الأحد 15 ديسمبر 2024

مقالات

كتب وأزمات

  • 8-12-2024 | 13:16
طباعة

أتاحت الطباعة للكتاب انتشاراً واسعاً، خرج الكتاب من نطاق المخطوط والاعتماد على الناسخ الذى ينسخ نسخة أو أكثر إلى طباعة آلاف النسخ وربما ملايين.. ومع هذا الانتشار الواسع؛ اتسع تأثير الكتاب، انتشرت الثقافة والمعرفة وازداد التفاعل مع الكتاب؛ ومن هذا التفاعل الاختلاف حول كتاب بما يحدث أزمة للكاتب أولا وربما للمجتمع كله؛ فضلا عن بعض المؤسسات الحاكمة.. حدث ذلك كثيراً على مستوى الثقافة العربية وفى المجتمع المصرى والعربى.

ربما يكون الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي صاحب أول أزمة، كان رفاعة قد أعد فور عودته من البعثة إلى فرنسا كتابه البديع "تخليص الإبريز في تلخيص باريز" أو "الديوان النفيس في إيوان باريس" صدر الكتاب في طبعته الأولى بهذين العنوانين، لكن الأول هو الذى علق بأذهان القراء والدارسين؛ وتراجع الثانى.. كان الطهطاوي قد أنهى بعثته سنة 1828 وأعد الكتاب فور عودته، بعد سنوات وسنوات تولى الحكم الوالي "عباس الأول" خلفا لعمه إبراهيم باشا؛ ولم يكن عباس مثل جده محمد على ولا عمه إبراهيم باشا.. أراد عباس الانغلاق والابتعاد التام عن الغرب؛ أوروبا تحديداً؛ كان عثمانى الهوى؛ ولم يكن مع التوسع في التعليم ولا يميل إلى الأفكار الحديثة؛ وحدث أن صدرت طبعة جديدة من كتاب الطهطاوي في عهده؛ وسارع البعض إليه، لتحذيره مما جاء في الكتاب من حديث عن "المشروطية" في فرنسا أى "الدستور" وأشار الكتاب إلى "الفتنة الفرنساوية"؛ أي الثورة الفرنسية؛ غضب الوالي وقرر نفى الطهطاوي من مصر إلى السودان.. لم يتحدث الطهطاوي عن تفاصيل تلك الأزمة؛ لكن بعض من تناولوا سيرته؛ ذكروا أنها كانت مكيدة متعمدة لإبعاد الطهطاوي وقف خلفها حاقد أو حاسد.

أشار إليه أحدهم بالاسم؛ لكن الطهطاوي سرعان ما تجاوز الأزمة وعاد إلى مصر ليواصل طريقه ويصدر كتابين لا يقلان أهمية عن التلخيص؛ كتاب "مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية" وهو في تصوري  أول كتاب في الوطنية المصرية في عصرنا الحديث؛ ثم كتابه "المرشد الأمين للبنات والبنين"! كان ذلك في عهد الخديو إسماعيل..

تعد أزمة رفاعة الطهطاوى مع الوالى عباس بسيطة جدا بالمقارنة بأزمة كتاب عبد الرحمن الكواكبى "طبائع الاستبداد"؛ ورغم أن الرجل أصدره دون أن يكتب اسمه عليه؛ اكتفى فقط بأن المؤلف هو "الرحال" لكن الحقيقة لم تغب عن البصاصين وعيون السلطان عبدالحميد الثانى؛ وكان طاغية بحق؛ وكانت الطريقة المفضلة لدى رجال السلطان للتخلص من المعترضين والخصوم هو الاعتقال أو تحديد الإقامة؛ كما حدث مع الأفغانى ومع عبد الله نديم؛ لكن كانت هناك طريقة أخرى وهى فنجان القهوة المسموم .. وضع السم في فنجان القهوة أو في الطعام؛ وهذا ما جرى مع الكواكبى ودفن في القاهرة.

كتاب طبائع الاستبداد لم يرد فيه ذكر مباشر للسلطان؛ لكنه يتناول شخصية المستبد وطابع الاستبداد ونتائجه على الإنسان نفسيا وإنسانيا؛ وعلى المجتمع والأمة بأسرها؛ اعتبر الكتاب نقدا لاذعا للسلطان وللسلطنة؛ حتى دون ذكر الاسم مباشرة؛ خاصة أن الكتاب صدر حين كان هناك تململ فى البلاد العربية، خاصة بلاد الشام  من الاحتلال والسلطات العثمانية، التى انحدر منها الكواكبى شامى الأصل ، حيث ولد في "حلب" سنة 1854؛ مضى السلطان عبد الحميد ورجاله وانهارت الدولة العثمانية تماما؛ لكن بقى كتاب الكواكبى طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد إلى يومنا هذا؛ مازال يطبع وتصدر حوله الدراسات والأبحاث الفكرية.

