الإثنين 3 فبراير 2025

مقالات

إبداع مع السنباطي.. غناء ديني بمسحة صوفية


  • 3-2-2025 | 13:51

إيناس جلال الدين

طباعة
  • د. إيناس جلال الدين

ربطت الخلفية الدينية وحفظ القرآن الكريم وتجويده بين أم كلثوم وبين ملحني أغانيها منذ أن وطئت قدمها القاهرة لتبدأ مشوارا كبيرا بديعا لم ينته حتى الآن ونحن نحتفل بمرور خمسين عاما على الرحيل، وإذا استثنينا كمال الطويل،محمد الموجي، بليغ حمدي..

نجد أنه منذ بداية تعاونها مع الشيخ أبو العلا محمد وحتى الشيخ سيد مكاوي كانت هذه الخلفية الدينية هي الحاضرة إلى جانب المخزون الكبير من حلقات الإنشاد والذكر الحاضر دائما بينها وبين هؤلاء المبدعين.

ومن خلال حفظ أم كلثوم لأعمال الشيخ أبو العلا محمد بدأ صوتها يأخذ نهجا جديدا ثم كان اللقاء والتعاون مع الشيخ زكريا أحمد صاحب البصمة الكبيرة والواضحة في حياتنا الموسيقية بشكل عام وبين أم كلثوم وتربعها على عرش الأغنية حتى يومنا هذا. يأتي ذلك لتميز زكريا أحمد بركنين أساسيين في الإبداع الموسيقي والغنائي الأول هو تلقين كل أسرار التجويد والإنشاد خلال تلقيه علومه الأولى في الأزهر الشريف. أما الر كن الثاني فيأتي من خلال أسرته التي كانت تجيد الغناء والعزف من خلال والده الذي يجيد العزف بالفطرة وأمه صاحبة الصوت العذب والتي تجيد الغناء العربي والتركي. وبدأ التعاون مع السيدة أم كلثوم عام 1929 وقدما معا أعمالا غنائية أصبحت مرجعا وحجة لكل دارس أو محترف للغناء العربي في مصر وحول العالم.

نأتي بعد ذلك لأستاذ التجديد وصاحب الأعمال الأكثر تحررا من القوالب التقليدية للغناء خلال النصف الأول من القرن العشرين الأستاذ محمد القصبجي وإيمانه وتبنيه لصوت كوكب الشرق منذ ظهورها على الساحة الغنائية. استطاع كل هؤلاء بالإضافة إلى الدكتور أحمد صبري النجريدي وداود حسني ومحمد عبدالوهاب وباقي الملحنين أصحاب الأعمال الخالدة لكوكب الشرق تقديم كل ما جال في خاطرهم ووجدانهم بل وحتى الخيال من إبداع من خلال هذا الصوت الذي منحه الله عز وجل قوة وجمالا وبراعة لم يمنحها لكثير من غيرها.

إلا أن التعاون بين رياض السنباطي والسيدة أم كلثوم كان دائما إبداعا مغايرا، فعلى مدار ثلاثين عاما من التعاون استطاع رياض السنباطي أن يغزل جملا لحنية ويضع إيقاعات وضروبا جديدة ويداعب الجمهور بجمال المقامات الموسيقية العربية ويقدم هو والسيدة أم كلثوم تراثا غنائيا لم يقدمه أحد غيرهما سواء كان هذا الإبداع باللغة الفصحي(القصائد) أو باللغة العامية (مونولوج أو طقطوقة). ومن المعروف أن الملحن الكبير رياض السنباطي ولد في نوفمبر عام ١٩٠٦ في فارسكور بمحافظة الدقهلية لأب يحترف الموسيقي والغناء ويقدم هذه الأعمال في الحفلات التي تقام في قري المحافظات وأيضا حلقات الذكر التي تقام في المناسبات الدينية. ولم يكن أول لقاء جمع أم كلثوم برياض السنباطي لقاء فنيا بل كان لقاء جمع الآباء وهم يقدمون إحدى حفلاتهم ومعهم رياض وأم كلثوم، وتفرقت بينهم الطرق وشق كل منهما طريقه الغنائي، ونالا أيضا حظهما من التواجد على الساحة الفنية ليلتقيا بأول عمل غنائي مشترك وكان هذا العمل هو أغنية "على بلدي المحبوب" ومنذ هذا التاريخ أي عام١٩٣٦ أصبح رياض السنباطي هو الملحن الأول لسيدة الغناء العربي واستطاع من خلال إبداعات الشعراء الكبار 'أحمد شوقي، أحمد رامي' علي وجه التحديد أن يقدم لأم كلثوم أعمالا جعلتها سيدة الغناء العربي.

ومن المعروف أن الطابع الصوفي في موسيقى رياض السنباطي هو الغالب على كل ألحانه سواء كانت الأعمال دينية أو أعمالا غنائية ذات طابع عاطفي أو وطني. برع السنباطي في استخدام المقامات الموسيقية والضروب والإيقاعات الشرقية في إظهار هذه الروح الصوفية.

