يعد الأدب الكوري بمختلف أشكاله وألوانه مرآة عاكسة لتاريخ وثقافة شبه الجزيرة الكورية، ويقدم مادة غنية وثرية تستحق اهتمامنا ووقوفنا عندها لنقلها إلى العالم العربي.
حيث تحتوي الأعمال الكورية الراقية والمعبرة على القدرة على جذب القارئ العربي إلى أبعاد جديدة من الفهم والوعي الثقافي. وبينما تركز حركة الترجمة الأدبية حاليًا على الأعمال المعاصرة، فإن ثمة عالماً واسعاً من الأدب الكلاسيكي والحديث يجب الالتفات إليه واستكشافه. في هذا المقال، سنسلط الضوء على بعض من هذه الأعمال مرتبة وفقًا لسنة النشر، لنعطي القارئ نبذة غنية عن الأدب الكوري.
الروايات الكلاسيكية: قصة جبل السلحفاة الذهبية وقصة هونج جيل-دونج
تحتل الكلاسيكيات مكانة فريدة في الأدب الكوري، ونجد أن مصطلح الكلاسيكيات هنا يختلف قليلاً عن المفهوم الغربي، حيث تُعرف بأنها الروايات المكتوبة قبل نهاية القرن التاسع عشر. وهي تتنوع ما بين روايات الأبطال، الروايات التاريخية، وروايات الأحلام وغيرها. ومن أبرز الأمثلة قصة "كم أو شينهوا" التي يمكن ترجمتها إلى العربية بعنوان "قصة جبل السلحفاة الذهبية"، حيث تدمج الرواية بين الخيال والواقع، متخذةً من الحب محورًا رئيسيًا لها لأبطال من البشر والأشباح في عوالم الأحلام. وتعد الرواية أولى إنجازات الأدب القصصي الكوري، وهي للكاتب والفيلسوف كيم شي-سب من عصر جوسون.
ويجدر الإشارة إلى أن كتابة الرواية في ذلك الوقت لم يكن بالعمل الذي يفتخر به، ولذلك لم يهتم الكثير من الكتاب بذكر أسمائهم على الروايات التي يؤلفونها.
ولم يتم التعرف على الرواية المعنية حتى بداية القرن العشرين عندما اكتشفها الشاعر الكوري الحديث تشوي نام-سوم بالصدفة في أوائل القرن العشرين أثناء دراسته في اليابان. أما الرواية الأخرى وهي "قصة هونج جيل-دونج"، فتعتبر إحدى الروايات الأولى المكتوبة بالهانجل –الحروف الأبجدية الكورية– للكاتب الكوري هو جيون، والتي تركز على مطالب العدالة الاجتماعية. وللرواية شهرة واسعة في كوريا وتعتبر بمثابة روبن هود الكورية لتشابه القصتين.
الشعر الكوري بالرموز الكورية، من رمز الكونفوشيوسية إلى استنكار عاداتها
كان استخدام الرموز الصينية في كتابة الشعر وسيلةً للتعبير عن البراعة الأدبية ومكانة النبلاء على مدار عصور عديدة في كوريا. حيث بدأت هذه الممارسة في العصور القديمة وازدهرت في عصر شيلا وغوريو.
استخدم الشعراء هذا النوع من الشعر للتغني بجمال الطبيعة والفلسفة الحياتية. بمرور الوقت، انضم أبناء طبقة العامة إلى صفوف الشعراء، مما أدخل موضوعات جديدة كالعمل والحياة اليومية إلى هذا الحقل الأدبي. ومن أبرز الأعمال الشعرية التي تحتل مكانة عالية لموضوعها التقدمي قصيدة "إي-أون" للشاعر لي أوك، والتي يبرز فيها الشاعر آلام المرأة في ظل القيود الاجتماعية الصارمة التي فرضها المجتمع الكنفوشوسي. وعنوان القصيدة "إي-أون" يحمل العديد من المعاني ويعني حرفيًا "الأمثال الشعبية" أو "التعبيرات التقليدية". عادةً ما تُظهر هذه الكلمة حكمةً أو تجربةً بسيطة تأتي من الحياة اليومية. وبذلك يمكن تفسير الغرض الشعري للقصيدة من عنوانها، إنه تعبير عن صوت الناس العاديين، أي الحكمة والدروس التي تنتقل من جيل إلى جيل.
وبذلك يتجاوز العمل مجرد فكرة التواصل أو الفهم، حيث يركز على أهمية توصيل الدروس الاجتماعية والثقافية المستمدة من تجارب الحياة. ومن خلال هذه الأمثال، يسعى لي أوك إلى إيصال رسالة نقدية وتأملية حول الظلم الاجتماعي وطبيعة الإنسان، ليصبح هذا العمل بمثابة اعتراف بآلام النساء وشهادة على أوضاعهن في ذلك الوقت.
