الأحد 22 ديسمبر 2024

مقالات

حجر رشيدمفتاح ترجمة اللغة المصرية القديمة


  • 10-12-2024 | 12:49

حجر رشيد

طباعة
  • أماني عبد الحميد

ليس مجرد حجر قديم عمره تجاوز آلاف السنين. بل يحمل كلمات منقوشة بعناية. هي مفتاح لبوابة المعرفة وفك الطلاسم المستعصية.

تحمل أحرفها ملامح حضارة قديمة ولغتها الميتة. لكنها نقلت معناها إلى لغات أخرى. فحيت وعادت لتقص على البشرية بعضا من حكايات الحضارة المصرية القديمة. التي ليس كمثلها من الحكايات. ومنها انطلق المعنى إلى جموع البشر.

تلاقت الكلمات والنصوص لتوثق حكاية حضارة من أعظم حضارات العالم القديم. نقلت إلى العصر الحديث تفاصيل زمن سحيق بكل ما يحمله من نصوص ومتون ومرويات ناس عاشوا على أرض مصر منذ آلاف السنين. واليوم عندما يحتفي العالم بعلوم الترجمة فلا يمكن أن نغفل نشأة فنونها بين اللغات القديمة وخاصة على أرض مصر القديمة.


من اسم الملك "بطليموس" بدأت رحلة الترجمة مع أشهر حجر في التاريخ. نجح في نقل مفردات اللغة المصرية القديمة وتناقل معانيها مع غيرها من اللغات من خلال مرسوم ملكي منقوش على سطحه. بعدما كانوا يصفونها باللغة الميتة ولم تعد منطوقة أو مستخدمة عادت من جديد وأصبح من الممكن تمعن مفرداتها.


تلك حكاية حجر "رشيد" أشهر أحجار مصر القديمة الذي حمل على سطحه نصاً ملكيا منقورا ومترجما إلى ثلاث لغات. جاء كدليل على عظمة تلك الحضارة. فلم تعد لغتها مجرد رموز مبهمة. لكنها نصوص ومتون وتسجيلات تكشف عن ملامح دولة قوية.


لكنه ليس الوحيد في الحضارة المصرية. هناك غيره من آلاف الأحجار والألواح والحكايات على جدران المعابد والمسلات والمقابر. فما بين تعاليم "مريكا رع" وألواح "تل العمارنة" وأحجار "رشيد" و"كانوب" تاريخ طويل من تلك الكتابات وترجمتها.

فالمصري القديم حرص على التسجيل والتوثيق. وإن اختلفت الدراسات الحديثة حول بدايات عصور الترجمة بين اللغات. منها من يرى أنها بدأت مع فتوحات الإسكندر الأكبر. والبعض الآخر يراها نشطت مع الحضارة الرومانية القديمة.


لكن آلاف القطع واللوحات الأثرية المعروضة داخل المتاحف المصرية أو غير المصرية تمثل نماذج لتطور تقنيات الكتابة وترجمتها بداية من الكتابة الهيروغليفية وتطور خطوطها من عصر لآخر لتواكب مستجدات الحياة اليومية والإدارية والأدبية والعقائدية. علاوة على ما ورثناه من كتابات قديمة محفوظة على الأحجار أو فخار أو عظام وأحيانا نسيج .

