عندما يكون الحديث حول اللغات، فلا بد أن ننحني احتراما للعربية لعظم قدرها وقيمتها وشموخها، وأن نقف بخشوع وإجلال، ونحن ندخل محرابها، وأن نشعر بالقداسة ونحن نلامس حروفها بألسنتنا، تلك اللغة الشريفة العريقة، التي صنعت لنا تاريخا ثقافيا وحضاريا طويلا، وأرست في قلوبنا دعائم حبها، وزرعت فينا بذور التعانق مع تراثنا العلمي والأدبي والإنساني المضيء، من يعرف قيمة العربية من أهلها فلا بد أن تتأهب أفكاره لصياغة أجمل العبارات للحديث عنها، وأسمى صور البيان لوصفها، وأرقى الأناشيد والقصائد لبيان ماهيتها فصاحة وبلاغة وقوة وعذوبة ودقة وألقا وموسيقى.
نستطيع أن نلمس الفصاحة فى معانيها، والبلاغة فى مقاصدها، والعذوبة فى كلماتها، والقوة فى حروفها، والدقة فى معاجمها، والألق فى دلالاتها، والموسيقى بين سطورها.
فالعربية تؤسس إدراكنا لنتأكد أننا نحتمى بها هوية وانتماء ووجودا وتاريخا وثقافة وفكرا، إنها تمثل الحياة للعربي، فلا حياة بدون لغة، فهى رمز الهوية والعزة والكرامة والشموخ والبهاء، رمز الولاء والانتماء رمز الإنسانية والقوة والمتعة والحماية فاللغة العربية بشموخها رمز لأيديولوجيتنا وكينونتنا ووجودنا.
مفهوم الوعى اللغوى وطبيعته
الوعى هو المعرفة والإدراك والفهم لطبيعة القضية التى يهتم بها الإنسان معرفة تتسم بالعمق وإجادة الفهم لكل جوانب القضية المطروحة، يستتبعه من أنواع الوعى الأخرى: وعى حضارى واجتماعى ونفسى واقتصادى وسياسي، وكذلك الوعى بالقدرة على حلول المشكلات والإمكانات المتاحة لذلك والقادر عليها مجتمعه.
مستويان للوعى اللغوى
هناك مستويان للوعى اللغوى يختلفان باختلاف الأشخاص:
1 - المستوى الأول: المستوى العام، وهو الوعى اللغوى لدى عوام الناس ومن مظاهره الوعى بقيمة الفصحى وأن اللغة أداة للتفاهم، والوعى بقيمة اللغة حتى ولو كان غير قادر على استخدامها، وهذا الوعى مطلب عاجل واجب تنفيذه من كل المؤسسات المهتمة بتنمية الوعى مما ينتج عنه ضرورة الارتقاء اللغوى والافتخار بعربيتنا وعروبتنا.
2 - المستوى الثاني: المستوى الخاص لدى المثقفين والمتعلمين، ومن أساسياته أن يكون قد جسد الوعى فى المستوى الأول، ثم يستتبعه المستوى الخاص، هو ضرورة الوعى بقواعد الاستخدام اللغوى للفصحى وتجسيد القدرة علىاستخدامها قراءة وكتابة وفهما، وبطبيعة الحال، فإن من لا وعى له فلا فكر ولا منهج له، والوعى هنا يعنى الوعى الفكرى بكل مظاهره اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا، فاللغة مدخل مهم إلى كل أنواع الوعي، وهنا نشير إلى تصور الدكتورة نعمات أحمد فؤاد التى تؤكد من خلاله أن المستعمرين أدركوا أهمية اللغة فى تشكيل الوعى السياسى فكانت أهدافهم منصبة إلى اللغة العربية لأنها لغة ودين أيضًا، واستطاعوا أن يضعفوها فى بعض البلاد العربية، وكانت وثيقة طرابلس 1962 بمثابة إعادة الاعتبار للغة العربية وإعادة القومية العربية، ولهذا فطن رائد الاقتصاد المصرى طلعت حرب إلىإسقاط الألفاظ الأجنبية التى كانت مستخدمة فى البنوك والمعاملات التجارية وأحل بدلاً منها الألفاظ العربية، وجعل اللغة العربية هى اللغة الرسمية فى هذه البنوك وفى الشركات التى كانت تابعة لها، ولهذا اتخذت مصر من اللغة العربية سلاح مقاومة ضد الاستعمار بفضل وجود الأزهر الشريف ودفاعه عن اللغة العربية، ولهذا كتب كرومر قائلاً: إن مصر بلد لن يدوم فيه الاستعمار طويلاً، لكن ما يحدث الآن من إهانة للغة العربية فى مؤسساتنا المختلفة وفى استخداماتنا اليومية ينذر بالخطر، والبداية يجب أن تكون بالاهتمام بتدريسها بشكل جاد لأطفالنا فى المرحلة الابتدائية والعناية بتدريس التراث العربي.