والجزء التالي من قصيدة "مثل شعبي" يعبر عن المضمون الكامل للقصيدة.
هل انتهت دورية الحرس الآن
يأتي زوجي بعد السحر
إذا نمت قبله لثار غضباً
وإن لم أنم لثار شكه
(...)
حزنت طويلاً لأني لم ألد ولداً مبكراً
ولكن الآن أقول: ألم يكن من الأفضل لو لم ألد؟
كيف يمكن أن يكون الولد طبق والده؟
أستمضي بقية الحياة في دموع هكذا؟
الحلم بحب جديد وكسر التقاليد الاجتماعية
تُمثل "مو جونغ"، التي نشرها لي كوانغ سو، بداية جديدة أدخلت إلى الأدب الكوري قضايا الصراع الاجتماعي والثقافي، حيث استطاعت أن تستحوذ على مكانة خاصة بين القراء والنقاد باعتبارها فاتحة لعصر الرواية الحديثة. تتناول الرواية بصورة عميقة الصراع المعقد بين القيم التقليدية والقيم الحديثة، إضافةً إلى التداخل بين الحضارتين الشرقية والغربية.
والرواية التي يمكن نقل عنوانها إلى "بدون حب" أو "بلا مشاعر"، تجسد معاناة شاب يبحث عن معنى الحب في مجتمع لا يعترف بحرية اختيار الفرد لزوجه. قد لا يبدو لنا الحب الذي يبحث عنه البطل حبًا بالمعنى المعاصر ولا يعدو كونه بحثًا عن الشخص المناسب بالظروف المناسبة، ولكنه بلا شك كان خيارًا يتحدى به البطل تقاليد الزواج وأعرافه في تلك الفترة. والقيمة الأدبية للعمل لا تنحصر في موضوعه فحسب، بل في تجديد القالب اللغوي للرواية وأسلوبها الذي لم يسبق لأحد من قبل استخدامه، لذلك تعد الرواية نقطة انطلاق الأدب الكوري الحديث والمعاصر. وجدير بالذكر أن رواية "بدون حب" من الروايات ذات المبيعات الثابتة والتي لا يزال يتم طبعها وبيعها إلى الآن في كوريا الجنوبية حتى بعد أكثر من مائة عام من ظهور أول نسخة لها.
مرآة الواقع ومحاولات الهروب منه
تعد فترة العشرينيات من القرن الماضي فترة مميزة للأدب الكوري، حيث ظهرت أنواع مختلفة من الأدب. تلك الفترة التي شهدت تطوراً وغزارة في الإنتاج الأدبي، تزامنت مع بدايات الاحتلال الياباني، وكان لا بد من أن يظهر الصراع الاجتماعي والسياسي الذي يعانيه الشعب في كتابات تلك الفترة. ولكن ما نجد أيضًا في تلك الفترة هو أدب الهروب من الواقع، والذي أطلق عليه مصطلح "الأدب النقي" أو "الأدب الخالص"، وهو نتاج رغبة كثير من الأدباء في ممارسة الفن من أجل الفن نفسه بعيدًا عن قمع الاحتلال وما صاحبه من تعسفات سياسية وقيود على ممارسة حرية الإبداع وإبداء الرأي. وعلى الرغم من أن علم النقد الحديث قد أدان كثيرا من هؤلاء الكتاب، فلقد تركوا لنا إرثا أدبيا غزيرا ومن أشهرهم الروائي كيم دونج-إين صاحب القصة القصيرة "كامجا" (البطاطس) وهيونج جين-جون صاحب القصة القصيرة "السيدة ب وجوابات الحب". وفي نفس الوقت، ظهرت الواقعية بشكل بارز لتصبح شاهدًا على هذا العصر. ومن أبرز الأعمال في تلك الفترة التي تناولت الواقع الاجتماعي في كوريا خلال فترة الاحتلال الياباني هي رواية "مانسيه-جون"، أي "ليلة النصر" للكاتب يوم سانج-سوب. وتنقل لنا هذه الرواية آلام الناس والصعوبات التي واجهوها تحت الاحتلال الياباني ومظاهر المقاومة بشكل واقعي، كما تلقي الضوء على المجتمع الكوري الحديث، وتستكشف العلاقات المعقدة بين الفرد والمجتمع.
ما بين ذكريات الحرب والتطور الصناعي
شهدت كوريا تحولاً كبيراً نتيجة للتطور الصناعي السريع، الذي بدأ في منتصف القرن العشرين واستمر في تسارع حتى يومنا هذا.
