في كل زاوية من زوايا الأرض، قامت صروح شاهقة تنطق بالجلال، وتعكس نور الإيمان، وتُردد أصداء التكبير والتهليل، إنها المساجد والجوامع، بيوت الله التي جمعت القلوب، ووحدت الصفوف، واحتضنت أرواحًا وجدت فيها السكينة والطمأنينة.
وفي شهر رمضان المبارك، حيث تصفو الأرواح وتسمو النفوس، نأخذكم في رحلة روحانية عبر الزمان والمكان، لنطوف بكم حول أجمل وأعظم الجوامع والمساجد في العالم، من قلب الحرمين الشريفين، إلى مآذن الأندلس الشامخة، ومن سحر مساجد إسطنبول العتيقة إلى عبق التاريخ في مساجد المغرب العربي، سنعيش معًا حكاياتٍ من الجمال المعماري، والتاريخ العريق، والمواقف الإيمانية الخالدة.
وعبر بوابة «دار الهلال» خلال أيام شهر رمضان الكريم، لعام 1664 هجريًا / مارس 2025 ميلادي، نستعرض معكم أحد أشهر المساجد، والجوامع التاريخية في دول العالم الإسلامي، والدول العربية، حيث يجتمع الفن والهندسة والإيمان في لوحات تأسر القلوب، وتروي قصصًا من العظمة والروحانية، في ليالي رمضان المباركة.
وفي اليوم الخامس عشر من شهر رمضان المبارك 1446هـ/ 15 مارس 2025 نذهب في رحلة وجولة مع «جامع الزيتونة»
يقع «جامع الزيتونة»، أو جامع الزيتونة المعمور، أو الجامع الأعظم -كما يُطلق البعض عليه- في مدينة تونس القديمة والعتيقة، الواقعة في مدينة تونس عاصمة دولة تونس العربيّة، في شمال القارة الإفريقية.
ويعد الجامع، أكبر المساجد وأقدمها في تونس، ويرجع للسنة على المذهب المالكي، وهو ثاني جامع بني في إفريقية، وثاني أكبر جامع في تونس بعد جامع عقبة بن نافع.
يُعتبر هذا الجامع واحدًا ومن أهمّ الجوامع على بالعالمين العربي والإسلامي، كونه يُعتبر منارة علم، وهدىً لكافة الناس على وجه العموم، وللمسلمين على وجه الخصوص.
تأسيس «جامع الزيتونة»
يرجع تأسيس جامع الزيتونة في تونس إلى أواخر القرن الأول الهجري، الموافق لأواخر القرن السابع الميلادي، أثناء فتوحات شمال أفريقيا، وتحديدًا منطقة تونس؛ فقد كانت من عادة المسلمين إذا ما فتحوا منطقةً ما أن يبنوا فيها مسجدا، وأمر حسان بن النعمان إقامة جامع الزيتونة، وانتهت فيه الأشغال في 698 م، أثناء الفتح الإسلامي لتونس ثم قام بتوسيعه قليلا في 704 م.
وأتم بناء «جامع الزيتونة»، والي أفريقية الأموي عبيد الله بن الحبحاب في 732م، ويعتبر ثاني أقدم مسجد في تونس بعد جامع عقبة بن نافع.
وعدة بحوث أثبت أن الجامع بني على أنقاض كاتدرائية مسيحية، وهو ما يؤكد رواية ابن أبي دينار في وجود قبر القديسة سانت أوليفيا باليرمو (أو قديسة الزيتون)، شهّدها الإمبراطور هادريان في 138، وذلك في مكان الجامع.
وذكر الرحالة والمؤرخ ابن بطوطة جامع الزيتونة في رحلته المنشورة في كتاب: «رحلة ابن بطوطة: تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار»، وذلك في معرض حديثه عن أحد علماء الدين، وهو أبو علي عمر الهواري، إذ قال عنه: «ومن عوائده أنه يَسْتَنِدُ كلَّ يوم جمعة بعد صلاتها إلى بعض أساطين الجامع الأعظم المعروف بجامع الزيتونة، و يستفتيه الناس في المسائل، فلما أفتى في أربعين مسألة انصرف عن مجلسه ذلك».
