إن كنت أستطيع أن أقول عن الموسيقي إنها حلم فهى كذلك وما أروعه من حلم بدأ معى من عمر الثالثة فبدأت العزف على البيانو وتعلمه، فكان بوابة دخولى إلى ذلك العالم الفنى لتبدأ رحلتى من خلال برامج الإذاعة والتلفزيون مع أبلة فضيلة وماما سميحة فكان منذ الصغر أصدقائى من هم أصبحوا فيما بعد أسماء لامعة فى ذلك العالم.. بوسي، نور الشريف، إجلال زكى، عزة كمال . وقدمنا كورال أطفال مع الراحل العظيم محمد فوزى أغنية ذهب الليل وطلع الفجر.
وفى عمر الرابعة عشر بدأ عملى مع الكبار بوضوح فى أغنية منحرمش العمر منك مع فريد الأطرش رغم صغر سنى. ثم عبدالحليم حافظ على الأورج فى أغنية أحضان الحبايب و ياخلى القلب ومع نجاة آه لو تعرف. وكل ذلك أستطيع أن أقول أنه مهد لما كان ينتظرنى مع الست أم كلثوم جاءت بداية لقائى وعملى مع أم كلثوم من خلال الراحل رياض السنباطى فقد كان السبب المباشر لذلك .. كنت صديقا مقربا من ابنه الذى جعله يستعين بى فى أغنية لسعاد محمد بعد أن سمع عزفى على آلة الأورج وبعد ذلك طلب منى أحمد ابنه أن أذهب إلى والده والسيدة أم كلثوم فى الاستديو وذهبت إلى لقائهما فأنا أتذكر أنها عند لقائى قالت لـ رياض السنباطى:" أنت جايب عيل يعزف معنا يا رياض" فقال لها:
" استنى بس واسمعيه" فقمت بالعزف أمامها على آلة الأورج التى كانت فى ذلك الوقت آلة جديدة وغريبة وهى لا تحب الآلات الغربية بطبيعتها. حاول محمد عبدالوهاب إقناعها كثيرا بإدخال آلة الجيتار فى الفرقة ولكنها كانت ترفض باستمرار حتى استعانوا بعازف يلعب على" الكمنجة" فى فرقتها وهو عبد الفتاح خيري فطلب منه عبدالوهاب إحضار الجيتار معه وليدخل جملة واحدة منه فى رائعته أنت عمرى " فكسرت الدنيا" وعندما رأت هى ذلك التأثير الكبير على الناس فوافقت على استخدام الجيتار الذى استخدمه عبدالوهاب فى كل أغانيه معها. ليكون فى العام التالى وعند إطلاق أغنية أنت الحب الجيتار هو العامل الأساسي فى المقدمة الموسيقية للأغنية. ذلك جعل أم كلثوم توافق على استخدامه مما جعل عبدالوهاب يقرر الاستعانة بعازف جيتار محترف وتم ذلك فى أغنية فكرونى بحمادة عبدالجواد عازف الجيتار الذى ظل عبدالوهاب يذهب ويستمع إليه يوميا وهو يعزف مع فرقته لمدة شهر حتى استعان به.
وظهر جليا إبداع عمر خورشيد فى أغنية دارت الأيام ليستمر هو فى الفرقة ويصبح عازف الجيتار الأساسي والأشهر ليصبح الجيتار له مكانة كبيرة فى فرقة أم كلثوم ويفتح المجال أمام الآلات الغربية الأخرى. إن إدخال آلات موسيقية غربية جديدة في فرقة أم كلثوم، مثل آلة الجيتار، كان له دور في تعزيز مكانة هذه الآلات في الموسيقى العربية الكلاسيكية. ليتوالى بعد ذلك إدخال بليغ حمدى آلة الأوكورديون والساكسفون. إن التنظيم والجدية كانت سمة مميزة في عمل أم كلثوم. كانت مواعيد بروفاتها تبدأ في الساعة الحادية عشر صباحًا، وكان من الضروري أن تتواجد الفرقة بكاملها في الموعد المحدد دون تأخير. وبسبب حجم آلة الأورغ، كنت أضطر للذهاب إلى استوديو 35 في مبنى الإذاعة والتلفزيون في وقت مبكر، حيث يبدأ يومى في السابعة صباحًا لأصل في التاسعة وأكون مستعدًا لتركيب الآلة قبل بدء البروفات. ولطالما اعتبرت عملى معها شرفًا وحلمًا كبيرًا بالنسبة لى في ذلك الوقت، فالتعاون مع أيقونة مثلها كان لحظة مميزة في مسيرتى الفنية.