مما ساهمت في تطور صناعة البردي الذي لعب دورا في تيسير المعاملات والتأريخ ونشر العلوم القديمة. والتي ترصد تتطور فنون الكتابة للغة المصرية القديمة وترصد ترجمتها إلى مختلف اللغات المنطوقة والمكتوبة عبر بلاد العالم القديم. بعدما ظلت الخرافات تطارد الحضارة المصرية وكتاباتها ونصوصها. تداعب خيال الرحالة والمنقبين عن الكنوز. بالنسبة لهم مجرد رموز لتعاويذ أو أسحار غير المفهومة. حتى أن العرب وصفوها بلغة العصافير وموطن للخرافات والأساطير. حتى جاءت إلى مصر الحملة الفرنسية في أوائل القرن التاسع عشر عام ١٧٩٨ بقيادة نابليون بونابرت. وقتها رافقه أكثر من ٢٠٠ عالم للقيام بعمليات مسح واستكشاف وتسجيل كل ما تحتضنه أرض مصر العظيمة من كنوز. وفي يوم لا مثيل له كانت أعمال الحفائر الأثرية تسير وفق للجدول الزمني المقرر له داخل قلعة "قايتباي" التي أطلقوا عليها اسم "سان جوليان" عند أطراف مدينة رشيد. وعند أحد الجدران اكتشف بيير بوشارد أحد ضباط الحملة حجر جرانيتي أسود اللون يحوي مرسوم كهنوتي يرجع إلى عصر الملك بطليموس الخامس "١٩٦ ق.م" وعليه نقوش تمثل منظرا دينيا يقدم فيه الملك قربانا للآلهة ولأجداده البطالمة.

وفي الجزء السفلي يحوي متن مرسوم ملكيا مدونا باللغة المصرية القديمة بخطيها الهيروغليفي "الكتابة المقدسة الخاصة بالكهنة" والديموطيقي "الكتابة الشعبية" التي يفهمها ويقرأها عامة الشعب واللغة اليونانية القديمة التي يفهمها ويتحدثها أهل الإسكندرية والجاليات اليونانية التي عاشت في مصر.


وقتها نشرت جريدة " بريد مصر- لو كارييه دو إيجيبت" التي كانت تصدر عن الحملة الفرنسية خبر الكشف العظيم وطرحت تساؤلات عما إذا كان النص اليوناني هو ترجمة للنص الهيروغليفي. وقرر "بونابرت" عمل نسخ من الحجر وتوزيعها على مختلف المعاهد الأوروبية لدراسته. ونتيجة ذلك قام المستشرق سلفستر دي ساسي بعمل مقارنة النصين الديموطيقي واليوناني من خلال موضع الأسماء كمحاولة لتصور نطق بعض العلامات الديموطيقية. كما حاول الدبلوماسي السويدي "أكربلاد" ومن بعده الفيزيائي توماس يونج الذي نجح في اكتشاف أن الديموطيقية ما هي إلا خط مختصر من الهيروغليفية. وحدد بعض العلامات عن طريق مقارنة كتابة الاسم اليوناني للملك "بطليموس". وبالرغم من ذلك لم ينجح "يونج" في قراءة كلمة واحدة في النص الهيروغليفي.


المحاولة الناجحة كانت على يد الشاب المولع باللغات القديمة جان فرانسوا شامبليون. الذي نجح في فك رموز الكتابة المصرية القديمة وترجمة النص المنقوش على سطح حجر مدينة رشيد. كل ذلك نتيجة شغفه باللغات القديمة منذ صباه عندما التقى وهو لايزال في الحادية عشرة من عمره جوزيف فورييه حاكم مقاطعة "ايزر" وأحد علماء الحملة الفرنسية والذي كان يملك نسخة من حجر رشيد. وشد انتباهه الحجر. وكان ولعه باللغات خاصة اللغة القبطية إلى جانب اليونانية واللاتينية والعربية بمثابة العون له. حيث جمع نسخا لنصوص من المعابد المصرية في النوبة والتي تحوي خراطيش ملكية للملك تحتمس الثالث والملك رمسيس الثاني وحاول ربطهم باللغة القبطية. حتى تمكن من الوصول إلى قراءة اللغة المصرية القديمة ووضع لها قاموسا يحوي قواعدها اللغوية. ووسط قاعة أكاديمية باريس عام ١٨٢٢ تم الإعلان عن فحوى خطاب "شامبليون" الذي أرسله عبر البريد الفرنسي والذي أكد فيه فك رموز اللغة المصرية القديمة ومعرفة قراءتها. وفي  عام١٨٢٤ نشر كتابه الذي حوى أسلوب الكتابة الهيروغليفية وصلتها بالقبطية وقواعد اللغة المصرية القديمة.


