بين الأصالة والتجديد

يعد فن الابتهال الديني أحد أرقى الفنون الروحانية التي نشأت في العالم الإسلامي، وهو تعبير غنائي يحمل في طياته معاني التضرع والمناجاة والتوسل إلى الله بصوت يفيض بالخشوع والإحساس الصادق. بدأ هذا الفن مع بدايات الإسلام، حين كان المسلمون يرددون الأدعية والأذكار بصوت رخيم في المساجد، خاصة خلال الصلوات والمناسبات الدينية.

مع انتشار التصوف في العصر العباسي، أصبح الابتهال جزءًا أساسيًا من الطقوس الصوفية، حيث كان الشيوخ والمريدون يؤدونه في حلقات الذكر. كما تأثر هذا الفن بالموسيقى التركية والفارسية خلال العصر العثماني، مما أضاف إليه أبعادًا لحنية جديدة.

وفي العصر الحديث، ساهمت الإذاعة المصرية في نشر الابتهال الديني عبر تسجيلات لكبار المبتهلين، مثل سيد النقشبندي، نصر الدين طوبار، وطه الفشني، ما جعله جزءًا من وجدان المستمعين في العالم العربي.

الفرق بين الابتهال والتوشيح

رغم أن الابتهال والتوشيح كلاهما من الفنون الدينية، إلا أن بينهما اختلافات جوهرية، منها:

•أسلوب الأداء: التوشيح يؤديه مجموعة من المنشدين، بينما الابتهال أداء فردي يعتمد على الإحساس الشخصي والتفاعل الروحي.

•المحتوى: التوشيح يركز على مدح النبي، بينما الابتهال يركز على التضرع والمناجاة والدعاء.

•التركيب الموسيقي: التوشيح يتميز ببنية لحنية منظمة، بينما الابتهال يمنح المبتهل حرية واسعة في التنقل بين المقامات.

•الهدف: التوشيح أقرب إلى فن المديح الديني، أما الابتهال فهو تعبير وجداني يعكس العلاقة الروحية بين العبد وربه.

أهم الشعراء الذين كتبوا الابتهالات

لطالما ارتبط فن الابتهال بالشعر الديني، ومن أبرز الشعراء الذين كتبوا فيه:

•الإمام الشافعي: اشتهر بأشعاره الزهدية التي تحث على التوبة، ومنها:

إلهي لا تعذبني فإني مقر بالذي قد كان مني

•الحلاج: كتب أشعارًا صوفية تعبر عن العشق الإلهي والتجرد من الدنيا، مثل:

أنا من أهوى ومن أهوى أنا نحن روحان حللنا بدنا

•الإمام البوصيري: كتب قصيدة البردة، التي تُعد من أشهر القصائد الدينية المستخدمة في الابتهالات.

•ابن الفارض: عبر في أشعاره عن وجد المتصوفين وعلاقتهم الروحانية بالله.

•عبد الرحمن الأبنودي: كتب بعض القصائد الروحانية الحديثة التي أنشدها المبتهلون المعاصرون.

المرأة والابتهال الديني: 

دور نسائي بارز

لطالما كان فن الابتهال حكرًا على الرجال، سواء من حيث الأداء أو الكتابة، لكن بعض النساء استطعن أن يتركن بصمة واضحة فيه.

ياسمين الخيام- 

صوت نسائي في عالم الابتهال:

رغم أن الابتهال ظل طويلًا فنًا ذكوريًا، استطاعت ياسمين الخيام أن تحقق شهرة واسعة في هذا المجال. وهي ابنة القارئ الشيخ محمود خليل الحصري، وقد بدأت حياتها بالغناء، لكنها قررت التفرغ للابتهالات بعد نصيحة والدها، الذي أراد لها أن تقدم فنًا يخدم القيم الإسلامية.

من أشهر ابتهالاتها:

•محمد يا رسول الله

•يا رب بهم وبآلهم

•خد بإيدي

•إلهي ليس لي إلاك عونًا

تميزت ياسمين الخيام بصوت روحاني مؤثر جعلها واحدة من أهم المبتهلات في العصر الحديث، إلى جانب أعمالها الخيرية عبر جمعية الحصري الخيرية، التي تهتم برعاية الأيتام والمحتاجين.

علية الجعار- شاعرة الابتهالات:

لم يكن للنساء دور بارز في كتابة الابتهالات، لكن علية الجعار استطاعت أن تحفر اسمها في هذا المجال. وُلدت عام 1935 في طنطا، وتخرجت في كلية الحقوق، لكنها كرست قلمها للكتابة الدينية، حيث قدمت العديد من الابتهالات التي أُذيعت في الإذاعة والتلفزيون المصري. كما كتبت العديد من السهرات الدينية التي تناولت سير الصحابة والسيرة النبوية، ما جعلها واحدة من الشخصيات المؤثرة في نشر الأدب الديني عبر الإذاعة المصرية.

أخلاقيات مهنة المبتهل

نظرًا لقدسية الابتهال الديني، فإن المبتهل يجب أن يتحلى بعدد من القيم الأخلاقية، منها:

•الإخلاص في الأداء: يجب أن يكون الابتهال نابعًا من القلب، وليس مجرد استعراض صوتي.

•الالتزام بالضوابط الدينية: التأكد من صحة الكلمات، والابتعاد عن أي إضافات موسيقية لا تتناسب مع روح الابتهال.

•التواضع واحترام التراث: الابتعاد عن الغرور، والحرص على أداء الابتهالات بأسلوب يحترم الموروث الديني.

•التأثير الإيجابي في الجمهور: تقديم رسائل تبعث الطمأنينة وتعزز الإيمان.

•المنافسة الشريفة: احترام زملاء المهنة، وعدم استخدام الابتهال كوسيلة للربح التجاري غير المشروع.

فن الابتهال في العصر الرقمي

شهد العصر الرقمي تحولًا كبيرًا في طريقة انتشار الابتهالات الدينية، حيث أصبح بإمكان المستمعين الوصول إلى تسجيلات نادرة لكبار المبتهلين عبر يوتيوب ومنصات البث الصوتي. كما ظهرت فرق إنشادية حديثة تقدم الابتهالات بأساليب معاصرة، مما ساهم في وصول هذا الفن إلى الأجيال الجديدة.

تحديات العصر الحديث

رغم انتشار فن الابتهال، إلا أنه يواجه تحديات تتعلق بالحفاظ على أصالته، خاصة مع دخول أساليب موسيقية حديثة قد تبتعد عن روح الفن الأصلية. ولكن يظل الابتهال الديني أحد أعمدة الفنون الروحانية في العالم الإسلامي، حيث يعكس الوجدان الديني، ويعزز الرابطة الروحية بين الإنسان وربه

فن الابتهال هو فن يجمع بين الأصالة والتجديد، وبين الروحانية والإحساس الصادق. ورغم أن الرجال هيمنوا عليه عبر العصور، إلا أن ياسمين الخيام وعلية الجعار أثبتتا أن للنساء دورًا مهمًا في إثراء هذا الفن. ومع انتشار وسائل التواصل الحديثة، أصبح الابتهال أكثر انتشارًا من أي وقت مضى، ما يفتح الباب أمام جيل جديد من المبتهلين للحفاظ على هذا التراث العظيم وتجديده بما يتناسب مع روح العصر