لقد أثر هذا التطور بشكل كبير على الأدب الكوري، حيث بدأت موضوعات جديدة تتعلق بالحياة الحضرية، والتصنيع، والضغوط الاجتماعية والاقتصادية في الظهور بشكل بارز في الأعمال الأدبية. تماشياً مع هذه التحولات، بدأت الروايات والأشعار في استكشاف التضاد بين الهوية التقليدية والحياة الحديثة، وكيف تؤثر هذه التغيرات السريعة على الأفراد والمجتمع ككل. ولكن تلك الفترة أيضًا كانت عبارة عن مرحلة حرجة في التاريخ الكوري بعد انفصال الكوريتين في عام 1953.
وجاء أدب تلك الفترة ليجمع بين التخبط الذي يعانيه الأديب والمفكر المعاصر وسط التحول الصناعي الرأسمالي المفاجئ والخروج من القرية إلى المدينة، بالإضافة إلى أنها كانت فترة اعُتُمِد فيها الأدب لتوثيق آثار الحرب ومعاناة الفرد في محاولاته للتخلص من ذكريات الحرب المأساوية التي شتتت شعبًا بأكمله. ومن أعمال هذه الفترة نجد رواية "الساحة"، وقد ترجمت للغة العربية، وهي عمل غني بالتصوير الواقعي للمعاناة الإنسانية خلال حروب الانفصال، يسلط الضوء على الجراح العميقة التي لا تزال تؤثر في المجتمع الكوري حتى اليوم. وهناك أعمال أخرى جمعت بين ما سبق توضيحه، أي بين الصراع لتخطي آلام الحرب وصراع المفكر وسط زوبعة التقدم الاقتصادي، ومن أبرز تلك الأعمال القصة القصيرة "الغبي والأحمق" للكاتب الكوري لي تشانغ-جون، التي تحكي عن أخوين، الأكبر يصارع لتخطي ذكرى مشاركته في الحرب التي انتهت بهدنة الانفصال، أما الأخ الأصغر، وهو من جيل ما بعد الحرب، لا يزال يهيم على وجهه دون سبب محدد في محاولة لاكتشاف نفسه وسط المجتمع حديث التطور.
يعكس الأدب الكوري في مراحله المختلفة المجتمع الكوري بصورة واضحة، ولطالما لعب دورًا مهمًا كرائد اجتماعي وعامل محفز للتغيير. حيث سعى الكُتّاب بدأب لاستكشاف مواضيع مختلفة تتعلق بالمشاكل الاجتماعية والأوضاع القاسية للاحتلال وآلام الحرب. وظهرت في وقت لاحق موضوعات تتحدث بجرأة عن التباين بين الطبقات الاجتماعية، وتأثير التقدم الصناعي على البيئة والهياكل الأسرية. من خلال الأعمال الأدبية، استطاع الكتّاب أن يضعوا في وجهة النظر العامة موضوعات كانت تعتبر من المحظورات أو قليلًا ما جرى التحدث عنها بشكل علني.
ولم يكن هذا النشاط حكرًا أبدًا على الرجال، فقد كان للكاتبات أيضًا نصيب كبير من الإنتاج الأدبي الغزير، حيث قمن بتسليط الضوء على قضايا النساء، ليس فقط كمواضيع للقصص، بل كمحور أساسي يجسد النضال من أجل المساواة والاعتراف بمكانة المرأة في المجتمع الكوري الحديث. لقد وفرت هذه الأعمال نافذة للإطلال على التغيرات التي طرأت على أدوار النساء في المجتمع الكوري، والتحديات التي واجهتهن أثناء سعيهن لتحقيق توازن بين التقاليد والتطلعات الحديثة، ومن أبرز هذه الأعمال رواية "مولودة 1982" التي تم تقديمها بالفعل للقارئ العربي.
وتتطلب عملية نقل هذا التراث الأدبي الثري إلى القارئ العربي جهودًا متواصلة لانتقاء الأعمال التي تعكس القيم الأساسية والتجارب الثقافية المشتركة، مع الحرص على تقديم تنوع في الأنماط الأدبية. كما يجب توفير دعائم للترجمة تسمح بنقل الروح الأصلية للنصوص، لضمان أن الرسائل والأفكار الثقافية تصل بشكل صحيح وواضح دون ضياع التفاصيل المهمة.
وفي النهاية، أؤكد مرة أخرى على أن الأدب الكوري بكل مراحله يعكس بصورة عميقة التحولات التاريخية والاجتماعية التي مرت بها البلاد. إن الانغماس في هذا الأدب يمكن القارئ العربي من فهم أعمق للثقافة والتاريخ الكوري، وتمثل الأعمال الكورية المقترحة في هذا المقال مجرد بداية لاستكشاف الفرص التي قد تتيح محاور جديدة للحوار الثقافي بين حضاراتنا. إننا نتطلع إلى مستقبل تتيح فيه الترجمات المتنوعة للقارئ العربي نافذة تطل على إبداع إنساني مشترك وثراء ثقافي لا حدود له.