من يتتبع مسيرة أم كلثوم من خلال سيرتها الشخصية سيجد الشعر أساس تكون الذائقة الفنية عندها، وأساس نبوغها، وتكوينها الفني منذ بدأت في الخامسة من طفولتها في بلدتها طماي الزهايرة تستمع يوميا لأبيها وهو يحفظ أخاها القصائد والتواشيح، ليساعده في الأداء، وصارت تقلد ما تسمع، الأمر الذي لفت نظر والدها فاصطحبها لحفل شيخ البلد، وكانت البداية من حفل غنائي حضره خمسة عشر شخصا فقط، ثم ارتفع العدد إلى عشرين فردا، وفي مركز السنبلاوين وقراه، وفي المنصورة، وضواحيها، وفي طنطا، وقراها، حتى بلغتْ القاهرة فغنّت.
وحين غنّتْ أصرت أن تغني واقفة، وواظب والدها على تدريبها، وتشجيعها على تقليد المشاهير من المطربين، وإن كان على غير اقتناع أن تغني، ولهذا ارتدتْ العقال أول أمرها؛ ليزداد عدد المعجبين بها، منذ غنتْ في قصر عز الدين بك، وسمعت من فنوغراف العمدة صوت الشيخ أبو العلا، وهزها صوته، ثم التقتْ به، فازداد إعجابها به، واقترح على أبيها أن ينتقلوا إلى القاهرة، ورأت السينما، ثم تابع الشيخ تطورها، ودرّبها، وعلمها أن لابد من فهم معاني ما تغنيه من كلمات، ولهذا كانت أم كلثوم تعايش النص الشعري وتتقمصه، وتضيف تفسيرا له، وشحنة من الدلالات والإيحاءات ، في صوت نادر قالوا إن أبعاده من 16 إلى 60 ألف ذبذبة، بينما أقوى الأصوات في حدود أقصاها:
عشرة آلاف ذبذبة في الثانية، واستمرت علاقتها بالشيخ، حتى وفاته، وعشقت الشعر، وحفظتْه، وقرأتْ دواوين: ابن الفارض، فابن الرومي، فكتاب الأغاني، فالأمالي، فالحماسة، فالمتنبي، فالشريف الرضي، فمهيار الديلمي، وتعرفتْ على كبار الموسيقيين: سامي الشوا، وحسني أنور، وأمين المهدي، وتصفه بأنه أبرع منْ عزف على العود، وبرغم ما ادعاه أحدهم لتلويث سمعة المطربة الناشئة لحساب غيرها من الشهيرات، حتى أقنع أمين المهدي أباها بعدم مغادرة القاهرة، لتتواصل إقامتها بالقاهرة منذ 1926، لتبدأ المنافسة بين ثلاث مطربات:
منيرة المهدية، وفتحية أحمد، وأم كلثوم، ثم بدأتْ تتخلى عن التخت القديم، وتعتمد على الآلات الموسيقية الحديثة، لتغني بمصاحبة الأوركسترا، وذلك في مساء الخميس السابع من أكتوبر 1926، مع عازفي القانون المهرة، ومنهم: محمد العقاد، وسامي الشوا، ومحمد القصبجي على العود. هكذا مضى الصوت الذهبي والحس الشعري مع أم كلثوم، ثم أدى التقاء شاعرية أحمد رامي بعبقرية أم كلثوم إلى ارتقاء الأغنية وسموها، وجعل الأغنية ذات موضوع عاطفي مرهف، على نحو يصعب حصره هنا، حتى أحدثت أغنية أنت عمري عام 1961، على سبيل المثال، ما لم تحدثه أغنية من قبل في شوارع القاهرة مع تنامي شعبية أم كلثوم، وذلك منذ التقيا، لأول مرة، في إحدى حفلاتها بحديقة الأزبكية، حيث التقت بالشاعر التي تغني له قبل أن تراه، كان يعشق الغناء، وكانت تعشق الشعر، فالتقى العشقان، وعلمها تذوق الشعر، وموازينه مع كل ديوان شعر جديد يحضره لها. أتقنت اللغة الشاعرة، وكانت في طليعة من تغنوا بالشعر:
عاميه وفصيحه، وتوطدتْ علاقتها بالشعر والشعراء في مصر والعالم العربي، وكان من بينهم: الشاعر العراقي الكبير محمد جواد الشبيبي، الذي لقبه العراقيون " الشبيبي الكبير" تمييزا له من حاملي اللقب ممن يصغرونه، ومن بين ترحيب الشعراء العراقيين بها ـ كسائر شعراء العرب المفتونين بها وبفنها ـ قال فيها الشبيبي قصيدته في ستين بيتا بعنوان (قمرية الدوح)، ومطلعها: قمرية الدوح ياذات الترانيم مع النسور على ورد الردى حومي وقد علق على ذلك عبدالرازق الهلالي بمجلة الهلال، نوفمبر 1975ص 106.
