كل من اطلع على الحفر الغائرة والمنحوتات البارزة بالجدران والأعمدة الفرعونية القديمة، وحتى جدران مقابرهم.. يلحظ قارورة طعام ما وأخرى لشراب ما، ضمن القوارير المدفونة إلى جوار المومياء.
لقد ارتبط الطعام بحياة وممات المصرى القديم، والمعاصر الفقير منه والثري، ولكل منهم طقوسه وشغفه بالطعام كما ونوعا، كل حسب ما يملك.. وهو ما انعكس فنيا فى العديد من السرديات الروائية، تلك التى تتناول الطعام عفوا أو عمدا.
تتعدد الروافد الإبداعية التى تتناول الطعام فى تراثنا العربى، فلا تخلو نوادر جحا من كم غير قليل منها، وكثيرا ما نعثر عليها فى حكايات ألف ليلة وليلة.. كما أن هناك المقامات والنوادر والأخبار التى ضمتها كتب التراث. لقد نجح نجيب محفوظ فى صنع عالم متخيّلً فى بعض رواياته، يتفاعل مع العالم الواقعيّ، والطعام هو أحد معالم هذا العالم الواقعى.
ربما علاقة الطعام وبنات السيد أحمد عبدالجواد أفضل الأمثلة على ذلك.. ففى الثلاثية أبرز محفوظ طقوس ﺇعداد الطعام وكيف أنه متغير من موسم لموسم بل ربما من يوم ليوم، وكيف أن الطعام يلعب دوره فى رسم الشخصيات؛ النهم والرومانسى والعقلانى وغيرهم، ولكل منهم شكل ما فى تناوله لوجبة الطعام بل ونوعية الأطعمة التى يحبها.
عندما كتب الروائى يوسف إدريس روايته "الحرام"، كان الطعام الذى هو قوام حياة البشر، كان البداية التى انطلق منها ليسرد حياة فئة مقهورة فى السلم الاجتماعى، فئة عمال التراحيل أو الموسميين، وذلك من خلال رصد مجموعة منهم يعملون فى جمع دودة القطن فى أحد حقول الثري الكبير.
فقد بان لمأمور الزراعية من فوق حماره، من خلفه فلاحون يهرولون وجميعهم يعسعسون بين كومة عمال الترحيلة المكلفين بتنقية دودة القطن، لعلهم يعثرون على تلك الجانية التى تركت وليدها يهلك منذ فترة قصيرة، حتما سوف تظهر علامات الإعياء على ﺇحداهن.. مرت أيام والشك يملأ العقول حتى مر فكرى أفندى وسط القطن ليجد (ضليلة) من البوص تحتها سيدة أربعينية لكنها هزيلة لا تتحرك حتى أنه وكزها بقدمه فلم تحرك ساكنا.. علم فكرى أفندى حيث عرفه ريس الأنفار أنها أم الوليدالميت.
نعم إنها عزيزة التى حكت قصتها وهى تتوجع.. هى فعلا من تعول بنتين وولدا مع زوج مريض بالكبد ولا يقدر على العمل.. وكاد أولادها يموتون جوعا. طلب منها زوجها أن تأتى له بالبطاطا التى اشتهتها نفسه. ذهبت عزيزة تحفر فى أرض الحاج الكبير.. بحثا عن طلب زوجها فلا يمكن أن ترد له طلبا.. أتى ابن المالك وحفر لها فأخرج بعض حبات البطاطا.. ولكنها وقعت فى الحفرة فوقع عليها فكان ما كان.. فلما كشف أمرها وزاد ألمها، تحاملت على نفسها.. وصلت إلى مكان ولادتها.. ثم وقعت على كومة القش.
وكررت نفس عباراتها جدر البطاطا هو السبب يا ضنايا.. ثم أمسكت بقطعة الخشب التى وضعتها فى فمها أثناء الولادة وضغطت عليها بقوة حتى ماتت. .. جاء الطعام فى مجمل الروايات إما على شكل مشاهد متفرّقة في العمل الروائي، أو على اعتبار كونه الحدث الأساسى للرواية.. كما فى رواية الحرام. وقد جاء صريحا أيضا، هذا النوع من الطعام الروائي، المرتبط بالسلوك الاجتماعى للمصريين، من خلال المناسبات المختلفة في روايات جديدة، هي: "كحل وحبهان" لعمر طاهر، و"برتقال مرّ" لبسمة الخطيب، و"خبز على طاولة الخال ميلاد" لمحمد النعاس.
ولا يخلو البحث فى موضوع علاقة الرواية بالطعام من تلك الملامح التى يمكن وصفها بالمصطلح النقدى "النوستالجيا" أو التشوق والتعلق بالماضى، والماضى عند تلك الشخصية هو العلاقات الإنسانية الشيقة مع الآخر. كما قد ينشر الطعام قضايا فكرية ذات بعد اجتماعي مثل الكرم والبخل، والهوّة بين الأغنياء والفقراء، وقضايا ذات بعد أخلاقي مثل قضية البيئة والمجاعات، وقضايا ذات بعد تعليمي .. وغيرها.