على أرض مصر شكلت الطبيعة منذ بدء الخليقة رؤية الفنان متأثر بطريقة مباشرة وغير مباشرة وعلى مر التاريخ الفني الإنساني لحضارة ما قبل الأسرات والفن على أرض مصر له سماته المتعارف عليها، وأصبح للنحت المصري هويته فالأرض والطبيعة والبيئة والمعتقدات كلها روافد شكلت رؤيه الإنسان ليس في الفن التشكيلي فقط وإنما في الفنون الأخرى أيضا الشمس والضوء والجبال والوديان والنيل كان لهم تأثيرهم فشكل الضوء ماهية الأشكال في الطبيعة من حركة الظلال وانسجام وتواصل الأسطح والحجوم والكتل في الفراغ والتفاعل مع الضوء وقوة البناء والصراحية والاتزان والرسوخ وأيضا في الوضوح والتلخيص والتبسيط ونقاء وصناعة الألوان وحركة الشمس والنجوم والنيل وحركته وفيضانه إيقاعات زمانية ومكانية شكلت حياة الإنسان حياة الإنسان وتكون الموروث الثقافي بين الخبرات الحياتية والعقائدية.
وكانت مؤثرة في بناء الحضارات المصرية المتعاقبة على أرضها وانصهار أي ثقافة دخيلة على حضارتنا لتكون مزيجا بين أصل الفن المصري الغالب على الرؤية الجمالية كما في النحت البطلمي المصري وتماثيل تناجرا الإسكندرية ورغم الاختلاط وتعدد روافد المعرفة والثقافة في العصر الحديث إلا أن هناك المحافظين على جذور الهوية بحكم التكوين الوراثي المدرك لخصوصية الفن المصري قديما وحديثا حتي في أعمال الرود نجد هذه الخصوصية ورغم دراستهم على أيد أجانب داخل وخارج مصر إلا أنهم سرعان ما يعودون إلى جذورهم.
فمحمود مختار رغم تأثره بالفن الأوروبي بأعمال وليم لمبراك وأوجست رودان وبتشيوني. إلا أنه سرعان ما عاد إلى جذوره التي شكلت له شخصيته ومن هذه المقومات تشكلت الرؤية النحتية لأعمال النحاتين المصريين وتعاقبت الأجيال بدءا من محمود مختار وما قبله وما بعده، ومن كانوا في عصره ولم يسلط عليهم الضوء ولم تجمع أعمالهم وتوثق مثل النحات محمود حسنى وهو نحات لا يقل عن مختار في إبداعاته النحتية وقدرته على تشكيل التماثيل التشخيصية التذكارية وكان من أشهر أعماله تمثال للزعيم سعد زغلول من الشمع وهو تمثال متحرك وجاء من بعدهم أجيال مثل جمال السجيني ومحمود موسى وعبدالبديع وعبدالقادر رزق ومحي الدين طاهر وحسن حشمت وحسن صادق وكمال عبيد.
وتتعاقب الأجيال لنصل إلى الجيل الثالث من النحاتين والانفتاح على العالم بالأساليب، والاتجاهات، والتقنيات، والخامات. ومثل مختار كانت البعثات إلى أوروبا إيطاليا وفرنسا وإسبانيا وإنجلترا والقارات الأخرى وتنوعت الثقافات والخبرات، وسط التنوع في الروافد الحضارية الإغريقية والرومانية والحضارات الآسيوية الهندية والصينية واليابانية والعراقية والروسية والكورية وأمريكا اللاتينية والأفريقية فمن ذهب وهو يحمل هويته تطور وأصبح له بصمته. وظل المحافظون كما هم على هوية وجذور وسمات النحت المصري، نعم هناك مدرسة مصرية تعرف عند رؤية الأعمال في أي مكان في العالم، وهناك التغريب والغرابة تحت ادعاء العالمية والعولمة وهذه ادعاءات باطله ضعيفة لعدم الوعي والتعايش مع المكان والأزمنة المتعددة على أرض مصر، والتي لم تفقدها، وكان الهدف من التفاعل والتواصل مع الثقافات هو نقل وتبادل الخبرات وليس نقل الأشكال وطمس الهوية نتيجة عدم الوعي وفتح عوالم غريبه في النحت خليط من الثقافات اعتمدت على النقل تحت زعم التحديث والتبرير بأنه الاستلهام والتأثر وتوارد الخواطر في الفكر والنقل.
وغيبوبة الوعي بالعالمية والمشكلة أن معظم الدول التي لها مرجعية حضارية متمسكة بها مع التوافق مع مشكلات العصر الخاصة والعالمية ولم يغب تأصيل الهوية العصرية . إنه الوعي بالقيم والعادات والتقاليد والثقافة والتراكم الثقافي والتغيرات الحضارية حول ما يمثل الثوابت للهويه وعندما تطغي المتغيرات على الثوابت تفقد المجتمعات هويتها هذا ما جعل البعض يذهب إلى مرجعيات ثقافية وحضارية أخرى بحثا عن العالمية ونتيجة عدم الوعي بمفهوم الحداثة والمعاصرة، والمتأمل لصالون النحت الثالث وهذا الجمع من الفنانين والأجيال يقف على أجيال وأسماء من المبدعين في فن النحت.
