منذ أن شاءت إرادة الله العلية أن يكون الإسلام دينًا خاتمًا للإنسانية وضع له منهجًا فريدًا ومتكاملًا قائمًا على التوازن والاعتدال، يجمع بين الدنيا والآخرة، بين الدين والحياة، بين المادة والمعنى، بين العقل والقلب، بين الأمل والعمل، بين الأخذ والعطاء، بين السعي لتحقيق الرغبات وبين الحفاظ على القيم، بين التطلعات الشخصية والمصالح العامة، بين التسلح بالعلم والتمسك بالإيمان، بين القوة واللطف، بين الشجاعة والحكمة، بين التفاؤل والواقعية، بين الوحدة والتنوع، بين الظاهر والباطن، بين الغنى الروحي والغنى المادي، منهج رباني لا يعرف الغلو ولا التفريط، بل يربي المسلم على الاعتدال في جميع شؤونه الحياتية، ليعيش في انسجام مع نفسه، ومع مجتمعه، ومع خالقه، طريقًا اختاره الله تعالى لأمته لا يسرف فيه المسلم ولا يقصر، يناسب فطرته، ويحفظ له كرامته وحقوقه، شعاره وعنوانه «وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى الـنّـَاسِ» (البقرة: 143)، فأراد الله لهذه الأمة أن تكون شاهدًا على الأمم الأخرى في اعتدالها وحسن تعاملها في كل شؤون الحياة، الوسطية في هذا الدين هي أسلوب حياة يتجسد في العبادات، والمعاملات، والعلاقات الإنسانية، فهي تمثل جوهر رسالة الإسلام، تبني جسورًا من التفاهم بين الإنسان وبيئته، وتدعو إلى التعاون لا الصراع، والرحمة لا القسوة، والعدل لا التحيز، في هذا السياق نجد أن الإسلام قد فتح للإنسان أفقًا رحبًا لتحقيق التوازن بين حاجاته الروحية والدنيوية، ليعيش حياة مليئة بالسلام الداخلي، ولتكون الأمة الإسلامية أنموذجًا يُحتذى بها في الاعتدال والسمو.
واسمح لي عزيزي القارئ الكريم من خلال هذا المقال أن أعرج على نقطتين بشكل من التفصيل
الاعتدال في العقيدة والسلوك
إنّ الاعتدال في العقيدة والسلوك يعد من أبرز سمات الإسلام الحنيف، فقد جاء الدين ليبني تصورات الإنسان عن ذاته، وعن ربه، وعن الكون ككل بشكل متوازن، لا يميل إلى الغلو ولا إلى التفريط، ويعكس ذلك بوضوح في عقيدته التي تقوم على التوحيد الكامل لله تعالى، بلا شرك ولا تقديس لغيره، فهي عقيدة تُنزه الله عن أي شبيه أو شريك، وقد ورد في القرآن الكريم قوله تعالى: "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ" (الإخلاص:1)، وهذا يبرز أهمية التوحيد الخالص لله سبحانه وتعالى، وقد أراد الإسلام للإنسان في الجانب السلوكي أيضًا أن يتبع نهجًا متوازنًا في كل مجالات حياته، سواء في عباداته أو في معاملة الناس، فقد ورد في الحديث الشريف الذي رواه أبو هريرة عن النَّبيّ ﷺ أنه قَالَ: «إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، ولنْ يشادَّ الدِّينُ أحد إلاَّ غَلَبه فسدِّدُوا وقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا، واسْتعِينُوا بِالْغدْوةِ والرَّوْحةِ وشَيْءٍ مِن الدُّلْجةِ» ما يعني أن الإسلام لا يرضى بالتشدد في الدين، بل يدعو إلى التيسير واتباع الوسطية، وفي سياق العبادة، نجد أن الإسلام يوازن بين الحقائق الروحية والواقع الحياتي، فلا يفرض على المسلم أن يبتعد عن الحياة الدنيا، بل يوجهه إلى العمل الصالح فيها، إذ يقول الله تعالى: "وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا" (القصص: 77)بهذا التوجيه القرآني يظهر كيف أن الإسلام لا يدعو إلى عزلة عن الدنيا، بل إلى التوازن بين العمل للآخرة والتمتع بالحياة الدنيا بما يرضي الله، كذلك نجد أن الإسلام يوجه المسلم إلى الاعتدال في السلوك الاجتماعي، فلا إفراط ولا تفريط في العلاقات مع الآخرين، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ" (رواه البخاري)، ليعكس هذا الحديث الشريف الاعتدال في المعاملات، حيث لا يظلم المسلم ولا يقصر في حقوق الآخرين، وبالتالي يعد الاعتدال في العقيدة والسلوك أساسًا لبناء مجتمع متماسك ومتوازن، يعمل أفراده معًا لتحقيق الخير والعدل، ويراعون حقوق الله وحقوق الناس في وقت واحد، فالاعتدال في الإسلام ليس فقط في المواقف الكبرى، بل في كل جانب من جوانب الحياة اليومية، ليعيش المسلم حياة يملؤها الرضا الداخلي، ويُسهم في بناء مجتمع يعمّه السلام والرخاء.
