تمثل أم كلثوم ( 1898 – 1975) ظاهرة فنية فريدة في تاريخ الموسيقى العربية، حيث تجاوز تأثيرها حدود الوطن العربي ليشمل العالم أجمع. فصوتها المميز وقدرتها الفائقة على التعبير عن أعمق المشاعر الإنسانية جعلتها أيقونة لا تُنسى. لقد استطاعت أم كلثوم، من خلال أدائها الحزين والشجي، أن تلامس أوتار قلوب الملايين، وتحول أغانيها إلى تراث فني خالد.
أم كلثوم: كوكب الشرق وسيدة الغناء العربي فاطمة بنت الشيخ المؤذن إبراهيم السيد البلتاجي وتعُرف أيضاً بعدة ألقاب أبرزها أم كلثوم ومنها: ثومة، الجامعة العربية، الست، سيدة الغناء العربي، شمس الأصيل، صاحبة العصمة، كوكب الشرق، قيثارة الشرق، فنانة الشعب. هي مغنية وممثلة مصرية، ولدت في محافظة الدقهلية بالخديوية المصرية في 31 ديسمبر 1898م حسب تأريخ الناقد الموسيقي المصري الدكتور: زين نصار فى موسوعته (الموسيقى والغناء فى مصر فى القرن العشرين)، وتوفيت في القاهرة بعد معاناة مع المرض في 3 فبراير 1975م.
وتعد أم كلثوم من أبرز مطربات القرن العشرين الميلادي فى مصر والعالم العربي ويوضح ذلك مرسي سعد الدين فى مقالته (أم كلثوم بالكلمة والصورة) حين يقول: “إن أم كلثوم تعطي صورة مفصلة عن الفن فى مصر، كما أن المغنى والشعر الغنائي هما أساس الحياة الموسيقية العربية، وأن الأسلوب الموسيقى وتطور الموسيقى يرتبطان بعملية التحديث العامة، وقد سعى المصريون إلى اختراع حلولهم لمواجهة التحديث وإلى الحفاظ على سيطرتهم على حياتهم ومجتمعهم فى مواجهة التحدى الاقتصادي والسياسي والثقافي الوافد من الخارج. بدايات موهبة واعدة بدأت أم كلثوم مشوارها الفني في سن مبكرة، حيث كانت تغني في الموالد والأفراح مع والدها.
سرعان ما ظهرت موهبتها الفذة، وانتقلت إلى القاهرة لتحترف الغناء. هناك، تعرفت على كبار الملحنين والشعراء، مثل محمد القصبجي وأحمد رامي، الذين ساهموا بشكل كبير في صقل موهبتها وتقديمها للأجيال. تحليل أسلوب أم كلثوم الغنائي يمتاز أسلوب أم كلثوم الغنائي بقدر كبير من التعقيد والتنوع، حيث جمعت بين التراث الموسيقي العربي الأصيل والابتكارات الحديثة. فمن خلال استخدامها للإيقاعات المتنوعة والتلاعب بالألحان، استطاعت أن تخلق عالمًا موسيقيًا خاصًا بها. كما أن قدرتها على التمديد والإطالة في الصوت، مع الحفاظ على صفاء النغم، جعلت من أدائها تجربة استماع فريدة.
فالذى يميز أم كلثوم فى الغناء هو أسلوبها الموسيقي وما تملكه من مقدرة على الغناء لفترات زمنية طويلة، إن صوت أم كلثوم كان فى نفس الوقت قوياً ومتسقاً من ارتفاع وانخفاض الصوت الموسيقي دون أى تغيير أو فصل، ويغطى صوت أم كلثوم مساحة صوتية تبلغ أوكتافين فهى قد استطاعت أن تتقن السيطرة على النفس مستعملة تجميلات خاصة بها، وعن التقييم لصوت أم كلثوم تضيف رتيبة الحفنى فى مقالتها (أم كلثوم وعبقرية الغناء) قولها: “قام المعهد القومي للقياس والمعايرة، فى مصر بتجربة فريدة ومثيرة عام (1971) استعان فيها بألفين من الأسطوانات، التى سجل عليها المطربون والمطربات أغانيهم منذ نصف قرن من الزمان بهدف وضع سلم الموسيقى العربية على أساس علمى، وقد جاء فى نتائج هذه التجربة الفريدة والأولى من نوعها فى مصر: إن صوت أم كلثوم هو أكثر الأصوات ضبطاً، لأن معادلته الرياضية تكاد تتطابق مع المعادلة الرياضية للسلم الموسيقى الطبيعى.
