الإثنين 3 فبراير 2025

كنوزنا

أحمد رامى يكتب.. أم كلثوم

  • 3-2-2025 | 12:38

أم كلثوم ورامى

طباعة

 رنة العود شدوها وصداها حنة الناى أو أنين الكمان خلقت آهه فكانت عزاء من هموم الحياة والأحزان وجرت دمعة فكانت شفاء للمعنى ورحمة للمعانى وسرت أنه فكانت غناء يطلق الروح في سماء الأمانى وبرأها الخلاق من خفة الظل ومن رقة النسيم الوانى وترا مطرب الحنين أغنا ولهاة كالخالص الرنان يرسل الشعر منطقا عربيا بين الآى واضح التبيان تتناغى الألفاظ فيه من النطق سليما وتستبين المعانى فإذا صورة تجلت إلى العين وغابت في مستقر الجنان هذه صورة عابرة لتلك القمرية الساحرة التي تملأ الشرق طربا وأدبا عرفتها في مستهل حياتها الغنائية بالقاهرة يسمعها ألف ينصتون إليها في استغراق فتحملهم على أجنحة الطرب الى حيث تسبح الأرواح وتتناجى القلوب. وظللت أسمعها إلى الآن فما وجدت أعذب منها صوتا ولا أمد نفسا وما لقيت أسلم منها أداء ولا أشد إخلاصا للفن. يعرض عليه اللحن المنقول لصاحبه:

“أسمعنى” وتسمعه وهى مقبلة على هذا الجديد من النغم وفى وجهها إشراقة السرور، وتظل تنصت إليه ساكنة ثم تقول له: “أسمعنى” وتسمع وفى صدرها هدير النغم وعلى شفتيها غمغمة الخالى بنفسه ثم تقول له:

“أسمعنى” وتغنى معه بصوت خافت لا يقطع عليه انطلاقه في الغناء، ثم تنظر إليه وهى تقول: “الآن اعزف أنت وأغنى أنا” ثم تغنيه وحدها وهو يعزف، فما تغنت عن الأصل قيد شعره، وقد تضيف إليه من ألوان صوتها الغنية ما يزيده عذوبه وحلاوة.. بدأت حياتها الغنائية تنشد القصائد من غير آلة تفتح لها باب النغم، أو تضبط لها الإيقاع.. أو تسير معها في الطريق إلى المقام، ولكنها أخذت وهى مبتدئة تنظم العود والطبقات، وكان لها على كثرة أسفارها وقت وقفته على الدرس، وهى بعد ذواقة دقيقة الإحساس تفطن إلى الخفى من الجمال في القول الكريم واللحن الرخيم، فلا تكتم عن صاحب اللحن إعجابها بما أبدع ولا تخفى عليه رغبته في إطالة أو مد، أو ميلها إلى سبيل جديد لاستقرار النغم.

وأحسب أن الملحن لها يقتبس من فرط إعجابها وحسن أدائها شيئاً جديدا يضيفه إلى ما أبدع.. وهى شديدة الإخلاص لهذا الفن. سهرنا ليلة نسمعها حتى امتد بنا السهر إلى أخريات الليل، وطوى بساط الطرب، وقمنا وكلنا من غنائها ريان، فسألتها وقد بدا على وجهها السرور بالغناء والاستماع: “ماذا تريدين الآن؟” قالت: “أريد صحبة من خيار سامعيكم أظل أغنى لهم حتى ينبلج الصباح!”. ورأيتها تغنى ذات ليلة وعلى وجهها مسحة الإعياء، وفى صوتها نبرة الوهن، وأسرعت في فترة الاستراحة أطمئن عليها، فوجدت طببيها يقول: “كفاك الليلة غناء” وهى تقول: “لا يسرنى أن يصرع الناس إلى من كل صوب ثم أحرمهم متعة سماعى”.

ورأيت الطبيب يعد لها حقنة تعينها على الوقوف ساعة وهى تشكو ألمها غناء عذبا وطربا فياضا.. وهى مخلصة للفن تشرف بنفسها على كل إعداد للتسجيل، من مراجعة لآلة كل عازف، ومن نقص لآلة كل مهندس، لا يخرج للناس من صوتها صدى إلا إذا مر على أذنها الدقيقة فرضيت عنه وهى في هذا القول: “ألست أسمع قبل أن أغنى”.

