النكتة تواجه الجهامة
لا أظن أننا نبالغ بالقول إن "الأعياد" اختراع مصرى، كان المصرى القديم يحتفل سنوياً بفيضان النيل، أطلق عليه "وفاء النيل"، ويحتفل كذلك بالحصاد، فضلا عن الاحتفالات الدائمة، احتفال بالمولود والسبوع، أى مرور أسبوع على ميلاد الطفل، ثم احتفال بالختان، حتى الوفاة، كانت لها طقوس احتفالية عديدة، احتفال بعد مرور ثلاثة أيام على الوفاة، ثم مرور أربعين يوما على الوفاة، وكل احتفال له طقوس تتراوح ما بين البهجة والسعادة أو هدوء روحانى، طقوس الاحتفال بالوفاة كانت تعكس الراحة النفسية وإدراك أن الحياة لها نهاية ويجب أن نستوعب ذلك ونتأثر به.
ولهذا لا يجب أن نندهش من أن المصريين احتفلوا مبكراً بمقدم شهر الصيام، فانوس رمضان ظهر هنا أولاً، وسائر الاحتفالات الأخرى المصاحبة لشهر رمضان من المسحراتى إلى فن الابتهال الدينى وغير ذلك كثير، معظمنا يربط تلك الاحتفالات بالدولة الفاطمية، وقد يكون ذلك صحيح تاريخيا، لكن الأصل هو في الروح المصرية التى تبحث في أى أمر من جانبه المبهج، هناك من لا يريد أن يرى في شهر رمضان سوى الجوع والعطش، لكن المصرى قرر أن يرى فيه أموراً أخرى تهون كثيرا من الجوع والعطش، بل تجعلها أمرًا عاديًا جدًا، إن لم نقل عجيبا.
لم يتوقف الأمر على الشهر الفضيل فقط، ابتكر المصريون الاحتفال بذكرى المولد النبوى الشريف وليلة النصف من شعبان وذكرى الإسراء والمعراج، وبداية العام الهجرى وغير ذلك كثير، وكل احتفال يرتبط به نشاط اقتصادى واجتماعى يجعل استمراره ضرورة، ولهذا فإن بعض الأراء الأصولية التى تندد بتلك المظاهر، استناداً على أن رسول الله صل الله عليه وسلم والمسلمون الأوائل لم يحتفلوا بهذه المناسبات، المولد النبوى الشريف مثلا، وكلامهم صحيح تاريخيا، ولكن التطور الاجتماعى والتفاعلى الإنسانى مع كل مناسبة لا يمكن لأحد أن يمنعه؛ خاصة إذا صاحبه نشاط اقتصادى (مهما)؛ مثلا صناعة الفوانيس في مصر، باتت صناعة ضخمة، يرتبط بها آلاف من الحرفيين في الورش والمصانع، فضلا عن الموزعين من صغار التجار، هذا النشاط الضخم صعب إيقافه، وهكذا الحال في سائر الاحتفالات، قام عدد من العلماء والفقهاء بالرد فى كتب منشورة على دعاوى عدم الاحتفال.
حين جاء وباء "كوفيد 19" وكان ممنوعا لأسباب طبية حدوث تجمعات بشرية، وحل شهر رمضان، ابتكر المصريون فكرة أن أسر العمارة الواحدة يلتقون فى إفطار جماعى فوق سطح العمارة، بعيدا عن الشارع والعيون المترصدة، كان اللقاء على هذا النحو ينطوى على مخاطر عدة، أهمها احتمال الإصابة بالكوفيد، فضلا عن احتمال التعرض لمساءلة قانونية بهذه الخطوة، مع ذلك غامروا وفعلوها... لماذا؟، لأن طابع البهجة والاجتماع تغلب على كل المحاذير والمخاوف، حتى لو كانت مخاوف جادة وحقيقية.