فى جميع أغاني أم كلثوم خاصية لا يستطيع أحد أن يقلدها، إنها صفة الشخصية الثقافية والقومية، التى رسخت كل ما هو مصرى، ولأم كلثوم سيطرة على تلحين أغانيها بمعنى أنها هى التى كانت تختار الأغنية وتختار الملحن وكانت تطلب من الشعراء مؤلفي الأغاني نماذج من كتابتهم أو كانت تبحث عنها فى الدواوين المختلفة وذلك بمساعدة أحمد رامى وكانت ترى أن النص الجيد يجب أن يكون مرتفعاً فى معناه ورفيعاً فى غايته ورشيقاً فى صوته سواء كانت قصيدة أو شعراً وصفياً أو أى نوع آخر فتضيف فى هذا أيضاً رتيبة الحفنى قولها: كانت أم كلثوم تدقق فى اختيارها للكلمات وتشترط أن تكون على مستوى صوتها وأدائها، كانت ملمة بقواعد التجويد وتدرك قواعد النحو والصرف والإعراب، وقد ساعدها على إجادة غنائها الأداء المبكر لعدد كبير من الموشحات الدينية فى بداية حياتها الفنية، كذلك محاكاتها لأداء الشيخ أبوالعلا محمد فى طفولتها، كما تدربت أم كلثوم على أداء ألحان القصائد والموال الريفى الذى أكسبها القدرة على الارتجال وأداء الحركات اللحنية التى يتكون منها الموال. أم كلثوم كظاهرة اجتماعية وثقافية تجاوز تأثير أم كلثوم الإطار الفني، ليشمل جوانب اجتماعية وثقافية واسعة.
فقد كانت رمزًا للمرأة العربية القوية والمستقلة، وأصبحت أيقونة للوحدة العربية. كما ساهمت أغانيها في تشكيل الوعي القومي العربي، وتعزيز الهوية الثقافية. تأثير أم كلثوم على الموسيقى العربية المعاصرة لا يزال تأثير أم كلثوم واضحًا في الموسيقى العربية المعاصرة، حيث يستلهم العديد من الفنانين أسلوبها وأداءها. كما أن أغانيها أصبحت مصدر إلهام لكثير من الملحنين والشعراء. ومع ذلك، فإن الفنانين المعاصرين يسعون إلى تطوير هذا التراث الغني، وإضافة لمساتهم الشخصية عليه.
مما هو جدير بالذكر أن أم كلثوم كانت تعشق اللغة العربية، وتتميز بالدقة فى مخارج الألفاظ لدرجة أنه يمكن كتابة النص الشعري للأغنية من خلال الأستماع إليها من أم كلثوم من أول مرة كما أنها خاضت محاولة التلحين لنفسها وساعدها على ذلك أنها درست الموسيقى جيداً، ففى عام 1928 قدمت أول محاولة لها فى التلحين لأغنية (على عيني الهجر) كلمات الشاعر (أحمد رامي)، ومحاولة أخرى فى عام 1936 بتلحين أغنية (ياريتني كنت النسيم) من كلمات أحمد رامي، لكنها توقفت عن التلحين إيماناً منها بأن الفنان يجب أن يحرص على التخصص، وتوضح ذلك أم كلثوم فيما ذكره الكاتب الصحفي والأديب المصري رجاء النقاش (1934 – 2008) فى كتابه (لغز أم كلثوم) بقولها: الإجادة والإتقان هما طريق "البقاء" لأن الشيء الذى تبذل فيه جهداً كبيراً يعيش عمراً أطول، بينما الذى يتم "بسرعة وكلفته" يموت بسرعة أيضاً ويقتضي منك أن تغيره بسرعة وتتكلف مجهوداً أكبر.. أى أن الإتقان فى النهاية يحتاج إلى إرادة قوية ورؤية مخلصة أصيلة للمستقبل.. وهذا المنطق ينطبق على الفن، وينطبق على كل شيء فى الحياة أيضاً. وقد وصف عبد الوهاب أم كلثوم بأنها: «ذات ملامح عصر جديد فى طريقة الغناء والسلوك والشخصية والخلق وقدمت فنا بلا ابتذال، وسمت بأخلاق المهنة».