وهى مخلصة للفن في صبرها على مقتضياته، تحدد موعد العمل فتكون أول الحاضرين وآخر المنصرفين وتصبر في سبيل ذلك على العطش والجوع، ولا تنال آخر الأمر من الطعام إلا ما لا يسمن ولا يطعم من جوع. وتقف أمام الأضواء الحامية عند الاشتغال بالسينما حتى ينصهر جسدها وتدمع عيناها وهى لا تشكو ولا تتبرم حتى إذا انتهى العمل على ما ترضى انتحت ناحية قصية وجلست في الظلام مطرقة الرأس مغمضة العينين تعود بنفسها رويدا رويدا إلى ظلها المأنوس.

وهى لا تريد في كل ذلك جزاء ولا شكورا إلا على الذى تستحقه أمام نفسها. تغنى في بعض الليالى غناء لا يرضيها وإن أرضى سائر الناس ويهرع إليها المعجبون يكيلون لها من آيات المدح ما وسعه تقديرهم فإذا بها تقول: “لا تخدعونى، ويعرض لها الإبداع في بعض الليالى فأسمعها تقول لنفسها: “آه” فى صوت خافت يغيب في ثنايا النغم.

وهى سريعة الهشاشة إلى الطرب، تبدأ الآلات تتنغم وتتزن فيذهب بها وتغيب نظرتها في الأفق البعيد، وكأن قوامها المنسرح عود من البان يترنح في كف النسيم، ولولا أن ثوبها الفضفاض يخفى حركات جسدها الرقيق لرأيت كل جارحة فيها تتلوى من الطرب. وقد تغنى ويأخذها الطرب فيغيم الدمع في عينيها وتحار حياته بين جفنيها، فلا تمد منديلها تكفكفه وإنما تشربه من ما فيها قطرات خفية، ولها في ليالى الغناء رأى تراه.

أسألها قبل البدء : “ماذا تغنين الليلة” فتقول: “اصبر حتى ألقى نظرة من خلال الستار على السامعين، ثم نلقى النظرة فتفهم روح الجمهور الحاضر، وتسقيه من شراب اللحن ما يهواه وهى في كل ذلك لا تستعين اللهم إلا فنجانا من القهوة تأمر بإعداده إذا تهيأت للخروج إلى الغناء، ثم تلبس في غير بهرجة، ويحين موعد انطلاقها إلى ساحة الطرب فتجلس ناحية تشرب ذلك الفنجان، وقد أصبح باردا لذا للشاربين. * وهى سليمة الذوق فيما تعمل، ترى الشيء الجديد عليها فتفطن إلى حسنه سواء أكان ذلك حديثا شهيا أو رأيا سريا.

كنت أقرأ القصيدة الجديدة فيأخذنى منها بيت فريد، ثم نتقابل، فأسألها عما يروقها في القصيدة، فتشير إلى الذى راقنى وملك على إعجابى. وقد وهبها الله ملاحة في التعبير عند الغناء، فوجهها أبدا باسم إلا إذا غشيتها غاشية الحزن وهى تغنى، ولكنها في ذلك آملح وجها وأجمل تعبيرا. ورحم الله ابن الرومى حيث يقول: تتغنى كأنها لا تغنى من سكون الأوصال وهى تجيد لا تراها هناك تجحظ عين لك منها ولا يدر وريد أهى شيء لا تسأم العين منه أم لها كل ساعة تجديد وهى باهرة الذكاء بعيدة النظر تدب إلى القول قبل أن يخرج من شفتى قائله، حاضرة البديهة ترد الدعابة بأحسن منها وتعقب عليها فلا تترك ناحية من نواحيها لاتبدع فيها معنى جديدا أو جناسا جميلا، وقد يشتاق من يسمع غناءها إلى هذه الدعابة شوقه إلى سماع صوتها الساحر أما مودتها في القربى فأمر ينم عنه حدبها على الأهل والأصدقاء.

لا يمر العيد على من حولها إلا إذا أطعمتهم شهى المأكل وألبستهم بهى الثياب، ولا يشكو أحدهم علة أو مرضا إلا مدت إليه يدا مواسية، وقد بلغ من برها بأهل بلدها أن سعت إلى تعمير مسجده وإقامة مئذنته، فأصبح لها على لسان كل مصل دعاء وتمجيد، وهى فوق كل هذا شديدة الإيمان تبدأ كل شيء باسم الله وتنتهى منه بحمد الله، راسخة اليقين تعلم أن توفيقها فضل من الله يؤتيه من يشاء، وهى تحمده على ذلك في كل حين ويرضى عنها فترضيه بالإخلاص في العمل والثبات على اليقين.

أخبار الساعة

الاكثر قراءة