فأنا مازلت أذكر كيف كانت أم كلثوم تصل إلى الاستوديو قبل الجميع، وتجد وقتًا للدردشة معى، وهو أمر نادر عنها لأنها كانت لا تتحدث كثيرًا مع الآخرين. كانت هذه اللحظات التي أتحدث فيها معها أثناء البروفات تظل عالقة في ذاكرتى كجزء من تجربتى الثمينة والمميزة. العمل معها ممتع جدا فأول مرة عندما ذهبت للقائها من خلال رياض السنباطى كنت أعتقد أنه يريد أن يريها الأورج فقط.
ولا أستطيع نسيان مشاعر الخوف والرهبة التي شعرت بها أثناء عزفى لأول مرة أمام السيدة أم كلثوم، وهي واحدة من أعظم الفنانات في التاريخ العربي. كنت أخشى أن أعزف شيئًا غير مناسب لها، خصوصًا أن أغانيها تعتمد على المقامات الشرقية التي تشمل "الربع تون"، وهو شيء لا يمكن عزفه بسهولة على آلة الأورغ في ذلك الوقت. فاخترت عزف أغنية "دارت الأيام" لأكون على يقين من أن عزفى سيكون متناسبًا مع أذواق أم كلثوم.لأنه كانت بها جملة موسيقية من استخدام الجيتار فكان يمكننى عزفها بعيدا عن المقامات الشرقية التى لا أستطيع عزفها فى ذلك الوقت على الأورج.
ورغم عدم تعقيبها أو تعليقها على عزفى، كنت في غاية الفرح لكونى رأيتها وسلمت عليها وعزفت أمامها. في تلك اللحظة كنت لا أزال في مرحلة الدراسة الثانوية، وكنت فخورًا جدًا بهذه التجربة لدرجة أنى ذهبت لأتباهى بها أمام أصدقائى الذين لم يصدقونى، وحتى والدى لم يصدق ما حدث. وتلك كانت لحظة مهمة في حياتي المهنية التي شهدت بداية ارتباطى الوثيق بالفن والشخصيات الكبرى في عالم الموسيقى. ولا أستطيع أن أصف مشاعر الفرح والفخر التي شعرت بها بعد أن تلقيت مكالمة من حسين معوض مدير فرقة أم كلثوم، بعد مرور شهر على هذا اللقاء حيث تم إبلاغى بأنى سأشارك في بروفة مع السيدة أم كلثوم في استوديو 35.
كان هذا الحدث لحظة فارقة في مسيرتى، إذ لم أصدق في البداية أنى ساعمل مع الأسطورة أم كلثوم، ولكن تأكيده من قبل حسين معوض جعلنى أدرك حقيقة الأمر. الأمر الأكثر إثارة لفرحتى هو أنه سأكون قادرًا على الإثبات لزملائى أنى على صواب، حيث كان المذيعون في تلك الفترة يعلنون أسماء أفراد الفرقة، وهو ما سيمنحنى فخرًا إضافيًا بكونى جزءًا من هذه الفرقة العريقة. فكانت بداية عملى مع السيدة أم كلثوم من خلال أغنية "أقبل الليل"، وهو ما يعتبر بداية رائعة لمسيرتى الموسيقية مع عملاقة الفن العربي.
ولحرص أم كلثوم الشديد على التفاصيل الدقيقة حتى في مظهر أعضاء الفرقة أثناء العروض المسرحية. كان أعضاء الفرقة يقفون قبل فتح الستارة، وكانت أم كلثوم تمر عليهم للتأكد من أن ملابسهم منسقة ومناسبة للمسرح. ففى إحدى الحفلات كنت أرتدى "بيبيون" كان رائجًا في ذلك الوقت، والذي كان عبارة عن مثلث به أشرطة تشبه ملابس "الكاوبوي". لكن أم كلثوم لم تعجبها هذه الإطلالة وطلبت منى أن أخلعه فورًا، وأحضرت لى "بيبيون أسود" من أحد العاملين لأقوم بارتدائه بدلًا من الأول. هذه الحادثة تعكس مدى دقة أم كلثوم في مراقبة جميع التفاصيل، بما في ذلك مظهر الفرقة، وهو جزء من الجدية والانضباط الذي كانت تتميز به في عملها. لقد حاولت أن أسرد لقائى وفترة عملى مع أم كلثوم وكيف أصبحت جزءًا من فرقتها الموسيقية. لأن سعادتى بالعمل مع أم كلثوم التي كانت معروفة بجدّتها وانضباطها في البروفات، كان بمثابة تقديم أوراقى الفنية في واحدة من أرقى لحظاتى الموسيقية.