الثلاثاء 4 مارس 2025

مقالات

بين الماضي والحاضر


  • 4-3-2025 | 15:24

د. محمد قاسم المنسي

طباعة
  • د. محمد قاسم المنسي

إن من يطالع تاريخ مصر وفى كل مراحله يكتشف أنها تمتعت بشخصية متفردة في كثير من جوانب الحياة في العلوم والفنون بكل أنواعها، حتى أصبحت تمثل في التاريخ الإنسانى (حالة) خاصة، لها قوانينها وأسلوبها، وإن شئت نقل لها شخصيتها الفريدة، قد ترجع إلى الموقع الجغرافى أو إلى ظروف البيئة والمناخ أو إلى طبيعة الإنسان المصرى، أو إلى النيل ودوره الحضارى في بناء الشخصية المصرية، أو كل هذه الأسباب مجتمعة لا متفرقة، ومن ثم، كان من الضرورى دراسة هذه (الحالة) لمعرفة أسبابها ومكوناتها، للمحافظة عليها من ناحية، ولتطويرها وتعظيم الانتفاع بها من ناحية أخرى، ولا يعد من باب المبالغة أو التعصب القول بأن كل من عاش على أرض مصر وأدرك حقيقتها لم يستطع أن يقاوم جاذبية هذه الحالة، سواء أكان من أبنائها أو من القادمين إليها، وهذا ما عبر عنه الزعيم مصطفى كامل في مقولته الشهيرة (لو لم أكن مصريا لوددت أن أكون مصريا).

ولاشك أن من بين تجليات هذه الحالة ما عرف باسم (دولة التلاوة القرآنية) أو (المدرسة المصرية في تلاوة القرآن الكريم) وهو العنوان الذى أميل إليه، حيث تميزت مصر، بطريقة مستقلة ومتفردة في تلاوة القرآن الكريم من خلال كبار القراء، الذين ذاع صيتهم في أوساط العالم الإسلامى مع ظهور الإذاعة المصرية، التي أسهمت في وصول هذه الأصوات إلى جميع بقاع الأرض، وأسهمت – في الوقت نفسه- في تأسس دولة للتلاوة القرآنية ذات أسلوب متفرد، أسهم في نشر الإسلام ووصول القرآن الكريم – عبر هذه الأصوات – إلى جنوب أفريقيا وشرق آسيا وأوروبا وأمريكا.

ولاشك أن هذه الطريقة – في تلاوة القرآن الكريم – قد جسدت للمقولة الخالدة التي تشير إلى أن القرآن الكريم (نزل بمكة، وطبع في اسطنبول، وقرئ بمصر).

ولقد ذهب بعض الباحثين المعاصرين إلى أن هذه الطريقة اشتهرت بمصطلح (التجويد) تمييزا لها عن الطريقة الشائعة في أنحاء العالم الإسلامي، والتي اشتهرت بمصطلح آخر هو (الترتيل) والفارق بينهما هو الطريقة في التلاوة، حيث تتميز إحداهما بطول المدة، وتمهل القراءة وإطالة السكوت وتنوع الوقف والابتداء ومن ثم تكون أحكام (التجويد) أكثر وضوحا من أحكام (الترتيل) ومن هنا كانت طريقة التجويد من أهم خصائص المدرسة المصرية في تلاوة القرآن الكريم.
 

ويمكن تقسيم المدرسة المصرية في تلاوة القرآن الكريم إلى ثلاثة أجيال:

الجيل الأول: جيل الرواد، الذين يرجع إليهم الفضل في بناء وتأسيس المدرسة المصرية في التلاوة، وهم الشيوخ الآتية أسماؤهم الشيخ محمد رفعت والشيخ محمد صديق المنشاوى.. والشيخ عبدالباسط عبدالصمد، والشيخ مصطفى إسماعيل والشيخ محمود خليل الحصرى، والشيخ محمود على البنا، والشيخ أبو العينيين شعيشع والشيخ عبدالعظيم زاهر والشيخ عبدالفتاح الشعشاعى والشيخ كامل يوسف البهتيمى.

الجيل الثانى.. وهو جيل الوسط، وهو من الشيوخ: الشيخ راغب مصطفى غلوش والشيخ أحمد نعينع، والشيخ محمد محمود الطبلاوى، والشيخ عبدالعاطى ناصف والشيخ شعبان الصياد والشيخ أحمد الرزيقى والشيخ الشحات محمد أنور، والشيخ محمد عمران، والشيخ محمود حسين منصور والشيخ محمد بدر حسين.

الجيل الثالث: وهو الجيل المعاصر ونذكر منهم: الشيخ ياسر الشرقاوى والشيخ محمد ضيف، والشيخ عزت السيد راشد، والشيخ فتحى الجمل والشيخ محمود الخشت والشيخ عبدالفتاح الطاورطى.