وللأسف، ظل الحجر في مصر لمدة ثلاث سنوات فقط بعد اكتشافه. ثم غادر بلا رجعة بعد خسارة الجيش الفرنسي أمام ‏الجيش البريطاني وتوقيع معاهدة الإسكندرية عام ١٨٠١. وتم شحنه إلى إنجلترا ووصل إلى مدينة بورتسموث في  فبراير ١٨٠٢. وبعدها بعام واحد فقط أمر الملك جورج الثالث بعرض الحجر داخل المتحف البريطاني في لندن.


اكتشاف حجر "رشيد" وفك رموزه وترجمته والتوصل إلى طرق قراءة اللغة المصرية كان سببا في تأسيس علم دراسة الآثار المصرية داخل الجامعات والأكاديميات الأوروبية والذي حمل اسم علم المصريات أو الإيجبتولوجي. وتحول النشاط الأثري من مجرد عمليات نهب للمقابر وسرقة ما تحويه من كنوز إلى علم يهدف لاكتساب المعرفة العلمية عن الحضارة القديم. إلى جانب الاهتمام بالقواعد العلمية.


وهناك حجر آخر يضاهي حجر رشيد في الأهمية. يقف شامخا أمام زوار المتحف المصري المطل على ميدان التحرير. يحمل نصا مرسوما باللغة المصرية القديمة ومترجما إلى اللغة اليونانية. يحمل اسم "كانوب" حيث تم العثور عليه داخل منطقة "كوم الحصن". يرجع إلى عصر الملك بطلميوس الثالث. يحمل مرسوما كهنوتيا لمجموعة من النقوش ثنائية اللغة المدونة بثلاث كتابات الهيروغليفية والديموطيقية واليونانية. يسجل أحداث محفل كبيرا للكهنة تم عقده داخل مدينة كانوب عام ٢٣٨ قبل الميلاد. وذلك على شرف الملك "بطلميوس" الثالث وزوجته الملكة "برنيكي" الثانية وابنتهما. ويتناول النص الحملات العسكرية والإغاثة من المجاعة والديانة المصرية والتنظيم الحكومي. كما يسرد تفاصيل هبات الملك للمعابد ودعمه للعقائد القديمة. 


وهناك أيضا ألواح "تل العمارنة" كدليل على حرص المصري القديم على ترجمة النصوص خاصة الرسمية. ففي عام ١٨٨٧عثر فلاحون على ألواح طينية تحمل إشارات مسمارية الكتابة. عددها يزيد على ٣٨٢ لوحا. أهمها معروض داخل متحف برلين. حيث قام الألماني هوجو وينكلر بترجمة أحد النصوص الموجودة على الألواح. أطلق عليها "موضع رسائل الفرعون". وهي عبارة عن مجموعة من الرسائل أو الخطابات المعنية بشؤون الدولة مكتوبة باللغات الأجنبية. منها مراسلات مع بلدان مثل بابل وآشور وميتاني. ومراسلات مع البلاد التابعة لمصر مثل سوريا فلسطين وممالك صغيرة أخرى مختلفة. وتعالج في مضمونها قضايا إدارية وعلاقات بين رجال دولة وتحضيرات لمناسبات زواج وإرسال هدايا. تغطي فترة ما يقرب من ثلاثين سنة وتعود في معظمها إلى عهد "أمينوفيس الرابع".


وتعتبر رسائل العمارنة شهادات على "الثقافة المسمارية" التي كانت قد انتشرت خلال القرن الرابع عشر قبل الميلاد. كما كانت البابلية أو الأكادية هي لغة رسائل تل العمارنة. إلا إنها كانت تحرر أولاً باللغة المصرية القديمة. ثم تتم ترجمتها إلى لغة الدولة الأخرى.