الطابع الاحتفالى يشمل كل جوانب الحياة، ليس فقط الجوانب الدينية، بل سائر جوانب الحياة وأنشطتها الإنتاجية والسياسية والوطنية، هذا الطابع هو ما يجعل المصريون يتحملون مصاعب الحياة، وما يكتنفها من كوارث أحيانا، في زمن فات كان النيل لا يفيض وتتعرض البلاد للجفاف وقلة الأرزاق، وكان ذلك يرافق بعض الأوبئة والأمراض الفتاكة، ولم يكن ممكنا مواجهة ذلك والتعامل معه، دون أن يكون هناك شق مبهج في الحياة، هذا الشق صنعه المصريون أنفسهم، لذا اخترعوا الأعياد والاحتفالات المبهجة.
على أن الجانب في التعامل بتفاؤل وبهجة مع الحياة يتمثل في النكتة، وللنكتة المصرية المصرية مذاق خاص، في كثير من البلدان المجاورة يتساءلون عن "آخر نكتة" في مصر.
النكتة هى تلخيص وتعقيب شديد لموقف ما أو أزمة بعينها، وتكون تعبيرا يبعث على الضحك أو النكتة، حتى لو تعلق الأمر بأزمة أو كارثة.
وقد يتصور البعض أن النكتة تتناول الجوانب الفكاهية والمضحكة في الحياة، أو أنها تتعلق بقضايا فردية أو بعض الظواهر الاجتماعية دون غيرها، النكتة يمكن أن تمتد إلى كل جانب بدءا من السياسى وصولا إلى أبسط المواقف، وترصد كذلك الجوانب الفكاهية، وأيضا الجوانب المأساوية، المهم أن نتناولها بطريقة تبعث على الضحك أو ما يثير البهجة ويخفف من الحزن ويجعله مقبولا،٠ لذا يقل المثل الشعبى "هم يضحك وهم يبكى" أي أن الجانبين حاضرين معاً الحياة ويبقى الموازنة بينهما.
وفى بعض المواقف لا نجد خيرا من النكتة وسيلة تعبير صادقة، مثلا بعد هزيمة يونيه 1967، وسط الهم الثقيل من الهزيمة ازداد معدل النكات السياسية، حتى أن الرئيس عبدالناصر ناشد المواطنين مرة أن لا يحولوا كل شىء إلى نكتة، ذلك أن بعض النكات كانت تنطوى على نقد موجع لبعض قيادات ورموز الدولة.
وهكذا كانت النكتة بديلا عن الحزب المعارض وعن صحافة المعارضة، المهم فى هذا أن النكتة بنصها ومعناها وصلت إلى أعلى مستوى بالدولة، ليست منشورا أسريا، وتقال بلا ضجيج سياسى، ولا تشنج في الشارع، بل بروح باسمة وكلمات فكهة لا تشنج فيها ولا مزايدات.
وتردد أن حكومة السيد زكريا محيى الدين -منتصف الستينيات- أطاحت بها نكتة، فقد كانت أزمة في أرز الطعام، وامتدت الطوابير أمام المجمعات الاستهلاكية للحصول على الأرز وانتشرت نكتة أن مواطنا وقف في طابور بطنطا ينتظر دوره للحصول على الأرز من مجمع في شبرا الخيمة، كانت النكتة معبرة عن عمق الأزمة.
المصاعب التى عاشها المصريون من الاحتلال الرومانى إلى الاحتلال البريطانى وغير ذلك ما كان ممكنا احتماله إلا بهذه الطريقة، مجتمعات كثيرة ذابت وتلاشت أمام بعض الأزمات والمصاعب، لكن المجتمع المصرى بقى صامدا، قويا يقاوم ويصارع بفضل تلك الوسائل التى امتلكها من أهمها النكتة واستقبال الحياة برضا وفرحة.
لقد عايشنا جميعا كارثة العبارة "سالم إكسربيس" في البحر الأحمر، شهر ديسمبر سنة 1991، وكان على متنها قرابة (470) مواطنا، كانت الكارثة كبرى، بكل المقاييس، أحدث حولها لغط سياسى واجتماعى كبير، روائح الفساد كانت شديدة فى العملية وقتها انطلقت نكات عديدة حول غرق العبارة، من يراجع تلك النكات ويحللها يجد أنها قدمت كل الآراء ووجهات النظر بصراحة شديدة.
