يعد فن المديح أحد فنون الشعر العربي منذ العصر الجاهلي حتى اليوم وهو يتضمن مدح الشاعر ذوي الجاه والسلطان وربما نال الشاعر على ذلك مكافاة سخية.
وهناك شعراء عرفوا بهذا الفن على مر العصور وكانوا يتكسبون منها حتى أن مؤرخى الأدب لم يجدوا غضاضه من وصف هؤلاء الشعراء بأنهم يتكسبون من أشعارهم.. وأنهم جعلوا قصائدهم مصدر رزقهم وعماد حياتهم.
ففي العصر الجاهلي عرف بذلك زهير بن أبي سلمى والأعشى والنابغة الذبياني وكعب ابن زهير وغيرهم.
أما في عصر الخلفاء فقد وقف عدد كبير من الشعراء على أبواب الخلافة وبالغوا في مدائحهم.. بل عرف بعضهم بأنه شاعر الخليفة أو شاعر الأمير.
وحينما قام الرسول صلى الله عليه وسلم بدعوة العرب إلى الإسلام تسابق بعض الشعراء المشركين إلى هجاء الرسول والمسلمين وكان لابد أن يكون للإسلام شعراؤه الذين يدافعون عنه ويردون على المشركين هجاءا بهجاء.. فانطلق الشعراء المسلمون وفي مقدمتهم حسان بن ثابت وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة وعرفوا بشعراء الدعوة الإسلامية..
من هنا ظهر فرع جديد من فروع فن المديح على استحياء وهو فن المديح النبوي حيث حرص الشعراء المسلمون على ذكر خلق الرسول وصفاته وتعامله مع الغير ودعوته الجديدة..
وقد جاء في جمهرة العرب للقرشي في باب (النبي والشعر) قوله:
ولم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه الشعر ويمدح به فيثيب عليه ويقول هو ديوان العرب.
وهو القائل: إن من الشعر لحكمة.. وإن من البيان لسحرا.
ومن أقدم مدائح الرسول قصيدة الأعشى التي حملها وذهب بها إلى الرسول ليعلن إسلامه .. لكن قريشا اعترضت طريقه وسألوه : أين يذهب.. فأخبرهم أنه يريد محمدا ليعلن إسلامه.. فقالوا له: إن محمدا ينهى عن القمار والزنا والربا والخمور.. فقال الأعشى: لقد زهدت في القمار.. وتركني الزنا وما تركته.. أما الربا فما دنت ولا أدنت.. لكنه أبدى جزعه عن ذكر الخمر وقال : أوه.. أرجع إلى صبابة قد بقيت لي فأشربها.
ثم عرض عليه أبو سفيان مائة من الإبل ليعود إلى بلده ولا يذهب إلى محمد فاستجاب وعاد.. فلما كان في بقاع (منفوخه) باليمامة رمى به بعيره فقتله..
هكذا يحكي الأغاني عن الأعشى ويذكر قصيدته التي يقول فيها :
نبي يرى ما لا ترون وذكره
أغار لعمري في البلاد وانجدا
له صدقات ما تغيب ونائل
وليس عطاء اليوم مانعة غدا
متى ما تناخي عند باب بن هاشم
تراحي وتلقى من فواضله ندى
أما كعب بن زهير فكان قد هجا أخاه بجيرا حينما أسلم ونال في هذا الهجاء من الرسول وأبي بكر.. فلما بلغ ذلك الرسول أهدر دمه..
فكتب بجير إلى أخيه كعب: انج بنفسك..
ثم كتب له مرة أخرى: إن من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.. قبل الرسول منه وأسقط ما كان قبل ذلك..
فلما بلغ ذلك كعبا ضاقت به الدنيا وأشفق على نفسه.. فأسرع إلى الرسول متخفيا ووضع يده في يده وكان الرسول لا يعرفه فقال: يا رسول الله إن كعب بن زهير قد جاء ليستأذن منك تائبا مسلما .. فهل أنت قابل له إن جئتك به..