يذكر التاريخ إدراك كثير من قادة العالم والحكومات المستعمرة أهمية اللغة فى صنع الثقافة والسيطرة على الشعوب، فخططوا لاستعمار ثقافى يعرفون الطريق إليه وكانت البداية من اللغة، حيث تحمل لغة غيرهم الثقافة المضادة، ومن هنا فلا بد – فى خطتهم - من الحرب اللغوية المعلنة وغير المعلنة، ولعل فيما يلى من نماذج لأقوال وأفعال هؤلاء القادة ما يؤكد كلامنا:
1 - يقول أحد الحكام الفرنسيين لجيشه المنطلق إلى الجزائر للاستيلاء عليها:
"علموا لغتنا وانشروها حتىتحكم الجزائر، فإذا حكمت لغتنا فقد حكمناها فعلاً" ولنتأمل كيف تكون اللغة حاكمة لدولة وشعب.
2 -بعد مائة عام على احتلال الجزائر يقول أحد الحكام الفرنسيين عن الجزائريين:
"يجب أن نزيل القرآن العربى من وجودهم ونقتلع اللسان العربى من ألسنتهم حتى ننتصر عليهم"
3 -البرلمان الفرنسى يشكل لجنة لغوية للاهتمام بالفرنسية ونشرها وتفعيل دورها عالمياً ضد غيرها من اللغات.
4 -دعوة بعض الأوروبيين، وهم مسئولون كبار إلى ضرورة كتابة العربية بالحروف اللاتينية، أو التحويل إلى الكتابة باللهجة العامية، وفى ذلك إضعاف للعربية وتقليل من شأنها، وذلك يؤكد أن اللغة مركز الصراع وأساسه، وأن إضعاف اللسان العربي، من وجهة نظرهم، إنما يعلى من قيمة حضارتهم.
ومن هنا كانت تنمية الوعى اللغوى فى المستوى الثانى فى حاجة منا إلى مجهود كبير ، يظهر فى تصور الدكتورة فردوس البهنساوى التى تؤكد فيه أن تنمية الوعى اللغوى يبدأ بمساعدة المتعلمين على تذوق اللغة وتقديرها، وذلك عن طريق التركيز على ما يميز اللغة العربية عن غيرها ليمنحها شخصيتها المتفردة.
مظاهر أزمة ضعف الوعى اللغوى
تتنوع المظاهر وتتعدد، نذكر منها على سبيل المثال ما يلى:
1 - الإسفاف اللغوى الواضح للغة الإعلانات أو ما يطلق عليه عولمة الإعلانات واللغة حيث تظهر هذه العولمة فى كثير من الأشكال المختلفة حيث تمثل خطرا كبيرا محدقا بأبناء اللغة. والإعلام اليوم يساعد على ذلك، فهو يلعب دورا مهما فى شيوع هذه الأخطار فى كل صوره المرئية والمسموعة والمكتوبة.
وتتعدد صور هذه الإعلانات إلى: إعلانات التلفاز – إعلانات الصحف – إعلانات الجامعات والمؤسسات العربية عن وظائف شاغرة وكلها تقدم إما باللهجات العامية أو بلغات أجنبية مسيئة إلى اللغة العربية.
2 - خجل المتعلمين من معرفة غيرهم عنهم أنهم متخصصون فى دراسة العربية والسخرية من العربية ومن متحدثيها وخاصة فى وسائل الإعلام: الإذاعة والتلفزيون فى المسلسلات، وكذلك فى المسرح وأيضا فى الشارع العربي.
3 - الترويج لتغيير الخط العربى إلى أشكال متنوعة نذكرها فيما يلي:
- الدعوة إلى استخدام العامية بديلا حتميا عن الفصحى، وضرورة كتابة الأدب باللهجة العامية.
-الدعوة إلى تغيير شكل الحرف العربى إلى حروف لاتينية (خطورة ذلك واضحة) القطيعة مع التراث وفقدان الهوية العربية والثقافة العربية.
- نداء البعض ودعوتهم إلى ضرورة تغيير شكل الحرف العربى فى صور وأشكال غريبة مثل الحمام والعصافير والأبواب والشبابيك والأشجار إلخ, وقد طرحت نماذج من هذه الأشكال على مجمع اللغة العربية ورفضت رفضا قاطعا، وكذلك طرحت فى جامعة الدول العربية خلال انعقاد مؤتمر جمعية لسان العرب عام 1999 م ورفضت أيضا.
4 - التوسع فى التعليم باللغات الأجنبية والترويج للعبارة التالية:
إن تخلف العربى ليس له سبب إلا حين تمسك بلغته فى جميع مراحل التعليم.
5 - ضرورة تغيير قواعد النحو إلى صور غير مفهومة مثل ترك الإعراب أو اللجوء إلى التسكين وطرح العلامة الإعرابية.