وقال أيضاً فى ذكرى وفاتها التاسعة: «إن فيها عشر مغنيات معاً، فكل ميزة تجعل منها مطربة كبيرة، من أهم ميزاتها التعبير بالجسد، باليدين، بالحركات، بالإيماء بالوجه، بالضحك، كانت ممثلة ولا أعني أنها كانت تفتعل، بل كانت تحس وهذه سمة الفنان العظيم، تحس الغضب أو الفرح أو العتاب فتؤديه، كانت مجموعة عجيبة من عطايا الله السخية، أما الصفة العظيمة فيها، أنها ظلت هاوية حتى آخر رمق فى حياتها، وكانت مستمعة من الطراز الأول، فتبكى حين تتأثر بأغنية تعجبها، ولو لم تكن مستمعة عظيمة، لما كان فى مقدورها أن تكون مطربة عظيمة. وعن صوت أم كلثوم يقول زكريا أحمد: «إن الجملة الموسيقية بأداء الملحن تكون عادة أفضل منها بأداء المغني أو المغنية، لأنه خالق الجملة أما بالنسبة لأم كلثوم فكان هذا القانون الفني ينكسر، لأن أداءها للجملة الموسيقية يكون أفضل من أدائه، إنها تجهد الملحن أولاً، لمعرفة مواطن القوة فى صوتها وتتحداه بموهبتها أن يقدم إليها أصعب الألحان ثم حين يؤدى هذا اللحن بصوتها الذكى أداء متميز الشخصية، فهى تضفى من فهمها للمعنى على الأداء، وتكون هذا الأداء بحيث يتوهج عذاباً وحباً فى كل مرة تغنى فيها عن الحب الإلهى، إذن فقد كان صوتها العبقرى وأداؤها الذكى أول درجتين فى صعود نجمها كظاهرة فنية.
وعن تقنيات أم كلثوم وموهبتها يضيف نبيل راغب فى مقالته (أم كلثوم فناً يتحدى الزمن) قوله: هذا الفن القادر على تحدى الزمن هو الذى يصنع أمواجه وتياراته بنفسه ويعيد صياغة الوجدان ويرتقى به إلى آفاق جديدة وهو ما عبر عنه توفيق الحكيم بالإتقان فى مقال نشر له بعنوان «الفنانة الأصيلة» فى جريدة الأهرام عقب رحيل أم كلثوم فى الخامس من فبراير عام (1975) حين قال: أم كلثوم كانت هى الإتقان فلقد كانت تؤدى كل قصيدة وأغنية وكل لحن ونغم، الأداء الكامل المجيد، فما شعر سامع قط أن أداءها فى حاجة إلى مزيد، إنها صفة الفنان الأصيل، وكانت أم كلثوم فنانة أصيلة، وإن الإتقان ليس كلمة تقال، ولكنه حصيلة الدأب والكدح والعمل الطويل، ثم إن دافعه، دائماً هو حب الفنان لفنه أكثر من أى شيء آخر، وعلى نفس المنوال من المنهج العلمي والحضارى يجب أن يكون الاحتفاء بأم كلثوم وفنها العظيم احتفاءً علمياً وأكاديمياً فلا نكتفى بالعبارات الطنانة والألفاظ التقليدية والموضوعات الإنشائية التى لا تخرج عن نطاق الطبل الأجوف.
وعن الإمكانات الإبداعية المتفردة لأم كلثوم نكتشف أنها فى الحقيقية ظاهرة واضحة، ولو ألقينا نظرة سريعة شاملة على كل إنتاج أم كلثوم نجد أن هناك لوناً غنائياً خاصاً فى الغناء العربى يوظف فى خدمته عدداً من الملحنين الذين لا شك فى قيمتهم الذاتية، ولكنهم مع ذلك كانوا مع أم كلثوم جزءاً من مدرستها الغنائية، إذ إن وجود أم كلثوم فى حد ذاته يمثل نوعاً من الإشعاع أو الإلهام الذى يتقمصه من يعملون معها وربما دون أن يعوا ذلك فكانت تنوعات أساليبهم. أم كلثوم في الدراسات الأكاديمية أصبحت أم كلثوم موضوعًا للدراسات الأكاديمية في مختلف التخصصات، مثل الموسيقى، وعلم الاجتماع، والثقافة الشعبية.