قال الرسول: نعم..
قال كعب: فأنا يا رسول الله كعب بن زهير..
وهنا حاول رجل من الأنصار قتله فنهره الرسول الكريم قائلا: دعه فإنه قد جاء تائبا..
فأنشد كعب قصيدته الشهيره :
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول
متيم إثرها لم يفد مكبول
وما سعاد غداة البين إذ رحلوا
إلا أغن غضيض الطرف مكحول
هيفاء مقبلة عجزاء مدبرة
لا يشتكى قصر منها ولا طول
وبعد أن يستوفي غزله كعادة الشعراء.. يخاطب الرسول بقوله :
نبئت أن رسول الله أوعدني
والعفو عند رسول الله مأمول
ثم يقول مادحا :
إن الرسول لنور يستضاء به
مهند من سيوف الله مسلول
في عصبة من قريش قال قائلهم
ببطن مكة لما أسلموا زولوا
وقد أطلق على هذه القصيدة البردة لأن الرسول خلع بردته وأهداها إلى كعب فيما يروى
ونلاحظ أن رسولنا الكريم لم يعترض أن يبدأ الشاعر قصيدته بالغزل لأنه العربي القرشي الذي كان يحب الشعر ويحضر سوق عكاظ ويدرك أن هذا كان أسلوب الشعراء السائد.
وقد أخبرنا زكي مبارك في كتابه (المدائح النبوية) أن هذه المدائح بدأت بعد موت الرسول في هذه المرثيات التي أبدعها الشعراء وذكروا فيها خلق الرسول الكريم وصفاته.. لكن هذا الرأي _مع تقديرنا لصاحبه _ لا ينطبق على الواقع فكما رأينا ماذا قال الأعشى.. وماذا قال كعب بن زهير.. نجد أيضا الشعراء الثلاثة يمدحون النبي في حياته قبل أن يرثوه في مماته.. من ذلك مثلا ما قاله حسان بن ثابت:
عفت ذات الأصابع فالجواء
إلى عذراء منزلها خلاء ديار من بني الحسحاس قفر
تعفيها الروامس والسماء
ثم يقول لأبي سفيان : هجوت محمدا فأجبت عنه
وعند الله في ذاك الجزاء
اتهحوه ولست له بكفء
فشركما لخيركما الفداء
هجوت مباركا برا حنيفا
أمين الله شيمته الوفاء
فإن أبي ووالده وعرضي
لعرض محمد منكم وقاء
او يقول :
وأحسن منك لم تر قط عيني
وأجمل منك لم تلد النساء..
ونمضي مع الزمن حتى نصل القرن السابع الهجري ويظهر البوصيري ويشتهر بالمدائح النبوية ليكون رائدا في هذا الفن.
وقد اشتهر بقصيدة البرده التي يقول فيها :
امن تذكر جيران بذي سلم
مزجت دمعا جرى من مقلة بدم
أم هبت الريح من تلقاء كاظمة
وأومض البرق في الظلماء من إضم
ثم يقول مادحا :
أكرم بخلق نبي زانه خلق
بالحسن مشتمل بالبشر مبتسم
كالزهر في طرف والبدر في شرف
والبحر في كرم والطهر في همم
كأنه اللؤلؤ المكنون في صدف
من معدني منطق منه ومبتسم
لا طيب يعدل تربا ضم اعظمه
طوبى لمنتشق منه وملتئم
وقد تأثر بهذه القصيده وعارضها كثير من الشعراء الذين جاءوا بعد البوصيري أشهرهم أمير الشعراء أحمد شوقى.. الذي كتب نهج البردة وتغنت بها أم كلثوم ومطلعها :
ريم على القاع بين البان والعلم
أحل سفك دمي في الأشهر الحرم
وللبوصيري قصيدة أخرى شهيرة يقول فيها:
كيف ترقى رقيك الأنبياء
يا سماء ما طاولتها سماء
لم يساوك في علاه فقد جال سنا منك دونهم وثناء
إنما مثلوا صفاتك للناس كما مثل النجوم الماء
أنت مصباح كل فضل فما تصدر إلا عن ضوئك الأضواء
تلك أهم علامات المدائح النبوية والتي تذكر وتشيد بصفات وخلق الرسول الكريم.
