قال مفتي الجمهورية، الدكتور نظير عياد، إن الفتوى مهمة عظيمة جليلة، تولى شأنها النبي ﷺ، ومن بعده الصحابة والعلماء الذين ساروا على نهجه حتى يومنا هذا وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، موضحًا أن الفتاوى المتشددة لا تتوافق مع مراد الشريعة ولا تنسجم مع مقاصدها الكلية.
وأضاف المفتي - في كلمته خلال ندوة ضمن فعاليات معرض القاهرة الدولي للكتاب تحت عنوان الفتوى والعالم الرقمي - أن الفتوى تعمل على تحقيق السلم والأمن في المجتمع، حيث توازن بين النص الديني ومراد الله سبحانه، لتكون صالحة لكل زمان ومكان، مشيرًا إلى أن هذا يتطلب أن تكون الأحكام الشرعية متجاوبة مع المستجدات والقضايا المعاصرة، محافظة على قدسية النصوص ومكانتها، ومواكبة لتطلعات الواقع وظروفه.
وأشار إلى أن ذلك يتطلب من المفتي نظرة دقيقة وتأنياً في التعامل مع النصوص الشرعية، والاستفادة منها بما يحقق الخير للناس، مع مراعاة مقاصد الشريعة التي تتنوع بين الضرورية التي تتوقف عليها الحياة، والحاجية التي ترفع المشقة، والتحسينية التي تضفي جمالاً وانتظاماً على الحياة.
وأوضح أن الفتوى الرشيدة تنبع من عقل واعٍ مستنير يجمع بين النهج العلمي والشرعي والوعي الإنساني والاجتماعي، مع فهم عميق لمقاصد الشريعة، وعندما تتحقق هذه الشروط، تصبح الفتوى وسيلة لبسط الأمن وجلب السلم والسلام داخل المجتمعات.
وقال إن التطاول على الدين أو الخروج عن نهج الفتوى الرشيدة ينبغي أن ينظر إليه على أنه من جوانب الأمن القومي للمجتمعات، لأن الفتوى ترتبط بحكم شرعي يتعلق بالحلال والحرام أو الإباحة والمنع، ومن هنا تأتي ضرورة وجود مؤسسة متخصصة تضطلع بمسؤولية الإفتاء، وتعمل ضمن إطار الأحكام الشرعية وفق التكليف المحدد.
وأضاف أنه نظرًا لأن النصوص الدينية محدودة مقارنة بالقضايا الواقعية المتجددة، فإن المؤسسات تدرك أن الفتوى ليست مجرد رأي، بل هي تكليف ومسؤولية وأمانة، والمفتي ينظر إليه كقاضٍ، وقد ورد أن القضاة ثلاثة: أحدهم في الجنة، وهو من حكم وفق مراد الله، والثاني في النار، وهو من جنح لهواه، والثالث في النار أيضًا، وهو من أفتى بغير علم.
وقال إنه يتضح بذلك أهمية وظيفة المفتي، التي يجب أن تقوم على أسس علمية دقيقة واختيار فقهي راسخ، مع مراعاة المقاصد الشرعية والربط بين النصوص ومآلاتها الواقعية، بعيدًا عن الهوى أو الرؤية الأحادية.
وأضاف المفتي أنه من أبرز التحديات التي تواجه مؤسسات الفتوى هي الفوضى الناجمة عن تصدر بعض الأفراد الذين ينسبون لأنفسهم القدرة على الإفتاء دون علم أو تخصص.
وأشار إلى أن قضية الفتوى والإفتاء هي أمانة عظيمة ومسؤولية كبيرة، وهي تكليف لا تشريف، ولهذا، تولى الله سبحانه وتعالى أولاً الإعلان عنها، حيث أكد أنها تصدر عنه، ثم نقلها إلى النبي ﷺ ليقوم ببيانها وتبليغها، ومن بعده انتقلت إلى الصحابة والتابعين، الذين ساروا على النهج الصحيح في حمل هذه الأمانة.
وتابع أن أحد أبرز التحديات التي تواجه الفتوى اليوم هو التعدد الفكري والتنوع المعرفي، و في ظل هذه التنوعات، تصبح الفتوى مطالبة بأن تراعي هذه الجوانب بشكل دقيق، مما يستلزم وجود أسلوب ونمط معينين يتناسبان مع طبيعة المستويات الفكرية المختلفة، والتنوعات الثقافية والدينية.
وشرح بأن التخصصية في الفتوى تستند إلى قول الله تعالى: "فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون". وإذا أردت أن تصل إلى فتوى موثوقة تراعي جميع الحقوق؛ حق الله، وحق النفس، وحق العباد، وحق المجتمع والكون، فلا يمكن تحقيق ذلك إلا من خلال مؤسسات دينية وعلمية.
