حتَّى غمرنا ضوء القمر الفضيّ؛ فأدركنا أنَّه تحرَّر للتَّوّ من قبضة بنات الحور، ونجا من بين أنياب السَّبع المهزوم، وتبدَّل حزنه فرحًا بعد أن نهضت الجنّيّة الصَّغيرة من فوق سرير الرّمل بعد صحوةٍ مفاجئةٍ، لكنَّنا لم نكد نفرح بنجاة قمرنا، حتَّى استغلّ الولد الفشَّار الفرصة، وزعم بأن السَّبع متعكر المزاج قد يهبط إلى الأرض في أيّ لحظةٍ بعد معركته الخاسرة، وأشار علينا بالرجوع إلى النّجع بأقصى سرعةٍ ممكنةٍ، ولكنّ الولد ضخم الجثَّة، تمادى في حماقته، وسدّ عليه الطَّريق، وأصرَّ على حسم مسألة بيت السّبع؛ فسرنا على أطراف أصابعنا مرعوبين، وراحت أعيننا الزَّائغة تبحث عن البيت المزعوم، في حين قلَّب الولد الفشَّار الفِكَر في ذهنه؛ كي يخترع حكاية مقنعة، تمنَّى أن تحميه من ألسنتا وأيدينا وأرجلنا الَّتي لن ترحمه بالتَّأكيد.
وما أن درنا حول الصَّخرة الهائلة القابعة فوق التَّل، حتَّى انخلعت قلوبنا لمرأى ذكرٍ وأنثى لا يستر جسديهما شيءٌ من الملابس؛ فاعتقدنا للوهلة الأولى أنَّهما عفريت وجنّيّة يسكنان الخلاء، ولكنّ أعيننا المذعورة سرعان ما تبيَّنت أنّهما صباح الفرسة والبغل خميس.