لم يكن الكواكبى يحتاج إلى أن يشير إلى السلطان وحاشيته بالاسم ولا يذكر ولاته الطغاة، خاصة في بلاد الشام ؛ كي يدرك الناس ما يريد أو يذهبوا بالكتاب إلى أوجاعهم وآلامهم.

أما عبدالله نديم؛ الثائر الخطيب؛ فلم يكن يعرف التلميح ولا الغمز ولا اللمز؛ كان خطيب الثورة العرابية المفوه؛ الذى ظل صامدا حتى النهاية؛ وهو الوحيد من بين قادة الثورة الذى لم يسلم نفسه لسطات الاحتلال فور هزيمة التل الكبير؛ ونجح في التخفى داخل مصر سنوات وسنوات؛ مارس خلالها حياة كاملة؛ حتى أصدر عباس حلمى الثانى عفواً عنه.. قرر عبد الله نديم هجاء الصدر الأعظم الشيخ أبو الهدى الصيادى؛ في كتاب اسمه "المسامير" .. كان الصدر الأعظم نموذجا للمستبد الأكبر؛ غير أنه جمع إلى جوار الاستبداد والتسلط السياسى الفساد المالى.. ورغم أنه عربى فقد كان فساده واستبداده متركزا على الولايات والبلدان العربية؛ وهنا تحرك قلم النديم وأصدر كتابه الذى انتشر بين القراء العرب بسرعة؛ ووجدوا فيه تنفيسا عن غضبهم المكتوم؛ هز الكتاب عرش الشيخ أبو الهدى؛ فكان أن تم حمل النديم إلى العاصمة العثمانية وهناك تم تحديد إقامته؛ عقابا له على الكتاب؛ غنى عن القول أن الكتاب صدر وقتها؛ ولأنه ارتبط بهجاء مسئول؛ فقد نسيه الكثيرون بعد انتهاء دور ذلك المسئول فقد قضى المسئول ومضت أيامه ودامت دولته؛ يبقى الكتاب مهما لمن يدرك التاريخ القديم ولمن يود متابعة جذور الفساد المالى والإدارى عند نهاية الدولة العثمانية.

يمكن القول إن الاعتراض السياسى أو الأزمة التي يواجهها كتاب بعينه؛ تظل محصورة في نطاق المؤلف وربما الناشر مع مسئول أو جهة رسمية بعينها؛ ما يصل منها إلى الشارع يكون محدوداً؛ يحدث إذا ما تم سحب الكتاب أو مصادرته؛ وإذا حدث شيء ما للمؤلف والكاتب؛ كأن يحال إلى التحقيق أو يتم إيداعه السجن أو النفي وربما الاختفاء التام..

هناك كتاب يمكن أن يؤدى إلى أزمة اجتماعية؛ لا شأن لها بالسياسة ولا صناع القرار وكبار المسئولين؛ هنا المجتمع هو الذى يشعر بالغضب؛ أو قطاع منه يشعر بذلك ويصبح ويثور على الكتاب والمؤلف. ويقف الأمر عند هذا الحد؛ ويكون على المؤلف أن يواجه وأن يصمد أو يتراجع.

النموذج الأبرز هنا هو كتاب قاسم أمين "تحرير المرأة" صدر سنة 1898، لم يهتم الساسة بهذا الكتاب، كانت القضية الشاغلة هي الصراع بين الخديو عباس حلمى الثانى واللورد كرومر المعتمد البريطاني، كان عباس يحاول استخلاص سلطاته من المعتمد، وكان الوطنيون يضيقون ذرعا بالاعتداء وغطرسة كرومر، لكن كان هناك فريق يرى أن كرومر يقود عملية إصلاح مالى وإداري وتحديث بعض وسائل الحياة في هذا الظرف ظهر كتاب قاسم أمين، الكتاب يدعو إلى منح الفتيات حق "التعليم الأولى" بما يمكنها من القراءة والكتابة.