وقال إن هذه المؤسسات تنطلق من موقع المسؤولية، ليس فقط الدينية، بل أيضًا الأخلاقية والمجتمعية، حيث أن المسؤولية الدينية تعتمد على النصوص الشرعية التي تنظم العلاقة بين المفتي ورعيته، فهو بمنزلة الراعي، وكما ورد: "كفى بالمرء إثمًا أن يضيع من يعول"، كما أن هناك مسؤولية قانونية، حيث يكفل القانون لهذه المؤسسات دورها في بيان الأحكام الشرعية، أما المسؤولية الأخلاقية، فهي تنبع من إدراك المفتي أن الناس قد يجهلون الكثير من الأمور، مما يستدعي الترفق بهم وتوجيههم نحو الحكم الشرعي بأسلوب يتناسب مع قدراتهم العقلية.
وأوضح ان هذه المؤسسات تعمل على تقديم خطاب رشيد يراعي المستويات الفكرية المختلفة، انطلاقًا من القاعدة: "خاطبوا الناس بما يفهمون"، حتى لا يُكذَّب الخطاب الشرعي أو يُساء فهمه.
كما أوضح أن الفتوى ذات مصدر رباني، وبما أن الفتوى ربانية يجب أن تكون صالحة لكل زمان ومكان، فلا بد أن تتجاوب مع القضايا والأحداث المتجددة، مشيرًا إلى أن مرونتها تفرض أن تكون قادرة على تطبيق كتاب الله في الواقع العملي، وإذا افتقرت الفتوى إلى هذا التوافق، فإنها تفقد صلتها بالشريعة، التي تظل بريئة من أي فتوى لا تتسم بهذه الأسس.
وقال إنه لوجود علاقة وثيقة بين مقاصد الشريعة وبين عملية الاستنباط من النصوص الدينية، فإن هذا الاستنباط لا يتحقق إلا بسعة الأفق، ورجحان العقل، وحسن الفهم، وجودة الذهن.
ولعل هذا ما جعل النبي ﷺ يُسر عندما سأل سيدنا معاذ: "بما تحكم؟" فأجاب: "بكتاب الله". وهذا يؤكد أهمية العدالة والرجوع إلى أصول الشريعة، ومع ذلك، نجد في كل عصر من يتطاول على الفتوى، ويصدرها بناءً على رأيه أو فكره أو مذهبه الخاص، مما يؤدي إلى فوضى في الفتاوى وتشويه حقيقتها.
وكشف أنه في دار الإفتاء، يتم العمل على مواجهة هذه الفوضى من خلال إنشاء مراكز تدريب تهدف إلى إعداد مفتين تتوافر فيهم صفات محددة، تُمكِّنهم من أداء دورهم بدقة، بما يضمن توصيل الفتوى عن الله وعن الشريعة بشكل صحيح وواعٍ.
وأكد على أن الفتوى قضية أمن قومي لا يمكن أن تُترك للأفراد، بل تتطلب مؤسسية تامة لضمان تحقيق الأمن الفكري الذي يرتبط بشكل مباشر بالأمن المجتمعي. المؤسسات وحدها هي القادرة على تحمل هذه المسؤولية، حيث تعمل بشكل منظم ومنهجي لضبط الفتاوى بما يتفق مع مقاصد الشريعة ومتطلبات الواقع.
وأشار إلى أن المؤسسات الدينية تلعب دورًا أساسيًا في متابعة الفتوى، حيث تقوم بتوضيحها وإضافة ما يلزم من شروحات إذا لم تكن الفتوى واضحة للمستفتي. كما تعمل على تقديم مخرجات تتعلق بالقضايا المرتبطة بالفتوى المطروحة لضمان أن تكون الفتوى موضوعية وأمينة.
وأوضح أن الهدف من هذه المتابعة هو تقديم إجابة شاملة وصادقة تلبي احتياجات المستفتي، سواء على مستوى الأمانة الدينية أو الراحة النفسية. فالمستفتي يلجأ إلى الفتوى بحثًا عن إجابة تعينه على الالتزام بتعاليم دينه، وتمنحه الطمأنينة في قراراته، مما يعزز ثقته في المؤسسات الدينية ودورها في توجيه المجتمع.
ولفت إلى أن دار الإفتاء كانت سبّاقة في استثمار التكنولوجيا الحديثة، حيث عقدت العديد من المؤتمرات في الفضاء الرقمي، وتم خلالها استعراض وتطبيق تجارب متعددة في مجال الذكاء الاصطناعي، معلنا أن الدار تعمل حاليًا على مرحلة تجريبية لاستخدام الذكاء الاصطناعي في إصدار بعض الفتاوى، مع تركيزها حاليًا على العبادات مثل الصلاة والحج.