التوازن بين حقوق الفرد والجماعة في الإسلام
يعد التوازن بين حقوق الفرد والجماعة من أبرز المبادئ التي حرص عليها الإسلام في تنظيم العلاقات الإنسانية، ففي هذا الدين الحنيف لا يُنظر إلى الفرد بمعزل عن المجتمع، ولا يُعطى المجتمع أولوية على حساب حقوق الفرد، بل إن الإسلام يعبر عن رؤية متكاملة تراعي حقوق الطرفين في تناغم تام، بحيث تضمن للإنسان حقوقه دون أن تتعارض مع مصلحة الجماعة، وفي الوقت ذاته تضع في اعتبارها أن مصلحة الجماعة لا ينبغي أن تَطغى على حقوق الأفراد، وهنا أركز على نقطتين :
1 - الحقوق الفردية في الإسلام أصل التكريم والحرية
بدأ الإسلام بتأكيد عميق على كرامة الإنسان منذ اللحظة الأولى لخلقه، حيث يقول الله تعالى في كتابه الكريم: "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ"(الإسراء: 70) من هذه الآية نعلم أن الفرد في الإسلام يُعدّ كائنًا ذا قيمة كبيرة، ويُمنح حقوقًا عدة تشمل حرية الفكر، والاعتقاد، والعمل، والتملك، التي يجب على المجتمع والدولة احترامها وحمايتها، فالإسلام لم يُقيد هذه الحقوق إلا بما يحفظ النظام العام ويضمن المصلحة العليا للمجتمع، فقد أقرَّ بالحق في الحياة، والحق في التعبير عن الرأي، والحق في ملكية الممتلكات، وكل ذلك ضمن إطار من الحرية التي لا تمس بحقوق الآخرين ولا تضر بالمجتمع.
2 - الحقوق الجماعية مسؤولية الفرد تجاه المجتمع
على الرغم من أن الإسلام يؤكد على حقوق الفرد، إلا أنه في ذات الوقت يضع أهمية كبيرة على حقوق الجماعة، فالمجتمع في الإسلام ليس مجرد تجمع من الأفراد، بل هو كيان متماسك، يُحَقق عبره الإنسان كرامته وحقوقه، يقول الله تعالى: "وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّـهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا"(آل عمران: 103)، وهذا أمر من الله بأن يسعى المسلمون إلى الحفاظ على وحدة مجتمعهم وكيانهم، بل ومن خلال تماسك المجتمع تُصان حقوق الأفراد، ففي هذا السياق، نجد أن الإسلام يَحث على التعاون والتكافل بين الأفراد بما يضمن الأمن والاستقرار، فيقول: "وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ" هذا التكافل يُجسد فكرة مسؤولية الفرد تجاه الجماعة، مما يعكس حالة من التناغم بين حقوق الأفراد واحتياجات المجتمع.
وفي الختام، يبقى أن نقول إن الوسطية والاعتدال في الإسلام ليست مجرد مفاهيم نظرية، بل هي أسلوب حياة متكامل يربط بين الطمأنينة الروحية والواقعية الحياتية، إنه منهج رباني يلزم المسلم بالتوازن في كل خطوة، ويغرس فيه قدرة على التفاعل السليم مع ذاته ومع غيره، ويحثه على بناء مجتمعه وفق أسس من العدالة والرحمة والتعاون فهو يقدم بذلك للإنسانية أنموذجًا عظيمًا من التوازن بين الفرد والجماعة، بين الحقوق والواجبات، وبين الدنيا والآخرة، ليعيش الإنسان حياةً تنبع من أفقٍ رحب، يحقق فيها السلام الداخلي ويعزز السلم الاجتماعي، فليكن اعتدالنا في الفكر والعمل دليلًا على إيماننا، ورافدًا لما نصبو إليه من حياةٍ طيبةٍ ومجتمعٍ مزدهرٍ، تسوده الأخوة والمحبة والعدالة.