عندما ذهبت إلى ألمانيا لاستكمال دراسة الدكتوراه قالوا لي قادم من بلد النحت تدرس نحت؟ نعم مصر بلد النحت. فلم ينقطع النحت بوفاة مختار ... كما يروج من ليس لديهم أي ثقافه ولا معرفه وعند حدوث أي عمل لا يرتقي إلى فن النحت يشار إلى مختار.. ليتضح مستوي معرفتهم عن الفن وتوقف أين؟ مصر بها نحاتون لا يقلون عن أي نحات في العالم وهي حقيقة وكل واحد منهم يتميز بتميزه ولا يوجد هناك من هو أفضل من الآخر. كما تعرف أعمالهم المصرية دون المعرفة للجنسية لوضوح خصائص وسمات النحت المصري بمدرسته القديمة والممتدة في النحت المصري المصار مما يؤكد أن الصلة والتواصل بين الأجيال لتعايشهم على أرض تحمل خصائص طبيعية شكلت رؤيتهم بجانب موروثهم الثقافي المتنوع والذى أكسبتهم خصوصيتهم في الرؤية النحتية.
مصر بلد الفن والنحت ليس ادعاء ولا شيفونية وفي الدول أصحاب الحضارات القديمة القائمة على فن النحت كأحد وسائل تسجيل الحضارة، ميراث وإرث ثقيل يوضع أمام الفنانين عبر الأجيال المختلفة، ولم تكن هذه الإشكالية واضحة عند الأجيال القديمة أو الرواد فحتى قبل وبعد تمثال نهضة مصر توالت أعمال مختار كما في حاملات الجرار والعودة من النهر وكاتمة الأسرار وحارس الحقل وفهو ابن الريف المصري والحضارة المصرية تذهب إلى جمال السجيني فتجد المصرية كحضارة والحياة العامة والشعبية في حي باب الشعرية والجمالية والحسين.. محملة في أعماله كما في تمثال العبور وأيضا في لوحات النحاس المطروق التي تفوق بها على نفسه رغم دراسته وحياته مصر وفي فرنسا وإيطاليا وإسبانيا.. يحمل اتجاها فكريا سياسيا في موضوعات عن العمل والعمال.
ونذهب إلى عبد القادر رزق وكمال عبيد وأحمد عبد الوهاب وعبد البديع عبد الحي ومحمود موسى ومحيي الدين طاهر وأحمد عثمان والوشاحي وعبد المنعم الحيوان وفاروق إبراهيم وعايدة عبد الكريم وليلي سليمان وعفاف عبد الدايم وصبحي جرجس وصبري ناشد ومحمود شكري وعلي حبيش ومحمد العلاوي ومحمد درويش زين الدين ومحفوظ صليب وطارق زبادي ويمثل عبد الهادي الوشاحي حالة إبداعه متفردة وفي موضوعاته التشخيصية والشخصية التذكارية جيل من المبدعين في خصوصيته كنحات يخرج الكتل النحتية من حالة السكون إلى حالة الحركة مع الفراغ واختراق أعماله بالصياغات ألف أساليب وصياغات لحالات بين البصمة الشخصية والهوية المصرية هناك من كانت واضحة في أعماله كخصائص مستوحاه من أصول ومدرسة الفن المصري، وهناك من استقى ذلك من البيئة وموضوعاتها ذات الخصوصية وهناك من اتخذ من قضايا المجتمع موضوعات ذات خصوصية لها سواء مباشرة أو رمزية ويميز هذا الجيل وجود نحاتات مبدعات في فن النحت لم يقتصر النحت على الرجال بل النساء أيضا كان لهن تواجدهن بأعمالهن ومشاركتهن بالمعارض.
وهناك أجيال تتتابع منهم من درس في أكاديميات مصرية ومنهم من أكمل دراسته في الخارج جادت أعمالهم بتجارب وثقافة فنية عالمية منهم أحمد عبد العزيز ومحمد إسحق وسيد عبده سليم والشاذلي عبدالله وزكريا طه وإسحق دنيال وجمال أبو اليزيد وسامي كشك ويمثل هذا الجيل خصوصية في الهوية النحتية تجمع بين تنوع الأساليب والرؤية بين الطبيعة والاستلهام من التراث النحتي المصري القديم وبين الثقافة العالمية مع الوعى بخصوصيته في المصرية.
جيل آخر يمثله طارق الكومي وصلاح حماد ومحمد الفيومي وعسقلاني وأحمد قرعلي وناجي فريد وعصام درويش وحسن كامل وهاني فيصل وخالد ذكي و.. وهذا الجيل أكثر حظا بالمشاركة في فاعليات نحتية محلية ودولية واحتكاكا بخبرات متنوعة من جنسيات أخرى مع الحفاظ على هويتهم المصرية وتتابع الفاعليات والسفر بتكوين خبرات لم يصل إليها الجيل السابق وانتقلت وامتزجت الخبرات بين هذه الأجيال ليأتي جيل من الشباب النحاتين الواعدين بأعمالهم الإبداعية مثل سيدة خليل ومنى غريب ومحمد الصياد وعبد المجيد إسماعيل وعماد عزت ومحمد هارون ومحمد الحديدي ومحمود فرج ومراد فخر الدين ونيفين فرغلي وباهر أبو بكر جيل يملك القدرة على التجريب والتعامل مع الخامات التقليدية والحديثة مع حرية ووعي بقيم وأصول فن النحت وهناك جيل آخر في الطريق.
فلقد تنوعت الأساليب والاتجاهات النحتية ومصر بلد النحت بالفعل بها أجيال متتالية من المبدعين في فن النحت متعددي الاتجاهات والأساليب والتقنيات في التعامل مع الخامات ولهم طابعهم المميز بالمصرية وسط النحت العالمي يمثلوا حال فريدة من الأصالة.