وما بلغت الانتباه عند النظر في هذه الأجيال هو درجة التمكن والإبداع والإجادة التي تمتعوا بها، ولا سيما الجيل الأول، الذين تمتعوا بقدرات خاصة، يصعب أن تتكرر، حيث كان كل منهم مدرسة مستقلة في الأداء بجميع مستوياته الصوتى، والنغمى، وتصوير المعنى، والجواب والقرار، وغير ذلك من أسرار القراءة وعلى الرغم من وجود قواسم مشتركة بين جيل الرواد إلا أن ذلك لم يمنع من تميز كل واحد منهم بميزة تفوق بها على غيره، وهكذا عبر الشيخ محمد متولى الشعراوى عن ذلك، فقال:

إن أفضل من قرأ القرآن الكريم بالأحكام هو الشيخ محمود خليل الحصرى، فإذا انتقلت للفن في الأداء، والتنقل بين المقامات الصوتية، فيكون الشيخ مصطفى إسماعيل، وإذا انتقلنا لحلاوة الصوت فيتصدر المشهد الشيخ عبدالباسط عبدالصمد، وأشار إلى أن هؤلاء الثلاثة ينفرد كل منهم بميزة من غيره في التلاوة، بينما يجمع كل هذه الميزات الشيخ محمد رفعت ففيه كل ذلك، فهو صاحب الصوت الجميل والفن في الأداء وضبط التلاوة بالأحكام.

وبالإضافة إلى ما سبق، فإنه بوسعنا أن نحدد خصائص المدرسة المصرية في تلاوة القرآن الكريم على النحو الآتى:

الخاصية الأولى: حلاوة الصوت وجماله وجاذبيته، وهى أمور يكون لها تأثير بالغ عند أداء القرآن والاستماع إليه، ومن المعلوم أن الصوت الجميل إذا خرج من القلب، فإنه يدخل إلى القلوب كذلك ومن أبرز من تمتع بهذه الخاصة (الجاذبية والجمال) الشيخ عبدالباسط عبدالصمد والشيخ محمد صديق المنشاوى.

الخاصية الثانية: الأداء الموسيقى، والتنقل بين المقامات الموسيقية، وقد جاء الشيخ مصطفى إسماعيل في مقدمة من يجيدون ذلك الأداء الموسيقى فقد تمتع بمواهب فريدة وقدرات خاصة مكنته من تقديم لوحات فنية لآيات القرآن الكريم ، بصورة غير مسبوقة، وهو ما جعله ينتقل بالجمهور، في التلاوة الواحدة، بين أكثر من مقام موسيقى، وكان يبدو في ذلك كله، مالكا لزمام الأمر كله عند القراءة، فهو يعرف ماذا يريد وماذا يفعل؟

الخاصية الثالثة: الخشوع وتصوير المعانى، وأبرز من فعل ذلك الشيخ محمد صديق المنشاوى، الذى يبكى – عند القراءة – وأنت تشعر حين تستمع إليه، أنك انتقلت إلى الحضرة العلوية.

ولقد جمع المنشاوى في قراءته للقرآن (مجودا ومرتلا) بين جمال الصوت والخشوع وحضور القلب.

الخاصية الرابعة: الأحكام والدقة في الأداء، وهذا عنصر من عناصر الأداء القرآنى حيث يقرأ القرآن الكريم بطريقة فريدة لا نظير لها، فلا يقرأ أي كتاب آخر، في تاريخ البشرية، يمثل هذه الطريقة ، حيث وضعت قواعد وأحكام للتلاوة المحكم والدقيقة.

الخاصية الخامسة: ثقافة الأداء، فالأصوات البشرية تكشف للمستمعين عن طبيعة الشخصية، ومدى الثقة التي تتمتع بها بل ومدى القوة الاستقلالية عندما يكون الصوت قويا وواضحا، ومدى الثقافة والخبرات الخاصة والعامة، فالقراءة لم تكن فقط قراءة حروف وكلمات، وإنما كانت بالإضافة إلى ذلك قراءة معان وأفكار، لابد أن يبرزها القارىء المثقف في إطارها المناسب لها حتى تصل إلى الجمهور في أبهى صورة وتبدو هذه الثقافة في اختيار بداية القراءة ونهايتها، وفى اختيار النغمة المناسبة للمعنى، وفى الوقوف عند بعض الكلمات.

ومما يلفت نظر الباحث أن الأصوات المصرية في قراءة القرآن الكريم أو أصوات كبار المنشدين، أو المغنين في النصف الأول من القرن العشرين كانت ذات ثقافة واضحة، وكنت تشعر أن أداء القارىء أو المنشد أو المغنى أداء مثقف، تشم منه رائحة الثقافة والتجربة والخبرة، وهو الأمر الذى خلت منه الأصوات – على وجه العموم – في النصف الثانى من القرن العشرين، ولا تسأل من أوائل القرن الحادى والعشرين، فإن ضعف الأداء ونمطيته أصبح سمة مميزة للأداء العام في كل مجالات الحياة .

وبعد، فإنه إذا نظرنا إلى الجيل المعاصر لقراء القرآن الكريم، مقارنة بجيل الرواد وجيل الوسط، فإننا نجد أن الفارق كبير جدا بين جيل الرواد، والجيل الحاضر الذى إن تميز بكثرة العدد، فإنه يفتقد الخصائص التي تفوق بها جيل الرواد، ويكفى خاصية واحدة هي خاصية الإبداع، الأمر الذى يشير إلى علامة من علامات الخطر على مكانة المدرسة المصرية في التلاوة، لاسيما بعد أن كثرت الأصوات من بلاد أخرى، ويدرعونا إلى التساؤل حول ظاهرة اختفاء الإبداع والأصوات المبدعة، وعن كيفية العمل على استعادة حالة الإبداع من خلال اكتشاف أصوات جيدة، تصنيف عناصر جديدة إلى المدرسة، وحتى لا تضيع هذه الصناعة، وتضيع معها الريادة وتضيع معها كذلك إحدى أدوات القوة الناعمة التي تتمتع بها مصر المعاصرة والتي كانت تتمتع بها كذلك مصر القديمة.

أخبار الساعة

الاكثر قراءة