في حضرة الأدب والمسرح يسطع نجم خالد، سُطِر اسمه في سجل الإبداع والدهاء إنه الكاتب الذي جمع بين سحر الفكاهة وعمق الحقيقة، فحول كل مشهد إلى لوحة فنية تنطق بروح الإنسانية بكل تناقضاتها وأحزانها وأفراحها، إنه مُؤَسٌِسُ «الكوميديا الراقية»، فهو أحد أهم أساتذة الكوميديا في المسرح الأوروبي، والعالمي، إنه الشاعر والمؤلف والممثل المسرحي الفرنسي «موليير».
قدّم «موليير» الكثير من المؤلفات المسرحية ذات الطابع كوميدي، وقام بتمثيل حوالي 95 مسرحية؛ منها 31 من تأليفه، وكان صاحب تأثير كبير في تطوير المسرح في أوروبا والعالم، واقتُبِست مسرحيات له من أَوَاخِر القرن التاسع عشر، ومن أشهر مسرحياته : «مدرسة الأزواج، ومدرسة الزوجات، والبخيل».
وهو صاحب لقب «فيلسوف المسرح» فقد استطاع «موليير» أن يقرأ النفوس كما تُقرأ الكتب، وينحت من كلمات بسيطة لوحات درامية تحاكي واقع الحياة بنبرات ساخرة ومريرة في آنٍ واحد، و في مسرحياته تتراقص ألوان الوجود بين ضحك لا يُضاهى ودموعٍ صامتة، حيث يصبح السخرية مرآة تعكس أوجه الحياة المختلفة وتكشف عن معانيها الخفية، وهو الذي أرشدنا إلى أن الفن ليس مجرد ترفيه، بل هو لغة الروح التي تتجاوز حدود الزمان والمكان، تاركًا بصمة لا تُمحى في قلوب محبي المسرح والأدب، هكذا سيظل «موليير»، أيقونة المسرح والروح، رمزًا خالدًا للعبقرية والإبداع.
الميلاد والنشأة
ولد الكاتب الفرنسي الشهير «جُون بَاتِيسْت بُوكْلَان»، والذي عرف بعد ذلك في المسرح الأوربي والعالمي بـ «بموليير» في باريس في 15 يناير عام 1622م.
وتعلّم «موليير» في كلية كليرمونت اليسوعية ومنها تزود بثقافة ومعرفة كبيرة وقوية في المواد الكلاسيكية، وكانت هذه مرحلة مهمة في تكوين شخصيته، فقد تلقى فيها مبادئ العلوم الأساسية والفلسفة، كما تعلم اللغة اللاتينية فقرأ عن طريقها الأعمال المسرحية التي تم نشرها في وقته.
في البدء كان القانون
درس «موليير» القانون وسُمح له بممارسة مهنة المحامي في عام 1641م، و قرر في عام 1643م أن يكرّس نفسه للمسرح، و تعرّف بعدها على مادلين بيجارت الممثلة الصغيرة، والتي ارتبط بها بعد ذلك حتى وفاتها في عام 1672م، حيث لم يكن ينظر إلى حياة المسرح في تلك الفترة على أنّها حياةٌ محترمة أو مهنة لها قيمتها المهمة، مما دفع «جُون بَاتِيسْت بُوكْلَان» حينها لتغيير اسمه إلى «موليير» ليجنّب أسرته من الإحراج.
حدث مهم ونقطة فارقة
انضم«موليير» إلى جماعة تعرف باسم «Illustre Théâtre»، وكانت تلك المجموعة تضم بيجارت وعائلتها، ودخل مرتين إلى السجن بسبب الديون المترتبة على مجموعته قبل أن ينضم في عام 1644م إلى شركة أخرى مع آل بيجارت، وطُلب من الفرقة أن تؤدي عرضًا مسرحيًا أمام الملك لويس الرابع عشر في عام 1658م، وكان عرض «موليير».. «الطبيب العاشق» الكوميدي هو أكثر العروض التي أمتعت الملك حينها، مما مكّن ذلك العرض الفرقة من الحصول على داعمٍ أساسي مهم لهم وهو أخو الملك.
