الأربعاء 8 يناير 2025

مقالات

اللغة العربية.. عناصر البقاء ونذر الفناء

  • 4-1-2025 | 14:44
طباعة

ترددت في الآونة الأخيرة صيحات عالية، هي أشبه شيء بصيحات الاستغاثة أو النداء الأخير؛ منذرة بخطر ما حق تتعرض له اللغة العربية في هذا العصر إن لم تتداركه همة أهلها فسوف يفضي بها إلى موت محقق. ولعل أبرز هذه الصيحات صيحة عبد السلام المسدي في كتاب له عنوانه: «العرب والانتحار اللغوي» فارق فيه عامدا رصانة المنهج العلمي وحيدته إلى قرع كل نواقيس الخطر؛ استنفارا للجهود لإنقاذ العربية من مصير يفضي بها وبهم إلى الموت انتحارا أو اندحارا. وهو في هذا الكتاب لا يتردد في استخدام ألفاظ تثير الفزع كالانتحار، والانفلاق من الداخل، وآلية النسف الداخلي... إلخ.

وثمة صيحات أخرى دوت في مؤتمرات محلية ودولية تعلن أن اللغة العربية في خطر، وأنها مهددة  بالفناء، وزعم بعض المشاركين فيها أن الشرائط التسع  التي ذكرها ديفيد كريستل لموت اللغات تنطبق كلها على اللغة العربية في الوقت الحاضر، ونسبوا إلى منظمة اليونسكو أنها أكدت في أحد تقاريرها الأخيرة أن نصف لغات العالم في القرن الحادي والعشرين مهددة بالانقراض ومن بينها اللغة العربية.

وذكر علي القاسمي أن البحوث التي قدمها كبار العلماء في اللسانيات والتربية وعلم الاجتماع والطب النفسي لمؤتمر عالمي عن لغة الطفل العربي في عصر العولمة عقد في القاهرة كانت "رثائيات رائعة للغة العربية وبكائيات بليغة ذرفت على موتها المؤكد القريب". وانبرى فريق  منهم  لتبديد ما يمكن أن يسمى وهم الاستنامة إلى أن اللغة العربية لن تنقرض أبدا لأن الله سبحانه وتعالى ضمن لها الحفظ حين ضمنه لقرآنه في قوله عز من قائل في سورة الحجر: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) إذ إن القرآن فيما يرى هؤلاء إلهي مقدس، والعربية بشرية غير مقدسة يجري عليها ما يجري على اللغات من عوارض الضعف ونذر الفناء؛ ولهذا فمن الممكن أن تنقرض اللغة العربية ويبقى القرآن، وضربوا لذلك مثلين: انقراض اللغة العربية في إيران وبقاء القرآن، وانقراض العربية بعد سقوط الأندلس.

وليس من شك في أن اللغة العربية تعرضت للخطر في مراحل من تاريخها الطويل، وكان أول ذلك خطر الضياع بين اللغات التي كانت مستعملة إبان الفتح الإسلامي، وبعضها كان لغات لحضارات كبرى. وقد أدرك ذلك في وقت مبكر الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان  الذي تولى الحكم فيما بين (٦٥ -٨٦ هـ / ٦٨٥ ـ ٧٠٥ م) حين وجد المسلمين قد حافظوا على كل ما يتعلق بإدارة البلدان التي فتحوها كما كانت قبل الفتح ومنها لغاتها، وكان الاعتماد في التواصل بين السلطة المركزية وهذه البلدان على الترجمة التي كانت تسبب كثيرا من الغموض والتعقيد والبطء؛ فاتخذ هذا الخليفة قرارا سياسيا حازما يجعل اللغة العربية هي اللغة الرسمية الموحدة للدولة الإسلامية، وقد صاحب هذا القرار قرار حازم آخر بإصلاح نظام الكتابة العربية، فضلا عن قرارات أخرى لا تقل شأنا عن هذين القرارين منها وضع عملة موحدة للدولة وهيئة مركزية للبريد، وشق الطرق التي تربط بين أقاليم الدولة. وقد كان لهذا القرار الشجاع أثر بعيد في النهوض بالعربية، وجعلها أداة  صالحة للتعبير عن كل الشئون السياسية، والإدارية، والقانونية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية. 