كذلك ما يسمى بتعاليم "مريكا رع" التي يرجع تاريخها إلى عصر الانتقال الأول. وفيها يوجّه الملك ابنه وولي عهد ويقول: "اجعل النجاح أساسه المعرفة.. انتبه.. الكتابة هي التي خلدت كلماتهم.. افتح ثم إقرأ ما كتبوه..الخبير من تعلم..". تلك الوصايا تم نسخها وترجمتها عدة مرات عبر مختلف العصور. وباتت أشبه بالتعاليم التي آمن بها المصري القديم. وتكشف عن أهمية الكلمة المكتوبة عند المصري القديم.  وإن كان هناك نصوص مكتوبة ترجع لزمن أبعد من ذلك بكثير. حيث تعود أقدم الكتابات الهيروغليفية المعروفة إلى نهاية الألفية الرابعة قبل الميلاد.


ووفقاً للمعتقدات المصرية القديمة فإن الكتابة ماهي إلا فعل إلهي خلقها الإله "تحوت" إله الحكمة والسحر. ويعتقد المصريون بأنه السبب في تمايز اللغات. هو رسول وكاتب الآلهة. وهو رب الكتبة المصريين. لذا نجده يتجسد على شكل طائر "أبو منجل" أو إنسان برأس "أبو منجل". كما كان لمهنة الكاتب شأن عظيم. نادرا ما تخلو مقبرة من منظر لكاتب أولقب له. وأحيانا يحمل كبار الموظفين من وزراء وكهنة لقب كاتب من ضمن ألقابهم المسجلة داخل مقابرهم.


وتمتلك اللغة المصرية عدة كتابات أو طرق للكتابة تختلف على حسب نوع النص المكتوب ومكان كتابته. وهو ما أكده د. ممدوح الدماطي أستاذ الآثار المصرية والمتخصص في الديانة واللغة المصرية القديمة في كتابه "علم الآثار". فالكتابة الهيروغليفية من وجهة نظر المصري القديم هي  "كلام الإله". تخص الكهنة فقط. كتابة مقدسة "هيرو أي المقدس"و"غليفي أي الكتابة". مستخدمة على جدران المعابد والمقابر.


نظرا لارتباطها بالعقيدة والديانة المصرية القديمة والطقوس الدينية الجنائزية أيضا.


لكن المصري القديم عندما كتب على ورق البردي اختصر الخط الهيروغليفي. فظهر ما يسمى الهيروغليفي السريع أو المختصر أو الهيراطيقي أي لغة الكهنوت. 


وهناك خط آخر بدأ في الظهور مع بدايات عصر الانتقال الثالث والعصر المتأخر وهو الخط الديموطيقي أي الخط الشعبي الخاص بالكتابات العامية الشعبية التي تخص حياة الناس. مثل الوثائق الرسمية والخطابات الشخصية وعقود الزواج والبيع والشراء. كلها مسميات لخطوط اللغة المصرية شاعت خلال العصر اليوناني لكن أصل اللغة واحد. مثل خطوط "الهيروطيقي" و"الديموطيقي" أو ما يسمى بالخط الشعبي. وأخيرا ظهرت الكتابة بالخط القبطى كترجمة حية لكل ما فات وهو المستخدم حالياً في بعض الكنائس المصرية. مع العلم أن الخط القبطي نشأ مع بداية القرن الثالث الميلادي وجمع بين الحروف اليونانية وسبعة حروف من الديموطيقية. 


لذا حرص المصري القديم على كتابة وثائقه القيمة بلغات عصره وبمختلف كتابات اللغة القديمة. وهو الأمر الذي مكن العالم من قراء "تعاليم مريكا رع" وغيرها من النصوص والنقوش والمراسيم وكافة الكتابات المصرية وترجمتها إلى مختلف لغات العالم الحية. لنتعرف على ملامح تلك الحضارة الإنسانية ودراسة قيمها وعلومها التي شكلت وجدان وعقل الإنسانية جمعاء.

الاكثر قراءة