الترميمات لـ «جامع الزيتونة»
شهد «جامع الزيتونة»، منذ إنشائه، عمليات ترميم وتبديل عبر مختلف السلالات الحاكمة التي مرت على تونس.
قام الأمير الزيري المنصور بن بلكين بن زيري، في 990 م، بإنشاء قبة البهو، فوق مدخل قاعة الصلاة التي تفتح على فناء المسجد الداخلي، وزود السلطان الحفصي أبو عبد الله محمد المستنصر المسجد بخزانات مائية ضخمة في 1250 م، وفي 1316 م، شهد المسجد عدة عمليات أشغال هامة، السلطان أبو يحيى أبو بكر المتوكل قام بتغيير الركائز ووضع زخارف أبواب المسجد وغرفه، وأسست مكتبة من الطراز التركي قام بتمويلها السلطان العثماني مراد الثاني في 1450م.
وقام أحد أئمة المسجد المجاور لجامع الزيتونة، بعد الغزو الإسباني، بتزيين منطقة المحراب وأنشأ الرواق الشرقي في 1637م، وقام طاهر بن صابر وسليمان النيقرو، بإضافة منارة من طراز المرابطين والموحدين، للمعماريين للمسجد في 1894، في مكان المنارة التي تم بناؤها تحت حكم الباي حمودة باشا المرادي في 1652م، وتم تمويلها من أموال الحبوس وكلفت 000 110 فرنك تونسي.
وتم النداء للصلاة والأذان من أعلى المنارة لأول مرة في 26 رمضان 1312 بحضور علي باي الثالث.
وبعد الاستقلال، لتونس، في 20 مارس 1956، قام الرئيسين السابقين الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي، بعمليات ترميم هامة للجامع، وفي الفترة الممتدة بين في 1970م والثورة التونسية في 2011م، شهد الجامع تهميشًا كبيرا متعمدا من قبل السلطات في حكم الحبيب بورقيبة، وغاب دوره تماما تحت حكم زين العابدين بن علي، حتى هروبه إثر الثورة التونسية، وأغلق في بعض الأحيان، وجاءت هذه الأفعال مصاحبة لسياسة معاداة الإسلام السياسي في تونس قبل الثورة التونسية في 2011م.
الهندسة والزخرفة لـ «جامع الزيتونة»
ويقع الجامع على مساحة 5000 متر مربع، ولديه تسعة أبواب، وقاعته الداخلية تتكون من 184 عمود، آتية أساسا من الموقع الأثري بقرطاج، وشغل المنصب لمدة طويلة كموقع دفاع لوجهته على البحر وذلك عبر صومعته، وتقود الجامع هيئة تسمى مشيخة الجامع الأعظم.
«جامع الزيتونة»، يشبه جامع قرطبة وجامع عقبة بن نافع في القيروان، مع فنائه الخماسي، المحاط برواق من القرن العاشر، ويرتكز الرواق الذي يدير صحن الجامع على أعمدة ذات تيجان، وترتكز الأروقة الثلاثة الأخرى على أعمدة من الرخام الأبيض المستورد من إيطاليا في منتصف القرن التاسع عشر، وتوجد في منتصف الفناء أو الصحن مزولة شمسية، تساعد على تحديد أوقات الصلاة.
وقبة الصحن الموجودة في مدخل قاعة الصلاة، يتكون من زخارف من حجر المغرة والطابوق الأحمر، وترجع المحارب الموجودة في المسجد للطراز الفاطمي، وتغطي قاعة الصلاة المعمدة ذات الشكل المربع (56 متر على 24 متر)، مساحة 344 1 متر مربع، بينما حوالي 160 عمود يحددوا حدود 15 فناء و6 أروقة.
ويتقاطع الصحن (الفناء) الأوسط والرواق ورواقه أعرض من البقية بقليل (4.80 متر مقابل 3) أمام المحراب الذي تسبقه قبة مكتوب عليها اسم الخليفة العباسي المستعين بالله.
ويبلغ المنارة المربعة في الزاوية الشمالية الغربية للفناء، طولها 43 متر، وهي تشبه زخرفة المنارة الموحدية في جامع القصبة، وهي مصنوعة من الحجر الجيري على خلفية الحجر الرملي، الواجهة الشرقية، تم إتمامها بفناء مزخرف بأعمدة من الطراز الحفصي.
جامع الزيتونة