وقد تعرضت اللغة العربية للخطر ثم الفناء حين انهارت  الدولة الإسلامية في الأندلس. وحين ملك العجم من الديلم والسلجوقية بعدهم  بالمشرق وزناته والبربر بالمغرب –كما يقول ابن خلدون– وصار لهم الملك والاستيلاء على جميع الممالك الإسلامية  فسد اللسان العربي لذلك، وكاد يذهب لولا ما حفظه من عناية المسلمين بالكتاب والسنة اللذين بهما حفظ الدين. فلما ملك التتار والمغول بالمشرق ولم يكونوا على دين الإسلام ذهب ذلك المرجح، وفسدت اللغة العربية على الإطلاق، ولم يبق لها رسم في الممالك الإسلامية، وذهبت أساليب العربية إلا قليلا يقع تعليمه صناعيا بالقوانين المتدارسة من علوم العرب. وكذلك كانت الحال حين سيطر الأتراك العثمانيون على العالم العربي وفرضوا التركية لغة رسمية، وأبطلوا اللغة العربية في المدارس، والدواوين، والمحاكم؛  ففقدت اللغة العربية مكانتها وانكفأت على نفسها لتكون لغة دين وعبادة فحسب. فلما نشطت حركة المقاومة ضد نفوذهم وسيطرتهم نشأت معها حركة مماثلة لبعث اللغة العربية وإعادتها إلى مكانتها التي كانت لها، وجعلها لغة رسمية للدولة،  شارك فيه مسيحيو الشام وكانت في مصر جزءا من خطة محمد علي للتحرر من السيطرة العثمانية، والإصلاحات الجذرية لنظام الحكم. وقد سيطر الاستعمار الفرنسي على الجزائر مائة وثلاثين عاما دمر خلالها كل رابطة تربطها بالعربية والإسلام وفرض لغته حتى سادت كل مستويات النشاط الثقافي والإداري والتعليمي؛ فأصبح المفكرون والأدباء والصحفيون ومن دونهم من أبناء الشعب يستعملون الفرنسية على المستويين الرسمي والشعبي ولا يكادون يعرفون من العربية إلا بضع كلمات؛ حتى أدرك بعض  المصلحين  من  أبناء الأمة  وفي مقدمتهم الشيخ عبد الحميد بن باديس أن المعركة من أجل الحرية يجب أن تبدأ باستعادة اللسان العربي فأنشأ الرجل جمعية العلماء التي جعلت من المساجد والزوايا أماكن لتعليم العربية، وتحفيظ القرآن؛ حتى تم لهم ذلك بعد معركة ضارية لا تزال آثارها باقية حتى الآن، وكان لأحمد بن بلة أثر حاسم في استعادة العربية على ألسنة الناس وفي كتاباتهم.

ونخلص من ذلك إلى أن القول بتعرض العربية للخطر في الوقت الحاضر ليس مستبعدا، وأن إنقاذها منه مرهون بتعزيز عوامل البقاء والقضاء على نذر الفناء.

ولا أحب أن يكون كلامي في هذا المقال رجع صدى لما قيل؛ بل أن أخضع اللغة العربية لفحص دقيق بالمقاييس التي وضعها المختصون لقياس حيوية اللغات وتعرضها للخطر من المنظور البيئي خاصة، وضعا للعربية في سياقها العالمي من جهة، وتحديدا مبنيا على أسس موضوعية للعناصر التي تكفل لها البقاء، والنذر التي تهددها بالفناء. وقد بدا لي أن نذر الفناء لا تنفصل عن عناصر البقاء إذ إن لكل عنصر من عناصر البقاء نذيرا يترصده من نذر الفناء. 

وهذه العناصر هي:

أولا: مكانة اللغة العربية بين اللغات

أـ اللغة العربية أطول اللغات الحية عمرا، وأهم اللغات السامية الحية، وأشهرها، وأوسعها انتشارا، وأثراها أدبا وفكرا وعلما، وأشدها تأثيرا في نفوس أبنائها ومشاعرهم، وأحفظها لخصائص السامية الأم. وعلى الرغم  مما يشاع من صعوبة تعلمها فهي لغة قياسية على نحو فريد، لا يكاد يمثل نظامها اللغوي صعوبة تذكر في تعليمها وتعلمها بشهادة من تعلمها من الناطقين بغيرها؛ فهذا ديفيد جستس في كتابه الذي ترجمه حمزة المزيني بعنوان: "محاسن العربية في المرآة الغربية" يعقب على تصنيف معهد الخدمة الخارجية التابع لوزارة الخارجية الأمريكية لها بين أصعب اللغات في العالم: الصينية واليابانية والكورية قائلا: "أما أنا فقد وجدت اللغة العربية أكثر صعوبة من اللغات الهندية والأوروبية التي درستها، لكنني انتهيت إلى أن الجانب البنيوي المحض - أي نظامها اللغوي المجرد - لا يسهم في هذه الصعوبة إلا بقدر ضئيل؛ فاللغة العربية من حيث البنية لغة مطردة، ومصقولة، بشكل غير معهود".  ثم قال: "أما أسباب صعوبة العربية فتقع خارج اللغة بوصفها نظاما مجردا، وهي أسباب تاريخية، وأسلوبية، واجتماعية".

 ب ـ  كانت اللغة العربية ولا تزال واحدة من لغات الحضارات الكبرى في العالم فقد تبوأت في القرن الثامن الميلادي مكانتها بجانب اليونانية واللاتينية؛ معبرة عن الحضارة الزاهرة في العصور الوسطى، واستطاعت أن تخلف آثارا عميقة، لا في آسيا وإفريقيا فحسب، بل في أوروبا أيضا؛ وظلت طوال العصر الذهبي للإسلام لغة رفيعة، تستخدم في كل المجالات الدينية، والثقافية، والإدارية، والعلمية، حتى لقد بدت في القرنين التاسع والعاشر الميلاديين كأنما هي اللغة الوحيدة للعلم والثقافة في العالم. وقد تمكنت بعد صراع شرس من أن تسود لغات الحضارات الأخرى:

اليونانية، والآرامية، والفارسية، والقبطية، واللاتينية، ثم البربرية في شمال إفريقيا. واستطاعت ان تنقل التراث العلمي، والثقافي، والحضاري لهذه اللغات؛ من خلال حركة كبرى للترجمة شجعتها سياسة الخلفاء حتى أصبح هذا التراث على مد اليد مترجما إلى العربية، ومضافا إليه ما  قام به العلماء المسلمون من شروح وإضافات؛ فأصبحت لغة عالمية يسعى إلى تعلمها أبناء الشعوب الأخرى، وظلت ذات تاريخ متصل يمتد من العصر الجاهلي حتى العصر الحاضر.
جـ ـ ارتبط الإسلام منذ ظهوره باللغة العربية؛ فقد نزل القرآن الكريم بلسان عربي مبين، والقرآن الكريم عند كل المسلمين معجزة لغوية تتأبى على الترجمة؛ فكان على أبناء الشعوب الإسلامية

وعددهم يصل إلى مليار ونصف المليار مسلم أن يتعلموا اللغة العربية ليتمكنوا من قراءة القرآن الكريم، والحديث النبوي الشريف، وإقامة شعائر الدين. وقد حال ذلك دون أن تلقى العربية مصير اللاتينية إذ ظل الوعي بها، والحرص عليها، أمرا لا يمكن التفريط فيه عند العرب والمسلمين جميعا. وقد أثرت اللغة العربية تأثيرا عميقا في لغات كل الشعوب التي اعتنقت الإسلام. 

د- اللغة العربية منذ عام  ١٩٧٤  إحدى اللغات الرسمية الست في الأمم المتحدة ومنظماتها المتخصصة مثل اليونسكو، وما تفرع عنها مثل ألكسو وإيسسكو، ومنظمة الصحة العالمية ومنظمة الأغذية والزراعة والمنظمة العالمية للطيران المدني. ومجموع هذه اللغات الست يمثل نحو ٤٢٪ من سكان العالم، يضاف إلى ذلك أنها أيضا لغة رسمية في منظمات إقليمية مثل منظمة المؤتمر الإسلامي، ومنظمة الوحدة الإفريقية.

هـ ـ ثمة محاولات لترتيب لغات العالم بناء على معايير كثيرة من أهمها إحصاء عدد الناطقين بها، وقد ورد في إحصاء عام  2012  أن عدد سكان الوطن العربي 367 مليونا أغلبهم من الشباب؛ وقد وصل الآن إلى ما يقرب من نصف المليار. والعرب جميعا يعدون اللغة العربية هي الرابطة القومية التي تربط بينهم أرضا، ودينا، وتراثا، وتاريخا، وثقافة، وحضارة. وهي لغة كثير من مصادر المعرفة وإنتاج الثقافة. 