وتطرق الكتاب إلى إفراط البعض فى تعدد الزوجات، وذكر أن هناك من يطلق زوجة ويتزوج بأخرى فى اليوم نفسه، ذلك أن الشرع لا يسمح له بغير أربع فقط، ومع اشتداد رغبة الزوج فى الزواج، يضحى بواحدة من زوجاته، وفى ذلك ظلم إنسانى واجتماعى، كان واضحا أن قاسم يشير إلى أسماء بعينها ووقائع يعرف هو أصحابها، لذا قامت قيامتهم عليه .. ونظرا لأنه كان قاضيا فلم يكن وضعه القضائى يسمح له بالرد عليهم ولا كشف ما لديه من خبايا أو وقائع.

ما جاء في الكتاب استفز كذلك القوى  المحافظة في المجتمع، كما استفز بعض العلماء ورجال الدين، فشنوا هجوما ضاريا عليه في المساجد، لم تتجاوز المسألة حدود التأنيب والازدراء الاجتماعى، لكن لم يطالب أحد بمصادرة الكتاب ولا اتخاذ إجراء ضد المؤلف، فقط نظر إليه باعتباره يدعو إلى الانحلال والتسيب الأخلاقى، المهاجمون زادوا وأضافوا إلى أقوال قاسم ما لم يقل به ولم يشر إليه، مثل الادعاء أنه يريد المساواة بين المرأة والرجل في حق تعدد الأزواج، أن يكون للزوجة أربعة أزواج مثل الرجل.. تألم قاسم من ذلك بشدة لكنه لم يتراجع ولا توقف، فقد أصدر بعدها بعامين – سنة 1900 - كتابه "المرأة الجديدة" الذى صور فيه أفكاره ودعا إلى تحرير المجتمع كله من خلال تحرير النساء أو المرأة.

ربما يكون الضغط الاجتماعى الذى تعرض له قاسم أمين هو الذى دفع د.محمد حسين هيكل ابن الأرستقراطية الريفية، الذى درس القانون في السوربون يخشى من أن يضع اسمه على روايته "زينب" حين صدرت طبعتها الأولى وقام بوضع اسم حركى أو رمزى على الغلاف بقلم.. فلاح مصري، كان ذلك سنة 1913، قبل قيام الحرب العالمية الأولى بسنة، وكانت الأمور في مصر وقتها هادئة نوعا ما، سياسيا واجتماعيا، ولم يكن هناك مبرر للتخوف، لكن يبدو أن تجربة قاسم أمين كانت لاتزال ماثلة في الأذهان أو لعلها أزمة د.منصور فهمى ورسالته للدكتوراه في السوربون، كانت الرسالة عن "المرأة في الإسلام" وكان أحد زملاء منصور وشى به رسميا لدى إدارة الجامعة، فقامت الدنيا ولم تقعد، كان د.هيكل يعرف منصور فهمى، ولعلهما تزاملاً في السوربون وقت ما، هل تخوف هيكل من عنصر المكيدة الشخصية وخشى على مستقبله السياسى؟.

نجحت رواية زينب نجاحا لم يتوقعه المؤلف، لذا فإنه أعلن عن نفسه في الطبعة الثانية وكتب اسمه كمؤلف.

استمرت الأزمات وتواصلت في القرن العشرين، واختلف طابع كل أزمة، باختلاف وتباين أطرافها والظرف الذى نشبت فيه، لكن في العموم الأزمات التي أثارتها بعض المؤلفات في القرن التاسع عشر، كانت هادئة نوعا ما ومحصورة في إطار ضيق، عبدالرحمن الكواكبي لم يقدم للمحاكمة، ولا تعرض رفاعة الطهطاوي للمساءلة والقيل والقال.. في حالة الطهطاوي صدر قرار إدارى بنقله إلى السودان ليؤسس مدرسة هناك، قرار من ظاهره أنه يسعى لنشر التعليم والمعرفة داخل السودان، في تلك الفترة المبكرة، قرار لا يمكن لأى عاقل إلا الإشادة به، لكن الخفى في الأمر هو إبعاد الطهطاوي عن القاهرة كى ينسى تماما.

أما الكواكبي فبهدوء تام دس له السم ولقى وجه ربه .. أزمات ومعارك القرن العشرين، كانت مختلفة.. الرأي العام والصحافة طرفا رئيسيا فيها .. محاكمات قانونية.. اتهام ودفاع أطراف سياسية تتدخل خلف ستار أو على المكشوف – أزمة وراء أزمة.. بلا توقف – بعضها اتسع نطاقه وصار مصدر فوضى في الشارع .
التفاصيل في ذلك كثيرة.

أخبار الساعة

الاكثر قراءة