الأربعاء 22 يناير 2025

ثقافة

من الجنون إلى العبقرية| «أوجست سترندبرج.. رائد المسرح النفسي»

  • 22-1-2025 | 08:44

أوجست سترندبرج

طباعة
  • همت مصطفى

روائي وكاتب مسرحي سويدي، عاش حياة حافلة بالإنتاج الغزير من المؤلفات، وبالأحداث المثيرة والعجيبة،  وهو من معاصري إبسن وتشيكوف، وبه يكتمل الثلاثي الرائد الذي قاد حركة المسرح الحديث منذ أواخر القرن الماضي إلى مطالع القرن العشرين، وأعطاه ملامح التجديد فيه إنه  الأديب  والمسرحي أوجست سترندبرج «أوغست ستريندبرغ». 

كتب «سترندبرج» أنواعًا عديدة من المسرحيات، فهناك مسرحياته التاريخية ومسرحياته الطبيعية نسبة إلى المذهب الطبيعي ثم مسرحياته الشاعرية الخيالية التي تميز بها بين كتاب عصره، ولعل هذا يعود إلى طبيعة العبقرية والجنون في شخصيته مما جعل حياته القاسية، وتقلباتها مصدرًا من أهم مصادر مؤلفاته الأدبية، وجعل دراستها من أهم العوامل لفهم مسرحياته.

طفولة قاسية في حياة عاصفة

ولد أوجست سترندبرج في 22 يناير 1949م،  في ستوكهولم بالسويد، وورث  توتره العصبي والنفسي من واقع معاناته نتيجة طفولته البائسة في أسرة تتكون من أم تنتمي لعائلة فقيرة، وكانت تعمل في محل لبيع المسكرات أما الأب فهو من بقايا عائلة أرستقراطية قديمة لا يقوى على إعالة أسرته الكبيرة التي تضم عددا من الأطفال الجائعين، وتسببت  قسوة الوالد في توجيه أطفاله عدة عقد في نفس الطفل  «سترندبرج» الذي أصبح عصبي المزاج، حاد الطباع لا يقوى على كبح جماح غضبه

كره «سترندبرج» الدراسة الكنسية التي فرضها والده عليه وقرر أن لا يؤمن بالعقيدة المسيحية، ثم اتجه لدراسة الطب فوجد نفسه أبعد ما يكون عنها، ثم تقلب في القيام بعدة أعمال منها التدريس ومكتب البرقيات والصحافة، ثم مارس التمثيل فترة إلى تم تعيينه في المكتبة الملكية بستوكهولم في الفترة من 1874 م إلى 1882 م وهي الفترة التي أحس فيها «سترندبرج» بشيء من الاستقرار.

تجارب مريرة مع الزواج

تزوج «سترندبرج» في سنة 1877 م،  للمرة الأولى من الممثلة «SiriVon Essen» التي طلقت زوجها من أجله، لكن رواسب القهر والحرمان والشك في أعماق«سترندبرج»  جعلت من هذا الزواج عاصفة هوجاء تدمر كل شيء وربما كان الصراع المحتدم في نفسه بين مكانة أمه الوضيعة، وأرستقراطية والده الضائعة والطفولة البائسة هي التي جعلت منه فنانًا متفردًا بكراهية كل النساء، وهذا انعكس  بعد ذلك على سلوكه الشخصي، وعلى مؤلفاته وكتاباته.

وتزوج «سترندبرج» ثانية من صحفية فينيسية «Frida Uhl » وتحول هذا الزواج إلى تجربة مريرة أخرى دمرته، ففي أقل من عام كانت عاصفة من المشكلات والشكوك بينه وبين زوجته، واتضح أن «سترندبرج» موقفه من المرأة والزواج موقفًا مَرَضيًا وبعدها أصيب  بانهيار عصبي أقعده خمسة أعوام بعيدًا عن الحياة الأدبية خرج بعدها إلى تجربة زواج ثالث وكان من الممثلة الشابة «Harriet Bosse» سنة 1901 م فعاشت بعده نصف قرن وماتت سنة 1962 م.

 العبقرية والجنون في رحلة سترندبرج 

عاش «سترندبرج»  في حياة عاصفة، ولم تكف عبقرية الجنون عنده عن العطاء الفني المتميز الذي عكس تجاربه المتقلبة مع الحياة المريرة مع المرأة، وكان ثمار  زواجه الأول مجموعة من القصص هاجم فيها  النساء وحركة المرأة فصدرت في كتاب بعنوان «متزوج»  من مجلدين الأول صدر سنة 1884 م والثاني سنة 1886 م وتصور هذه القصص المرأة بأنها طاغية، وكائن شرس لا يندم، وأنها خلقت لتستغل الرجل وتعبث به.