وتجلى دور أم كلثوم في الغناء بالشعر التراثي، أو الحديث والمعاصر، أو المترجم، سبعة منهم من فحول الشعر العربي كأبي فراس الحمداني منذ غنت له: أراك عصي الدمع عام 1926، والشريف الرضي: أيها الرائح المجدّ من تلحين زكريا أحمد عام 1935، وصفي الدين الحلي: مثل الغزال نظرة من تلحين أبو العلا محمد عام 1931، والعباس بن الأحنف: يابعيد الدار، من ألحان القصبجي، ولابن النبيه: أفديه إن حفظ الهوى من تلحين أبوالعلا عام 1928، و أمانا أيها القمر المطلّ من تلحينه، أيضا، وابن النطاح الحنفي: أكذب نفسي من تلحينه أيضا عام 1931. ومنه رباعيات عمر الخيام (423 - 517هـ/ 1040ـ1123م) بترجمة أحمد رامي، حيث اختارت أم كلثوم، كعادتها وبذائقتها، آخر مقطع ص 66، وبالصفحات: 19، وهو أول مقطع، و23، 24، و27 خامس مقطع، و58، 59. تلك الرباعيات التي ألفها الخيام في خلوته وباح بها لأصحابه، وكان الموت موضوعها وتعددت مخطوطاتها وتحقيقاتها ما بين أكسفورد، وباريس، وبرلين، ولندن، وإيران، وتركيا، ترجمها الشاعر الغنائي أحمد رامي، وترجمتْ ترجمات عديدة، منها ترجمة محمد السباعي، وهو والد الروائي يوسف السباعي (ولد 1881). كما غنت للشعراء المعاصرين لنحو واحد وعشرين شاعرا، منهم أربعة عشر من المصريين في الفصيح:
شوقي، وحافظ، والجارم، وأباظة، وناجي، وصبري، ومحمود حسن إسماعيل، وصالح جودت، وكامل الشناوي، ومحمد الأسمر، وعبد الله الشبراوي، ومحمد الماحي، وأحمد فتحي، وأحمد رامي، وعبد الله الفيصل: ثورة الشك، وأمثالهم، وفي العامي من أمثال: بيرم التونسي، وجاهين، وكامل الشناوي، وأحمد شفيق، وعبدالفتاح مصطفى، وعبدالوهاب محمد، ومرسي جميل عزيز، وعبدالمنعم السباعي، وغنّتْ لطاهر أبو فاشا قصيدة صحبة الراح في فيلم "رابعة العدوية" (ت135هـ /752م)، تلك المرأة البصرية التي كانت تعزف بالمعازف، تنسّكت وتصوفت وأدخلت الحب الإلاهي بدلا من الخوف والرهبة، ولحن لها محمد عبدالوهاب فكروني، وغيرهم ممن يطول حصرهم. وكان لأم كلثوم ذوق فني جعلها تتدخل في ترتيب الأبيات والاختيار والتعديل؛ مراعاة منها للذوق العام، وبذلك وبغيره أسهم الغناء في نشر تذوق الشعر وحفظه وتداوله بين عامة الناس مثل خاصتهم، حتى صار للأغنية الشعرية جمهور عريض في المنازل والشوارع والطرقات والمحافل، والصالونات والمنتديات والمقاهي، وقنوات الاتصال المسموعة والمرئية من المحيط إلى الخليج، وأسهم مطربون ومطربات في ذلك الانتشار، وبخاصة أم كلثوم، بمثل ما أسهم الشعر المغنّى في شهرتهم، حيث انتقل الشعر من الديوان الورقي المقروء المحدود إلى فضاءات غير محدودة، بإسهام أطراف: الشاعر، والملحن، والمطرب، وقنوات التوصيل المتعددة.