أكبر النجاحات مع «مدرسة الزوجات»
وقدّم «موليير» المسرحية الكوميدية «مدرسة الزوجات» أيضًا أمام الملك وكانت تلك المسرحية من أكبر نجاحاته في يناير 1662م، سببت هذه المسرحية الكثير من الضجة والاحتجاج، فقد ادّعى أعداء موليير بأن هذه المسرحية غير أخلاقية وأنّ موليير قد سرقها من كاتبٍ آخر، ومن هذا قرر «موليير» أن يردّ على أعدائه بأفعاله، فقام بتأليف بمسرحية سميت حينها بـ «انتقاد مدرسة الزوجات» التي تضمنت نقاشًا على المسرح حول النقد والنقاد.
أشهر المسرحيات الكوميدية
دعا الملك لويس الرابع عشر «موليير» لتأدية المسرحية الشهيرة «طرطوف المنافق» في شهر مايو من عام 1664م، وذلك في قصر فيرساي، فرنسا، وهذه المسرحية من أشهر المسرحيات الكوميدية لـ «موليير»، لكنّها أغضبت جمعية «القربان المقدس» التي منعته من تأديتها لمدة خمسة أعوامٍ متتالية.
تُعد المسرحية الكوميدية «دون جوان» التي تمّ عرضها في شهر فبراير عام 1665م، من أعظم المسرحيات الكوميدية التي كتبها «موليير»، لكن لم تنشر تلك المسرحية إلا بعد وفاته وبقيت غير معروفة حتى القرن العشرين.
«البرجوازي النبيل» وعودة ثقة الجمهور
عانى المبدع وأستاذ الكوميديا «موليير» كثيرًا من المرض، والمشاكل الزوجية، وكذلك الاكتئاب، وقام بكتابة عدة مسرحيات لم تلاقِ النجاح الكبير من قبل العامة على الرغم من إعجاب محبيه بها؛ لكنّه استعاد شهرته وثقة جمهوره به من خلال المسرحية الكوميدية المتميزة «البرجوازي النبيل» في عام 1670م.
شخصية «موليير» وقيمته الفنية
وكان «موليير» يتسم بروح وشخصية مساعدة الناس، والكرم والسخاء عليهم، و كفنان يستحق مكانا بارزا بين عظماء الفن ليس على مستوى فرنسا أو أوروبا فقط لكن على المستوى العالمي، كان حريصا على أن يلم شمل الممثلين في فرقة واحدة يسودها الفن والتفاهم مع انضباط كبير، راسين وبيير كورني وجان دي لافونتين وسيرانو دي برجراك، وغيرهم من مسرحي وأدباء فرنسا، عاشوا في عصر «موليير» ولكن لم يستطعوا أن يعرفوا وأن يقدروا المسرح كما قدره هو، ثم قام بتأسيس وترسيخ قواعد الكوميديا الشعبية المهتمة بالترويج على الناس وإضافة جو الحب ما بينهم، كما أنه أسس «الكوميديا الرفيعة» وفتح لها صفحة في التاريخ على المستوى العالمي.
أشهر أقوال موليير
ومن أشهر أقوال فيلسوف المسرح «موليير».. «كلما كبر حجم العقبات، ازداد شعور المرء بالفخر والسعادة »، «وظيفية الكوميديا إصلاح سلوك البشر عبر تسليتهم»، «الحب غالبا ثمرة الزواج».
رحيل وأثر باق
ساءت حالة «موليير» كثيرا لكنّه كان لا يؤمن كثيرًا بالطب، وفي عام 1671م كتب مسرحية «خيانات إسكابان» والتي تشبه كثيرًا مسرحياته السابقة ولاقت نجاحًا كبيرًا.
وفي مثل هذا اليوم 17 فبراير من عام 1673 وأثناء عرض آخر مسرحياته «المريض الوهمي»( مريض بالوهم) أُصيب بنوباتٍ شديدة ليتوفى بعدها في الليلة نفسها، بعد أن ترك أثرًا كبيرًافي رحلة وتاريخ فن الكوميديا بالمسرح الأوروبي والعربي والعالمي وتظل مؤلفاته ومسرحياته تقدم في مختلف مسارح دول العالم كله و في مصر والوطن العربي.