ويظهر من ذلك أن اللغة العربية تشغل موقعا متقدما في ترتيب لغات القمة بين لغات العالم التي يبلغ عددها نحو سبعة آلاف لغة. هذا على المستوى العالمي، أما على المستوى الإقليمي فهي في المرتبة الأولى بين اللغات الكبرى التسع المستعملة في حوض البحر المتوسط (العربية والفرنسية والتركية والإيطالية والإسبانية واليونانية والعبرية والقطلانية والمالطية)، وهي كذلك في المرتبة الأولى بين اللغات في القارة الإفريقية، وتأتي بعدها الهوسا، والسواحيلية. ولعل فيما قدمته ما يدل دلالة قاطعة على أن هذا عنصر أصيل من عناصر بقاء العربية وحيوتها، وركن ركين لأمنها اللغوي. 

والنذير الذي يناوئ هذه المكانة العالمية فيما أرى هو نذير العولمة التي تسعى لتعميم نموذج واحد من القيم الثقافية، والحضارية، والاجتماعية، والاقتصادية، والأخلاقية، تكون أداة التعبير عنه لغة موحدة هي اللغة الإنجليزية. وقد أصبح الخوف من طغيان اللغة الإنجليزية على اللغات الأخرى أمرا يؤرق الناطقين بهذه اللغات ومنها العربية. على أن هذا الخطر ليس مقصورا على اللغة العربية؛ بل تواجهه كل اللغات الكبرى في العالم. ولم يكن أمامها من سبيل إلى درء هذا الخطر إلا الحفاظ على البيئة اللغوية الطبيعية للغة أن تخترقها العولمة بلغتها وأنماطها الثقافية والحرص على إجادة الإنجليزية دون تفريط في اللغة القومية؛ إذ لا تعارض على الإطلاق بين أن يجيد أبناء اللغة لغتهم ويجيدوا معها الإنجليزية التي تفتح لهم آفاق الثراء المعرفي في جميع المجالات، وتكون الترجمة عندئذ هي السبيل إلى استزراع المعرفة في البيئة اللغوية الطبيعية، فإذا تم الأمر على هذا النحو فلا ضرر ولا ضرار. لكن الخطورة فيما يتعلق بالعربية تكمن في أن أبناءها يسمحون بتغيير البيئة اللغوية التي تحيا فيها العربية بما تشيعه الإنجليزية في البلاد العربية من أنماط السلوك والقيم، وأنواع الأطعمة والأشربة والملابس والعطور ومستحضرات التجميل وغيرها، فضلا عما تبثه الفضائيات من أفلام العنف والإثارة، ومسلسلات المواعدة والمراودة التي تملك على الناشئة والشباب أنفسهم، وتتشربها ذواتهم؛ فينزلقون إلى مهاوي القطيعة المرعبة بينهم وبين قيمهم وتقاليدهم وعاداتهم وأخلاقهم ومن قبل هذا ومن بعده بينهم وبين لغتهم. وذلك من أخطر النذر إن لم يكن أخطرها على الإطلاق.

ومن نذر الفناء ازدواجية النخبة المؤثرة التي تؤكد من موقع المسئولية أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية للدولة ثم تسمح بإقصائها من مواقعها الأساسية في التعليم، والاقتصاد، والتجارة، والصناعة، والتكنولوجيا، ومن ثم  سوق العمل، ومن كثير من مجالات البحث العلمي؛ لتحل اللغة الأجنبية محلها: الإنجليزية في المشرق والفرنسية في المغرب؛ رغبة في أن يكون لهذه النخبة مجالات متميزة لا يزاحمها فيها غيرها، وهم لا يكتفون بذلك؛ بل ينقلونه إلى أبنائهم ببذل كل نفيس لتعليمهم اللغة الأجنبية، دون أن يلقوا بالا لاكتسابهم العربية، أو ينشئوهم على التمسك بها، والحفاظ عليها، والاعتزاز بها؛ لينشأ جيل يهمل العربية ويهمشها، أو يعبث بها فيما يملأ به الفضاء الإلكتروني بالعربيزي، وبغيره من ألوان التلويث والتشويه اللغوي. واللغة بعد ليست ألفاظا وتراكيب فحسب بل هي ثقافة وحضارة ودين وقيم وأخلاق وأعراف. والتخلي عن العربية تخل عن هذا كله.
 ثانيا: مجالات الاستعمال وما يتصل بها من مستويات 