وقد تم إجراء العديد من الأبحاث والدراسات التي تحلل أعمالها وأثرها على المجتمع. ومن المتوقع أن يستمر الاهتمام بأم كلثوم كظاهرة فنية وثقافية فريدة في المستقبل، فقد كتب عنها رائد فن التمثيل المسرحي المصري الفنان زكي طليمات (29 أبريل 1894 - 22 ديسمبر 1982)، حين يقول: لا أدعي بما أكتب أنني أرسم صورة، أو أدبج بحثاً فنياً فى الغناء، أو أروي قصة طريفة، ولكن موقفي من أم كلثوم، موقف المصور الذي يحاول أن يحيط فى خطوط سريعة، بقطاع من الطبيعة واسع الرحاب، متعدد الجوانب، وشخصية أم كلثوم تدخل إليها من بابين: باب عام، وباب خاص، الباب العام يسير بك إلى المطربة ذات الصوت الذهبي الرنين، الماسي اللمعان، وهذا الباب مفتوح للجميع.
ألقاب عديدة وشهرة واسعة حظيت أم كلثوم بالعديد من الألقاب التي تعكس مكانتها الفنية، مثل: كوكب الشرق: وهو اللقب الأشهر والأكثر ارتباطًا بها، ويعبر عن مكانتها كأعظم مطربة عربية. سيدة الغناء العربي: وهو لقب آخر يؤكد ريادتها في عالم الغناء العربي. الست: وهو لقب حنون أطلقه عليها جمهورها تعبيرًا عن حبهم وإعجابهم بها. إرث فني خالٍد تركّت أم كلثوم إرثًا فنيًا غنيًا ومتنوعًا، حيث غنت العديد من الأغاني التي أصبحت جزءًا من الذاكرة العربية، فإنجاز أم كلثوم الذى لا يضاهى بكل المقاييس، ومن أهم ما كتبت أم كلثوم من محاولاتها للكتابة الفنية عن شاعر الشباب أحمد رامي مقالا لها عنوانه (أحمد رامي) تذكر فيه قولها:
مجموعة روحانية من الإحساس الملهم، الثورة العميقة المكبوتة، والهدوء الرزين، مع ظرف نادر، وخيال محلق، وخاطر سريع، وإخلاص لذات الإخلاص، ذلك هو رامي شاعر الشباب، والفنان الذي جدد شباب الأغاني المصرية، وخرج بها من الأفق الضيق المحدود الذي كانت تضطرب حائرة فيه، إلى آفاق فسيحة عديدة تسرح فيها وتمرح وتحلق، وتغوص فى أعماق النفوس، وتثير شتى الأحاسيس. تأثيرها على الأجيال لا يزال صوت أم كلثوم يسكن في قلوب الملايين حتى يومنا هذا. فقد أثرت في أجيال عديدة من الفنانين والموسيقيين، ولا تزال أغانيها تحظى بشعبية كبيرة. ختام مشوار حافل رحلت أم كلثوم عن عالمنا فى 3 فبراير 1975، بعد صراع طويل مع المرض، سيدة الغناء العربي أم كلثوم، التي أطلقت عليها الأجيال لقب "كوكب الشرق".
وقد ترك رحيلها حزنًا عميقًا في قلوب الملايين من محبي صوتها وعذوبة كلماتها. فقد كانت أكثر من مجرد مغنية، بل كانت أيقونة ثقافية وفنية، تركت إرثًا غنائيًا لا يزال يشد المستمعين حتى يومنا هذا. أم كلثوم، كوكب الشرق، لم تكن مجرد صوت بل كانت ظاهرة ثقافية واجتماعية فريدة في المجتمع المصري والعربي. تجاوز تأثيرها حدود الموسيقى لتشكل جزءًا أصيلاً من الهوية المصرية. فقد كانت صوتاً يعبر عن آمال وتطلعات الشعب المصري، وأصبحت رمزاً للوحدة الوطنية والقوة في أوقات الشدة.
أسهمت أغانيها في تشكيل الوجدان الشعبي المصري، ونقلت قيمًا مثل الحب والوطنية والتضحية. كما أنها كانت رائدة في تطوير الموسيقى العربية، حيث قدمت أعمالاً غنائية ذات قيمة فنية عالية، ما جعلها أيقونة خالدة في تاريخ الموسيقى العربية.