وهذا ما جعل الصحف المصرية منذ ظهورها فى القرن التاسع عشر تحتفى بالرسوم الكاريكاتيرية وتزود لها مساحات ثابتة، بل إن بعض المطبوعات كانت تعتمد على تلك الرسوم بدلا عن الصورة الفوتوغرافية، ولم تكمن رصانة المطبوعة جريدة أو مجلة تحول دون الاعتماد على الكاريكاتير حتى أن بعض الكتاب الكبار حققوا قدرا من النجومية والانتشار بسبب خفة الشغل فى الكتابة والأساليب الفكهة فى الكتابة والسرد، إبراهيم عبدالقادر والمازنى نموذجا وفى الصحافة فكرى أباظة، شيخ الصحفيين ونقيبهم فى زمان.
ولا يستريح المصريون إلى أولئك الذين يتجهمون ويبتعدون عن الفرح، ويطلق على مثل هؤلاء "النكدى" وفى التراث الشعبى الكثير من التنديد بذلك الشخص الذى يتجهم ولا يبتسم أبدا، فيقال عنه "ما ببضحكش حتى للعيش السخن"، والمعنى أن رغيف الخبز يكون ساخنا لحظة خروجه من الفرن ويكون فاتحا للشهية، مثيرا للارتياح وقدر من البهجة، وإذا كان الإنسان لا يبتهج في هذه الحالة، فهو "نكدى" أو "كشرى" بكسر الكاف، أى "دائم التكشير"، ومثل هذا الشخص يعد مثار شؤم ونكد، والأفضل تجنبه قدر الإمكان، أما إذا كانت المرأة "نكدية"، فيقال عنها الكثير والكثير، الرجل النكدى يقال إنه "فقرى" أو "وش نحس"، أما المرأة فتراها ثقافتنا أنها غير قادرة على إعمار البيت.
وتحذر الثقافة المصرية من دوام الحزن وكثرته، "كتر النوح يعلم البكا" أى أن الحزن يثير المزيد من الحزن ويصير بكاءا دائما.
ويقال في الثقافة الشعبية "ساعة لقلبك وساعة لربك"، أى أن الحياة تجمع بين الجدية من جانب والفكاهة أو المرح من جانب آخر، مع الجدية تتحقق معانى الحياة ومع الفكاهة نرى جمالها وبهجتها.
تخوف المصريين من النكد وتحذيرهم من الشخص الكشر أو النكدى جاء بعفوية إنسانية وبناء على خبرات الحياة، غير أن تقدم الدراسات الحديثة في مجال بناء وتكوين الشخصية، أثبت أن ذلك الإنسان العاجز عن الفرح والممتلئ نكدا، قد يكون شخصية سيكوباتية، تتعايش وتتلذذ بايذاء الآخرين وإثارة الألم لديهم، وقد يكون شخصا ذا نزوع إجرامى في بعض الحالات، وهنا نعود إلى الحديث النبوى الشريف "تبسمك في وجه أخيك صدقة".
بعض الناس يتصورون أن الجدية ترتبط حتما بالجهامة والنكد أو حتى الكآبة، والحق أن الجهامة ومرادفاتها قد تكون مؤشرا على عدم سوية نفسية وليست شرطا لازما للجدية، الفارق كبير بينهما، كثيرون يتصورون أن الجهامة، خاصة فى مجال الإدارة قد تكون مؤشرا على الحزم والانضباط والجدية، لكن الدراسات الحديثة أثبتت أنها كلها مؤشرات عجز وافتقاد القدرة على النجاح.
أحد الفلاسفة الإنجليز، له رأى مفاده أن "مدنية المجتمع" تقاس بمدى قدرة ذلك المجتمع وأفراده، على إنتاج الفكاهة أو لا ثم تقبلها واستيعابها على المستوى العام، اسبرطة القديمة كانت متفوقة عسكريا لكنها لم تنتج ولا واستوعبت الفكاهة لذا احتفت من التاريخ سريعا، كانت مجرد مرحلة عابرة.
ومن يراجع تاريخ المصريين وسيرة المصرى عبر التاريخ، يجد أن مقولة الفيلسوف الإنجليزى تنطبق عليه، فقد عثر في بعض النقوش على المعابد المصرية ما يشير إلى بعض النكات والروح الفكاهية.