١ـ التعليم: 

 تستخدم العربية الفصحى المكتوبة في المدارس والمعاهد والمؤسسات والجامعات ويغلب استعمالها منطوقة في المدارس والمعاهد والجامعات ذات التوجه الإسلامي التي تعنى بأصول الدين وفروعه، وبالتراث اللغوي والأدبي عند العرب في كل عصور العربية؛ من دون إسقاط لعلوم العصر. أما لغة الشرح والتدريس في غيرها فيغلب أن تكون عامية المثقفين. وتستخدم اللغة الأجنبية الخالصة في المدارس، والمعاهد، والجامعات الأجنبية المنتشرة في طول الوطن العربي وعرضه؛ لتعليم بعض أبناء الطبقتين الوسطى والعليا. وكثير من هذه المدارس والجامعات تحظر على الطالب النطق بغير هذه اللغة الأجنبية،  ويتسمح بعضها فيغض الطرف عن لغة هجين بينها وبين العربية. أما العربية الفصيحة فهي مهمشة تهميشا يكاد يكون تاما، ولا يكاد أحد من المدرسين أو الطلاب يعيرها اهتماما. وقد أدى ذلك إلى النظرة المتدنية إلى اللغة العربية، وتصنيف التخصص فيها تصنيفا متدنيا؛ بما يشبه أن يكون طبقية لغوية.

٢ـ الترجمة: 

كان من نتائج السياسات التعليمية غير الرشيدة أن أكثر من يجيدون لغة أجنبية لا يجيدون العربية، وأكثر من يجيدون العربية لا يعرفون لغة أجنبية، فضلا عن غياب التكوين الثقافي لهؤلاء وهؤلاء؛ فأصبح المترجمون الأكفاء ندرة نادرة. والترجمة هي المخرج الأساسي من سيطرة الإنجليزية على مصادر المعلومات، وهي السبيل إلى جعل أحدث المستجدات العلمية والأدبية والتكنولوجية متاحة لأبناء اللغة الذين لا يجيدون الإنجليزية؛ لإنشاء قاعدة علمية تكون أساسا للبحث العلمي في جميع مجالات المعرفة؛ ومن أجل ذلك عد كثير من الباحثين الترجمة كما وكيفا أحد المعايير التي تقاس بها حيوية اللغات وتجددها وازدهارها. ولا شك أن المقارنة بين حالنا في الترجمة وحال غيرنا من الدول النامية ـ بل المتقدمة ـ مما يبعث الشجى والشجن. 

٣ـ الإعلام

في الإعلام ـ مرئيه ومسموعه ـ  تستعمل المستويات اللغوية جميعها في جميع المجالات، لكلٍّ منها ما يناسبه، بدءا من المسلسلات والأفلام التي تدور أحداثها في عشوائيات المجتمعات العربية، ومرورا بالأغاني والمسلسلات من كل اللهجات، وانتهاء بتفسير القرآن الكريم وبيان إعجازه. وتستخدم العربية الفصيحة حية في نشرات الأخبار، وتقارير المراسلين، فضلا عن الأفلام الوثائقية، والمسلسلات المدبلجة، وترجمات الأفلام الأجنبية، وكل ما يتجاوز المحلي إلى الفضاء العربي المشترك حيث لا يجدي استخدام لهجة من اللهجات. 

٤ـ الاقتصاد

يعد الاقتصاد واحدا من أهم المؤشرات إلى قوة اللغة في المجال العالمي أو ضعفها. ولم تصبح اللغة الإنجليزية اللغة المهيمنة على العالم إلا بعوامل من أهمها القوة الاقتصادية، والقوة العسكرية، والقوة السياسية، والقوة الصناعية، فضلا عن القوة التكنولوجية؛ فاللغة ليست معلقة في فراغ بل هي قائمة في أذهان أصحابها، وفي أسماعهم، وأبصارهم، وأيديهم، وهي تقوى بقوتهم، وتضعف بضعفهم.