أما شعر التصوف.. فقد دخل في إطار الروحانية وتخصص في حب الذات الإلهية.. والتجرد من أطماع الدنيا.. والعبودية الخالصة لله.. متخذا الرسول الكريم قدوة له.
وقضية التصوف لها فضاء واسع.. ومن ثم فإن آراء كثيرة.. ورؤى أكثر وصلت إلينا نثرية شعرية.. وزادت الأمر غموضا وصعوبة..
وبالرغم من ذلك فقد استطاع المتصوفة الشعراء ان يتخففوا من هذه الصعوبات ويعبروا عن أشواقهم ومواجيدهم.. بما اصطلح على تسميته (بالحب الإلهي) ..
ونلاحظ أن هؤلاء الشعراء يشتركون مع شعراء الغزل العربي خاصة العذريون في كثير من المفردات والمسميات قاصدين بها الذات الإلهية.. وليس مجرد مسميات للنساء أو حالات الحب الإنساني.. مما جعل ابن عربي مثلا يشرح ديوانه بنفسه.. ويفكك رموزه الصوفية حتى لا يؤوله المتأولون بغير ما قصد.. فهو يقول مثلا :
ليت شعري هل دروا
أي قلب ملكوا
وفؤادي لو درى
أي شعب سلكوا
أتراهم سلموا
أم تراهم هلكوا
حار أرباب الهوى
في الهوى وارتبكوا
أو يقول:
أدين بدين الحب أنى توجهت
ركائبه فالحب ديني وإيماني
لنا أسوة في بشر هند وأختها
وقيس وليلى ثم مي وغيلان
أو نقرأ لابن الفارض قوله :
كل من في حماك يهواك لكن
أنا وحدي بكل ما في حماكا
فيك معنى حلاك في عين عقلي
وبه ناظري معنى حلاكا
فقت أهل الجمال حسنا وحسبي
فيهمو فاقة إلى معناكا
يحشر العاشقون تحت لوائي
وجميع الملاح تحت لواكا
وهذا شهاب الدين السهروردي الذي عاش ثمانية وثلاثين عاما وقتل في حلب (587 ه) .. يضع إشراقاته في فلسفته وأقواله وأشعاره.. ويرى أن الحب قدر وليس على المحب ملامة حينما يستجيب للوصال :
يا صاح ليس على المحب ملامة
إن لاح في أفق الوصال صباح
لا ذنب للعشاق إن غلب الهوى
كتمانهم فنمى الغرام وباحوا
سمحوا لأنفسهم وما بخلوا بها
لما دروا ان السماح رباح
ودعاهم داعي الحقائق دعوة
فغدوا لها مستانسين وراحوا
والله ما طلبوا الوقوف ببابه
حتى دعوا وأتاهم المفتاح
ويضيق المقام لذكر الكثير من شعراء الحب الإلهي.. منهم على سبيل المثال ذو النون المصري.. والحلاج.. وعبد القادر الجيلانى.. ورابعة العدوية.. والعز بن عبد السلام .. وجلال الدين الرومي.. وحافظ الشيرازي.. وسنائي الغزنوي.. وفريد الدين العطار .. ومحمد إقبال وغيرهم.
ويمكننا الآن بعد هذا العرض أن نفرق بين شعر المدائح النبوية الذي يقتصر على مدح الرسول الكريم وربما آل بيته.. وشعر التصوف أو الحب الإلهي وهو مدح الذات الإلهية بعد التجرد من أطماع الدنيا والزهد فيها والتوسل إلى الله تعالى.
وهكذا يؤكد الشعر تغلغله في وجدان الإبنسان والتعبير الصادق عن مشاعره الذاتية والإلهية