مراحل فكرية لإبداع «سترندبرج»

ومر«سترندبرج» بعدة مراحل فكرية تقلب فيها بين المذاهب فأصبح  من الربوبيين «Deist»، يؤمن بالله وداعية لإقرار السلام، وترك استخدام العنف وأصبح نصيراً لفكرة المذهب الاشتراكي في الأدب الموجه لمنفعة المجتمع وآمن بنظرية «جان جاك روسو»، التي تقول بأن مستقبل الحضارة يكمن في العودة إلى الطبيعة وحياة الفلاح البسيط ثم تأثر بفكرة الرجل الخارق «The Superman» عند الفيلسوف «نيتشة» التي أعانته في الخروج على الإعراف الاجتماعية وهو يعتبر من أعمدة المذهب الطبيعي الذي دعا إليه الكاتب الفرنسي «إميل زولا» في الأدب وتأثر به المسرح أكثر من غيره من الفنون.

المذهب الطبيعي في مسرح «سترندبرج»

وظهرت كانت الملامح الواقعية في مسرح  «سترندبرج» من مرحلة مبكرة، إلا إنها ازدادت وضوحًا بعد إطلاعه على نظرية «زولا» عن «الطبيعية» سنة 1883 م. وكان أثر هذه النظرية واضحًا في أعماله الواقعية الطبيعية وخاصة مسرحيتي «الأب» 1887م، و «الآنسة جوليا»  1888 م وأصبحت هاتان المسرحيتان خير مثال للمذهب الطبيعي وللنظرية العلمية المادية وهو ما قال به الفيلسوف الفرنسي «أوجست كونت»، وعالم الأحياء والطبيعة  «دارون».

مسرحيتي الأب و الأنسة جوليا

نشرت مسرحية «الأب» سنة 1887 م، وهي تتصدر مؤلفات «سترندبرج» في معركة الصراع بين الرجل والمرأة أو كما يقال، هي أهم ما كتب في خصومته للمرأة، حيث يرى«سترندبرج» من خلال أحداث مسرحيته أن الحياة حرب يقع فيها الفرد تحت رحمة ظروف بيئته القاسية، وأن الحب في نظره هو «معركة بين زوجين كتب عليهما أن يدمر كل منهما الآخر في محاولة التوحد».

أما مسرحية «الآنسة جوليا» فهي أكثر من مسرحية «الأب» في التزامها بالمذهب الطبيعي بل إنها كما يرى النقاد أكثر التزامًا من مسرحيات «زولا» نفسه،  والمسرحية عبارة عن صراع بين إرادتين كما هو الحال في مسرحية «الأب» غير أن شخصيات هذه المسرحية أكثر تعقيدًا من الأولى.

من الجنون إلى طاقة مبدعة

وتعرض الكاتب المسرحي السويدي أوجست سترندبرج في منتصف حياته الفنية إلى أزمة روحية وانهيار عصبي أدى به إلى الجنون تقريبًا في الفترة من 1892م إلى 1898م، وهي الفترة التي لم ينتج فيها أي عمل أدبي، وبعدها بدأ«سترندبرج» مرحلة جديدة في حياته الأدبية؛ فأصبح من أوائل وأهم الأدباء العالميين الذين وظفوا طاقات العقل الباطن في أعمالهم الفنية والدراما خاصة، واتجهت اهتماماته من الطبيعية والنظرية العلمية المادية إلى دراسة الأديان الشرقية، وفلسفة «شوبنهاور»  و«نيتشة» ويعود «سترندبرج» في سنة 1898 م إلى الحياة الأدبية بطاقة مبدعة فيكتب في أقل من اثني عشر عاما ما يزيد عن ثلاثين مسرحية جديدة.

«سترندبرج» .. رائد الاتجاه النفسي

حقق  «سترندبرج» شهرة واسعة  بمسرحياته الطبيعية الواقعية مثل «الأب» و«الآنسة جوليا» وغيرها من المسرحيات التي تدور حول الصراع بين الرجل والمرأة إلى جانب مسرحياته التاريخية، لكنه اكتسب مكانة عالمية أكبر بالمسرحيات التي كتبها بعد فترة الجنون وأصبح رائدا للاتجاه النفسي في المسرح بمسرحيات «الحلم والعقل الباطن»، فإلى جانب الأزمة النفسية التي مرَّ بها، رسمت له مسرحيات البلجيكي «موريس ميترلنك» (1861 - 1949 م) رائد المدرسة الرمزية في المسرح بعض المعالم على طريقه الجديد، و أحدثت نظريات «سيجموند فرويد» (1856 - 1939م) وما قدمه من نظرية في تفسير الأحلام وتحليل العقل الباطن وعلاقته بسلوك الإنسان، أثرا كبيرًا على الكتاب، والمبدعين  فوجد كُتاب المسرح وفي مقدمتهم «سترندبرج» من هذه النظرية النفسية أساسًا يقيمون عليه تفسير سلوك أبطالهم.

الطريق إلى دمشق .. والاتجاه التعبيري

بدأ «سترندبرج» يكتب مسرحياته التعبيرية وهي المسرحيات التي تسمى «مسرحيات الحلم» و«مسرحيات الغرف الصغيرة أو الخاصة»  وهذا المصطلح الأخير يتفق مع رؤيته للمسرح التي تقول بأن كل من صالة الجمهور وخشبة المسرح يجب أن تكون صغيرة الحجم مختصرة وخالية من المبالغة، و هذا النوع من المسرحيات جعل «سترندبرج» يتميز عن غيره من معاصريه، وكان أول ما كتب من هذا الاتجاه ثلاثيته المشهورة «الطريق إلى دمشق»،  صدر منها الجزء الأول والثاني سنة 1898 م والجزء الثالث سنة 1901 م.