وعلاقة اللغة العربية بالاقتصاد علاقة استهلاك لا علاقة إنتاج؛ فهي تستخدم باعتبارها وسيلة للولوج إلى السوق العربية في الإعلانات عن السلع، ومجالات الشراء والبيع؛ بمستويات مختلفة، بعضها فصيح وبعضها عامي، وبعضها  من عامية المثقفين؛ لكن هذه العلاقة الاستهلاكية جاءت بطوفان من الألفاظ الأجنبية في المأكل، والمشرب، والملبس، والمركب، والمسكن، والمتجر، وجميع مناشط الحياة، وأصبحت تجري على ألسنة الناس كل يوم، وتنتشر بينهم انتشار النار في الهشيم . ولم يقتصر الأمر على الألفاظ، بل تعداها إلى التراكيب الهجين في أسماء المحلات التي لا يقبلها نظام اللغة ومرد ذلك عند القائمين على أمر الاقتصاد في البلاد العربية الجدوى والرواج، دون التفات إلى ما يحدثه ذلك من آثار خطيرة في مستقبل اللغة العربية. 

وظاهر أن هذا العنصر من عناصر البقاء أضعف من سابقه، وتترصده نذر قوية نشير إلى أهمها فيما يأتي:

١ـ ليست اللغة العربية خالصة للتعليم بجميع مستوياته في البلاد العربية؛ بل تزاحمها لغات أجنبية عديدة أهمها الإنجليزية في المشرق العربي، والفرنسية في المغرب العربي؛ فينشأ ناشئ الفتيان فيهم على لغة ليست لغته، وثقافة غير ثقافته، ويلازمه فيما نشأ عليه إلف لا يفارقه في كل ما يتصل باللغة الأجنبية التي ملكت عليه فكره ونفسه، ونفور مقيم من لغته القومية قد يدفعه إلى احتقارها والخجل منها، وشعور بالاغتراب في وطنه، ويصبح النموذج الثقافي والأخلاقي الذي تقدمه له اللغة الأجنبية هو الأرقى والأبقى. 

٢ـ يعاني مجال الترجمة من العربية وإليها من افتقار شديد إلى مترجمين أكفاء ينقلون إلى العربية مستحدثات العلوم والمعارف في المجالات المختلفة؛ إذ إن الترجمة البشرية لا تزال هي الخيار الوحيد في عصر الانفجار المعرفي الذي نعيش فيه؛ لجبر النقص الشنيع في تكنولوجيا المعلومات والترجمة الآلية وصولا إلى مصادر المعلومات باللغة العربية، وتعريب العلوم والتعليم؛ وما ذلك إلا لندرة من يجمعون بين إجادة العربية والإنجليزية أو غيرها من اللغات الأجنبية.

٣ـ من الخطورة بمكان أن يسمح الإعلام المكتوب والمنطوق والمرئي بأن تطغى بعض مستويات اللغة على بعض؛ فيحدث بذلك أنماطا من الخلل في منظومة المستويات اللغوية، وأن يسمح بنشر مقالات أو إجراء حوارات في مجالات السياسة والثقافة والاقتصاد وغيرها لا يراعى فيها الالتزام بنظام العربية؛ إذ إن تأثيره في جمهور مستعملي اللغة أخطر، وأظهر، وأبعد أثرا في مستقبل اللغة العربية.

٤ـ ما جاء به اقتصاد العولمة من طوفان الألفاظ الأجنبية والتراكيب الهجين شديد الخطورة، وهو نذير حقيقي من نذر الفناء، وتاريخ اللغات شاهد على أنها تبدأ به خطواتها نحو موت محقق. 

ثالثا: التعدد اللغوي: 

الجنوح إلى إذكاء الصراع بين عناصر المنظومة اللغوية التي تقوم على تعدد اللغات والمستويات، والسماح لبعض منها أن يتمدد في مساحة الاستعمال التي يشغلها غيره أو يغتصب الوظائف المنوطة بغيره  يؤدي إلى زعزعة الأمن اللغوي، والسلام الاجتماعي. فالتعدد اللغوي داخل البيئة الواحدة إذا كان في إطار النسق اللغوي العام، وله مكانه في المنظومة اللغوية والثقافية عند أبناء اللغة، فلا خطر منه، بل يعد مددا لها في الوظائف، والرصيد المعرفي والثقافي.