6 - اتهام اللغة العربية بالعجز عن مواكبة روح العصر وأنها غير قادرة على استيعاب المصطلحات الحديثة.
7 -إشاعة أن الإنجليزية أكثر دقة من العربية وأنها أكثر اختصارا وأكثر قدرة علىالتعبير ، وأنها أكثر سهولة، وهذا كله زيف وبهتان، القصد منه الترويج للغة الإنجليزية أو غيرها من اللغات.
النتائج المترتبة على ضعف الوعى اللغوي
يترتب على ذلك كثير من النتائج منها:
1 - الانقطاع عن التراث والحضارة العربية، وبالتالى نصبح شعبا بلا هوية ولا تاريخ ولا حضارة (وتجربة كمال أتاتورك فى تركيا واضحة).
2 - التفرق اللغوي (انقسام اللغة إلى لهجات) وبالتالى تفرق الناس فكرا وثقافة ووعيا وفهما. وعدم القدرة على التفاهم، وبالتالى لن تصبح الثقافة وسيلة للترابط.
3 - فقدان التوحد اللغوى يؤدى إلى التفرقة الثقافية، وبالتالى يؤدى إلى فقدان الانتماء العربي.
4 - فقدان الروابط بين الأجيال المتعاقبة، بل وفقدانها فى الجيل الواحد.
5 - فقدان الترابط بين الأجيال فى البلدان المختلفة.
6 - فقدان الإحساس بالإبداع الأدبى وبالجمال فيه (فلا بلاغة ولا إبداع).
7 - عدم الوعى بطبيعة الصراع اللغوى على مستوى العالم، وبضرورة حرص كل أمة على أن تبقى لغتها حية نابضة بالحيوية.
وعدم إدراك طبيعة الصراع اللغوى بين العربية وغيرها من اللغات الأخرى، وعدم القدرة على المنافسة الحقيقية للحفاظ على اللغة، وعدم قدرتنا على تحليل المقولات التى تهدف إلى تقليل نفوذ اللغة العربية فى المجتمع الدولى وأن ذلك يتم بشكل منظم.
- عدم اعتزاز العربى بلغته، فنحن لا نعتز بها اعتزاز الألمان أو الأسبان أو الإنجليز أو الفرنسيين. وأن عقدة الخواجة ستسهم بشكل فعال فى التقهقر اللغوى العربي.
والسؤال المطروح الآن هو: كيف نخرج من هذه الأزمة ونحافظ على لغتنا وبالتالى على هويتنا؟
والإجابة عن هذا السؤال تتمثل فى تجسيد مجموعة من المبادئ ومن أهمها:
أولا : تفعيل دور وسائل الإعلام المرئية والمسموعة بطرق كثيرة من أهمها:
أ- بث روح الوعى اللغوى فىنفوس الناس.
ب -تحبيب الناس فىاللغة العربية وبيان محاسنها.
ج - الارتقاء بلغة الحوار والإعلاء من شأن العربية فى هذا الشأن.
د -عدم السخرية من اللغة وعدم إذاعة ما يشيع ذلك.
ومن المناسب هنا التأكيد على دور الصحافة فى نشر الوعى اللغوى ومعالجة أشكال الضعف اللغوى حيث لوحظ فى بعض الصحف مايلي:
أـ الدعوة إلى العامية لتكون لغة كتابة للصحيفة وللصحف ما دامت هى لغة حوار.
ب- الكلام عن اللغة وبث الوعى اللغوى من الأشياء غير المحببة لدى وسائل الإعلام ولهذا لجأت إلى المحبب الذى تثير نزعة التلذذ بمصائب الناس والابتهاج بها.
ثانيا :تفعيل دور المؤسسات المعنية باللغة العربية، مثل مجامع اللغة العربية وجمعيات حماية اللغة العربية فى العالم العربى وغير ذلك من مؤسسات تعنى بالعربية، وذلك بترويج منجزاتها من قرارات واقتراحات ومصطلحات وتفعيل دور كل المؤسسات التى تستطيع المساعدة فى هذا الجانب مثل: وزارات التربية والتعليم والتعليم العالى فى الدول العربية، فاللغة هى الوسيلة الأولى إلى الحفاظ على الهوية وكذلك صنع تواصل حضارى وتفاهم بين المتحدثين فينبغى أن نكون أكثر اهتماما بها.
ثالثا: تفعيل دور كل مؤسسات المجتمع المدنى للقيام بدور فعال للحفاظ علىاللغة وإنقاذ الهوية العربية من الضياع.
رابعا: دعوة الحكام والمسئولين إلى الالتفات لهذا الأمر وإصدار قرارات تخدم العربية وتساعد على الاهتمام باللغة واستخداماتها.
وهنا نؤكد أن كل هذه عوامل تغرس فى النفس وعيا لغويا حضاريا يؤسس للغة مشتركة توحد الفكر والثقافة، وبالتالى تحافظ على الهوية بكل مظاهرها.