«الطريق إلى دمشق» من حياة «سترندبرج» الشخصية

«الطريق إلى دمشق»  مستمدة من حياة  «سترندبرج» الشخصية، فالبطل يتخلى شيئا فشيئا عن ممتلكاته الدنيوية من ضمنها الشهرة والنساء، وعندما لم يبقَ هناك شيء يتجه إلى دير غير طائفي ولا متعصب للعقيدة المسيحية فيكرّس حياته لخدمة الإنسانية جمعاء، وكأن المسرحية تصور أحلام وطموحات «سترندبرج» من معانقة الإنسانية ومحاولته الخروج من الموضوعات المحدودة كموضوع الصراع بين الجنسين، وفي هذه المسرحية كما في غيرها من المسرحيات التي لحقتها يحاول المؤلف «سترندبرج» أن يصور قصة شعور الإنسان بالضياع وعدم الانتماء والبحث عن معنى في عالم لا يمكن فهمه من وجهة نظره، من خلال التعرض لبعض القضايا كالحب والشهوة، والروح والجسد، والجمال والقبح.

وتعتبر مسرحية «حلم»  1902 م أهم وأشهر مسرحياته الأخيرة لأنها تقدم لنا خلاصة اهتماماته الفكرية وتقدم لنا صورة للشكل الدرامي عنده الذي كان المثال الذي احتذاه كُتاب المسرح غير الواقعي الذين جاؤوا من بعده، وخاصة أتباع التعبيرية في ألمانيا، وكتب  مسرحية صغيرة كتبها  في أواخر حياته عنوانها «حذاء أبي القاسم»، وجاءت في إطار علاقة «سترندبرج» بالثقافة العربية الإسلامية.

فلسفة «سترندبرج»

نلتقي بفلسفة «سترندبرج» على لسان الشاعر الذي يعطينا تفسيره وهو أن العالم مبتلى بالصراع بين قوتين قوة الروح وقوة الجسد، الخير والشر، يعاني الإنسان في دنياه لأنه معلق بين الأرض والسماء، حائر بين أشواقه الروحية التي تدعوه إلى السمو وبين شهواته الدنيوية التي تجره إلى الأرض.

ويرى «سترندبرج» أن الفهم والتسليم بمصائب الحياة يُعلمان الصبر على البلاء وأن لا سبيل لسعادة الإنسان إلا بخلاص الروح من كل القيود المادية التي تثقلها وتجرهاه إلى وحل الأرض! وهو يلتقي مع التصور الإسلامي في وضع يده على مآسي الإنسان ومتاعبه في دنياه وتمزقه بين محاولة السمو بروحه والخضوع لشهواته ولكنه يختلف مع التصور الإسلامي في الحل الذي يضعه إذ لا يمكن لإنسان أبداً أن يتحرر من ثقله المادي ولكنه يستطيع أن يوازن بين المطالب بلا إفراط ولا تفريط وعندئذ يكون الثقل المادي عونا على سمو الإنسان بروحه وهذا ما لم تدركه فلسفة  «سترندبرج» التي لا تعرف الوسطية، «فلسفة العبقرية والجنون».

عودة «سترندبرج» إلى البداية

ولم تجعل مسرحيات الحلم واللا شعور «سترندبرج» ينقطع تماما عن موضوعاته الأثيرة الأولى التي بدأ بها حياته المسرحية، ففي سنة 1899م عاد إلى المسرحيات التاريخية بعد أن هجرها لمدة سبعة عشر عاما فأصبح أكثر من ثلث مسرحياته الأخيرة يعالج موضوعات تاريخية، والتي لم تقتصر موضوعاته على تاريخ السويد فقط، بل امتد إلى رقعة واسعة من العالم ولعدة عصور وتميزت هذه الأعمال باختلاف كل مسرحية عن الأخرى في الأسلوب والبناء الدرامي.

ولم يتخل «سترندبرج» عن موضوعه الأثير «الصراع بين الرجل والمرأة» أو معركة الجنسين التي بدأها بمسرحيته «الأب» و «الأنسة جوليا»، فعاد وكتب مسرحية «رقصة الموت» سنة1901م بالأسلوب الواقعي الطبيعي، وتؤكد هذه المسرحية أن معركة الجنسين أو علاقة الحب والكراهية بين الرجل والمرأة، ظلت تشغل   «سترندبرج» طوال حياته، حيث نجد أن تصويره لهذه العلاقة من هذه المسرحية يفيض بمرارة أكثر مما احتوته مسرحياته الأولى!.

ورحل  صاحب «فلسفة العبقرية والجنون».. أوجست سترندبرج عن عالمنا في 14 مايو 1912 عن عمر يناهز الـ 63 عاما في مسقط رأسه ستوكهولم بالسويد.

الاكثر قراءة