رابعا: تراث اللغة

لا يشك شاك في أن تراث اللغة العربية المجيد عنصر راسخ من عناصر بقاء العربية وحيويتها إذ يمثل القاعدة المعرفية الداعمة لها على الدوام. وقد حفظه لنا نظام الكتابة العربية الذي أتيح له من التقييس، والضبط، والتوحيد، والتقنين، ما أوفى به على الغاية.

ولعل من أخطر النذر التي تترصد هذا العنصر عبث الشباب - وبخاصة من تعلم منهم لغة أجنبية في هذه الأيام - بنظام الكتابة العربية الذي حفظ لنا هذا التراث عدولا عن هذا النظام المستقر إلى الكتابة على غير نظام بحروف لاتينية. وإذا كان علماء هذه الأمة ومثقفوها قد واجهوا مثل هذا بكل حسم في مطلع القرن الماضي فليس من الممكن السكوت على هذا العبث الذي ينقطع ما بيننا وبين هذا التراث الفريد.

خامسا: نظام الكتابة    

لقد أتيح لنظام الكتابة العربية من التقييس، والضبط، والتقنين، في القرنين الأول والثاني الهجريين ما أوفى به على الغاية. وقد رافق هذا النظام الإسلام واللغة العربية في انتشارهما في أرجاء العالم، وظل قرونا متطاولة يسجل التراث الأدبي، واللغوي، والحضاري، والعلمي، والمعرفي، من دون أن يصيبه تغير جوهري تستغلق به قراءة هذا التراث المجيد. وما حدث له من تطوير في عصور الطباعة والتكنولوجيا لم يمسَّ جوهر هذا النظام. 

وما أظن بعد ذلك أن منصفا يماري في أن نظام الكتابة العربية عنصر راسخ من عناصر بقاء العربية وحيويتها.

والنذير الحقيقي الذي ينبغي أن يؤخذ مأخذ الجد هو ما يقوم به الشباب الآن في غرف الدردشة، ومواقع التواصل الاجتماعي على الإنترنت، وكتابة الرسائل على الهواتف المحمولة؛ إذ أصبح كثير منهم يستخدم الحرف اللاتيني في الكتابة معوضا النقص في الحروف بأرقام من النظام نفسه،  فضلا عن استخدام لغة ثالثة  أو  رابعة  تدمج الإنجليزية في العربية فيما يطلق عليه العربيزي. على أن هذه الظاهرة لا تزال محدودة الأثر باستخدامها في مجال التواصل اليومي العفوي ، حتى إذا ترك الشباب هذه المواقع عادوا إلى الكتابة بالعربية في الشئون الرسمية والتعليمية والثقافية.

وأخوف ما يُخاف منه أن تتسلل مع الوقت إلى المواقف الثقافية والرسمية، وإن كنت أوقن أن هذا لن يحدث في المدى المنظور، أو لن يحدث أبدا.

وبعد؛ فمن المؤسف أن الدول العربية لا تقوم بالحماية الواجبة لهذه اللغة  القومية؛ فلم تتخذ أي دولة القرارات الحاسمة قولا وعملا التي تعيد لهذه اللغة مكانتها وسيادتها في وطنها بإصلاح حاسم للتعليم، والإعلام، والاقتصاد، ولم تتح للغة القومية أن تكون الوسيلة الأساسية لتعميم المعرفة العلمية، والتكنولوجية، ونشرها، وتوطينها. ومعروف أن توطين المعرفة ونشرها لا تستطيعه لغة أجنبية.

ولعل فيما ذكرته ما يكفي لبيان حاضر اللغة العربية ومستقبلها بين اللغات العالمية،  ودحض ما نسبه بعض الباحثين إلى الأمم المتحدة وتناقلته الصحف السيارة وردده كثير من الباحثين من القول بأن اللغة العربية مهددة بالانقراض ؛ فللغة العربية من عناصر البقاء الراسخة التي ذكرناها ما يؤكد بقاءها حية قوية بين اللغات الكبرى في العالم، لكن من اللازم أخذ النذر التي تترصد عناصر البقاء مأخذ الجد، ووضع السياسات والخطط المستقبلية الكفيلة ببقائها وحيوتها، وهو فرض عين على كل ابن من أبنائها، وفي مقدمتهم من يملكون اتخاذ القرار، وحمل الناس على تنفيذه بقوة السلطان.

أخبار الساعة

الاكثر قراءة