جاء هذا أيضا من خلال تفهمه البالغ للغة العربية والجماليات الخاصة بمفرداتها وبحورها الشعرية، إلى جانب أن غناء السيدة أم كلثوم على المسرح من خلال حفلتها الشهرية الخميس الأول من كل شهر كانت فرصة عظيمة ليتمكن هذا الثنائي البديع من تقديم أعمال تشبع مواهبهم غير المسبوقة ممن سبقوهم، إذ نجد أن السنباطي قد قدم أعمالا غاية في الرقي والإبداع نمت مع كل عمل جديد لحنه لأم كلثوم وترجمته هي بصوتها البديع ليقدما للجمهور عملا غنائيا يشتمل على مقدمات موسيقية (وهو ما كان جديدا وغير سائد من قبل) بالإضافة إلى عبارات وجمل لحنية وقفلات لكل كوبليه تجعل الجمهور ينتفض من مكانه مع حالة التوحد أو الانسجام مع العناصر الثلاثة المكونة للغناء وهي "الكلمات، اللحن،الأداء". وعند الحديث عن الصوفية في أعمال أم كلثوم ، لا بد وأن نحدد ما المقصود بهذا المصطلح، هل المقصود في صوتها وأساليب الأداء من حيث الزخارف والحليات أم المقصود هنا هو غناؤها الديني.

نستطيع أن نقر أن السيدة أم كلثوم مرت في مشوارها الغنائي بأكثر من مرحلة عمرية، ففي البدايات كان صوتها صوت صبية شابة لها من المساحة الصوتية مايقرب من الأوكتافين أو يزيد وهذا يظهر بوضوح في الأعمال التي تغنت بها من ألحان أحمد صبري النجريدي ومحمد القصبجي وزكريا أحمد خلال ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين، وثم اكتمل صوتها وتبلور ونضج وأصبح كالميزان الحساس في نهاية الأربعينيات وحتى منتصف الستينيات وهي تلك المرحلة التي قدمت فيها جميع ألوان الغناء العاطفي الوطني والديني بالطبع وكان النصيب الأكبر من هذه الأغنيات من ألحان رياض السنباطي.

استطاع رياض السنباطي أن يقدم لنا أغنيات دينية خرجت عن النمط السائد آنذاك وألفته الأذن من تواشيح ومدائح نبوية، ليستبدلها بأشعار أحمد شوقي ليقدم لنا (إلى عرفات الله، ولدي الهدى، نهج البردة، سلو قلبي) جميعها تستهل بمقدمة موسيقية بديعة استخدم دائما عزفا منفردا (صولو) لآلة شرقية أصيلة كالقانون أو الناي مع استخدام الآلات الايقاعية بشكل فيه إبراز للضروب العربية الصوفيه كإيقاع "الأيوب" وأيضا الإيقاعات المركبة التي تحتوي على مقابلات إيقاعية ليثري العمل بتغليفة روحية من حيث النغم والإيقاع.

وبالطبع عند أداء السيدة أم كلثوم لهذه الألحان تسبح بنا أيضا في براح السماء الواسعة لنحلق معها إلى الفضاء الواسع.. تميزت هذه الفترة بأسلوب السيدة أم كلثوم في الغناء المتصاعد من المنطقة الوسطى (الميتزوسوبرانو) إلى المنطقة الأعلى لها (السوبرانو). ويظهر الشكل الصوفي في غناء السيدة أم كلثوم في أعمالها في فترة الستينيات وحتى رحيلها عام 1975 فنجد أن رياض السنباطي وبيرم التونسي قدما لها رائعتهما (القلب يعشق كل جميل) هذا العمل الذي يشبه صورة غنائية لمناسك الحج فالمستمع حين ينصت إليه يتخيل على الفور أنه ضمن حجاج بيت الله الحرام يؤدي مناسكه من خلال حرفية الكلمة عند بيرم التونسي مع صدق النغمات لرياض السنباطي ليلي هذا كله تعبير في الأداء منقطع النظير لكوكب الشرق أم كلثوم، وتستمر هذه الإبداعات الغنائية الدينية لهذا الثنائي المتفرد ليقدما الثلاثية المقدسة عام 1972 وتكون السيدة أم كلثوم في مرحلة من العمر والإمكانيات الصوتية مايجعلها تقدم هذا العمل بكل هذا الخشوع والتمكن. استخدم الفنان رياض السنباطي الفرقة الموسيقية بتكوينها الأحدث آنذاك عن شكل التخت التقليدي إلى جانب استخدامه للآلات الموسيقية الجديدة التي ظهرت آنذاك كالأورج والجيتار الكهربائي مع كامل الاحتفاظ بآلات التخت الشرقي في أداء الصولوهات وأيضا استخدام الدفوف بشكل دائم.

إلى جانب ذلك استطاع رياض السنباطي أن يحجز لأعماله الدينية مقعد البقاء والاستمرار من خلال استخدام للتيمات الخاصة بالشعائر الدينية كالتكبيرات أو الأغاني الخاصة بالرسول عليه الصلاة والسلام. وفي الختام نستطيع القول إننا نعيش مع كوكب الشرق السيدة أم كلثوم بعد رحيلها بخمسين عاما من الأنس من الدفء بصوتها، ففي كل لحظة ولمحة في حياة كل منا هي حاضرة إذا أحببنا وإذا عاتبنا. نهرع إليها إذا تذكرنا وطننا ساعة الخطر فمن منا لم يردد مقطعها الأشهر (أنا الشعب أنا الشعب لا أعرف المستحيل) أو حينما نرى الأنظار تتجه إلى مصر وجمالها تستعيد الذاكرة على الفور (وقف الخلق ينظرون جميعا) أو في مناجاتنا لله ونحن نردد معها مقطع (دعاني لبيته لحد باب بيته .. وأما تجلا لي بالدمع ناديته) رحم الله كوكب الشرق أم كلثوم الباقية بفنها وعظمتها ما بقي التاريخ.

أخبار الساعة

الاكثر قراءة