للأعياد في شريعة الإسلام مكانة خاصة، لا يُقدِّرُها حق قدرها إلا من التزم منهج الله تعالى، وآثر الجد، وبذل الجهد، طاعة لله سبحانه وتعالى، سواء في وقت الشدة وفي حال الرخاء، إيثارا لما عند الله، وهو الخير كل الخير. وكأن بهذه الأعياد مكافآت من قبل الله تعالى على هيئة وقفات في واحات مباركات؛ للاسترواح فى طريق الحياة الشاقة الطويلة، لالتقاط الأنفاس، وتعبئة النفوس من جديد، واستجماع القوى لمواصلة المسير فى دروب الحياة الصعبة، ومسالكها الوعرة؛ إذ إن لكل يوم من أيام الإنسان أعباءه وتبعاته، وصدق الله تعالى القائل فى كتابه العزيز: «لقد خلقنا الإنسان في كبد». البلد:4.
وأعيادنا مرتبطة بعقيدتنا، فطبيعة الفرح والسرور بالعيد هنا تنشأ من إحساس المسلم بالسعادة نتيجة لتوفيقه ونجاحه في طاعته لله تعالى. فعيد الفطر ـ مثلا ـ يأتي بعد تأدية فريضة الصوم، وعيد الأضحى يأتى عقب تأدية المسلم للركن الأعظم من أركان الحج وهو الوقوف بعرفة. وكلتا العبادتين تستلزمان بذل الجهد، وشحذ الطاقات؛ ولهذا يأتي العيدان: عيد الفطر وعيد الأضحي وكأنهما بمثابة الجائزة المستحقة لمن نجح في القيام بما افترضه الله تعالى عليه من هاتين العبادتين العظيمتين: الصيام والحج. وفي كلتا المناسبتين من الفرائض والسنن، ما يهيئ جو الفرحة، ويفشى عبق السرور في ديار المسلمين.
وعلى سبيل المثال، فالصيام من جانبه "السلبي" ليس الامتناع فقط عن الطعام والشراب ولكنه الامتناع عن الشحناء والبغضاء، واجتناب قول الزور والعمل به أو إيذاء الغير بأي لون من ألوان الإيذاء: صَغُرَ أم كَبُر؛ ومن جانبه "الإيجابي" يتمثل في التراحم والتسامح والكرم وصلة الرحم، والعمل بكل مقتضيات البر والتقوي. ولعلَّ كل هذا من شأنه أن يشيع جوا من الود والترابط والتضامن المجتمعي؛ مما يبعث على البهجة والفرحة والسرور. وهكذا، فالفرح الحقيقي والسعادة الفعلية إنما يتأتيان ويتحققان بالاستجابة لنداء الحق، وطاعته والسير على نهجه القويم وصراطه المستقيم، وربما لكل هذا وُصِفَ يوم العيد بيوم "الجائزة".
العيد في اللغة
لم نطلع في هذا السياق على أفضل مما قدمه لنا عملاق الفكر والأدب العربي الأستاذ عباس العقاد ـ رحمه الله ـ حينما تكلم عن معنى العيد في اللغة العربية مقارنا بمعناه في اللغات الأجنبية وأهمها اللغة الإنجليزية.
يقول العقاد: التوقيت بالأشهر القمرية في حساب العيدين الإسلاميين قد كان له أثره في تنزيه هذين العيدين عن كل صلة بالعقائد الجاهلية التي سبقت دعوة الإسلام، فلا ارتباط لهما اليوم بمواقيت عبادة الطبيعة أو عبادة الكواكب، وليس لهما قوام من الذكريات المادية أو المعاني النفعية، فقد يعود الصيام في أشهر الصيف كما يعود في أشهر الشتاء، وقد يجب الحج مع أوان المرعى والسقاية كما يجب مع كل أوانٍ، وهو عدل في توزيع أيام الفرائض يناسب العدل في تكاليف الدين وأعباء الواجبات، ويناسب العدل في أحوال الأمم التي تؤدي تلك الفرائض، وتنهض بتلك الأعباء، ومنها أمم الرعاية والزراعة، وأمم التجارة والصناعة، وأمم تقيم في كل مناخ وكل إقليم. ومن ثم خلص العيد الإسلامي لمعناه من الإيمان المحض بعبادة التنزيه والتوحيد (العقاد: أشتات مجتمعات في اللغة والأدب. طبعة مؤسسة هنداوي، ص70).
وثمة مزية أخرى لهذه اللغة في كلمة العيد بلفظها ومعناها، فإن تسمية العيد بهذا الاسم تدل عليه بأخص معانيه، وهي الإعادة والتعييد، وليس لهذه الخاصة مدلول مفيد من أسماء العيد بأكثر اللغات.
فبعض أسمائه باللغات الأوروبية تدل على معنى الوليمة ووفرة الطعام، وبعض أسمائه تدل على اليوم الديني أو يوم البطالة. وليست هذه من خواص العيد التي ينفرد بها بين سائر الأيام.
وبعض أسمائه الحديثة تقابل كلمة "السنوية" أو "المئوية"، وتصدق على احتفال بعينه يجوز أن يكون يومًا واحدًا لا يعاد إليه، ويجوز أن يكون من غير الأعياد؛ لأنه من ذكرى الكوارث أو ذكرى الحداد. أما كلمة العيد بصيغتها هذه في اللغة العربية؛ فهي أدل من تلك الأسماء جميعًا على خاصته ومعناه.
ثم يعلل الأستاذ العقاد ثراء لغتنا وسعتها ومرونتها ومزاياها على غيرها من اللغات بقوله: ويعود هذا الاستعداد لتخصيص الألفاظ بمعانيها إلى سعة الاشتقاق في اللغة العربية على قواعده التي تؤدي كل قاعدة معناها المستفاد من وزنها، فإن الاشتقاق على حسب هذه القواعد يستمد من الفعل عمل الاسم وعمل الصفة، وموضع استخدام كل منهما، فيأتي الاسم معبرًا عن واقع فعله وعن المقصود بوصفه، وتصلح المادة الواحدة أساسًا لأسرة كاملة من المعاني المتفرعة عليها.
وكلمة العيد مصدر من مصادر كثيرة يدل على صفة العودة أو على هيئتها، ومن فعل (عاد) تؤخذ العودة للمرة من العود، وتؤخذ العادة للفعل أو الخلق الذي يكثر الرجوع إليه، ويؤخذ المعاد لمكان البعث أو زمانه، وتؤخذ العيادة للزيارة المتكررة، وتؤخذ العائدة لما يعود على الإنسان من نتائج عمله على معنى قريب من معنى التبعة أو الجزاء. وتستعار العوائد لما يعطى أو يؤخذ مع التكرار والتوقيت؛ لأن الإعطاء والأخذ معنى واحد من جانبين، فما يأخذه هذا هو عطاء من ذاك.
ويزيدنا العقاد إيضاحا بقوله: ويأتي عمل المضاعف والمزيد فيوسع دلالة المادة اللفظية، أو يسري منها إلى معانٍ تناسبها، وقد تخالفها في بعض عوارضها. وهنا مجال واسع لمعاني الإعادة والاستعادة والتعويد والتعييد، ومجال واسع للتفرقة بين المعيد والمستعيد، وبين العود والمعاودة، والمعاد والمستعاد، ولا لبس في موضع لفظ من هذه الألفاظ؛ لأن وزنه دليل على موضعه من التعبير. والاشتقاق موجود في لغات كثيرة، وهو بعض الخواص الملازمة للغات السامية، ولكنه لا يوجد بهذا التوسع على هذه القواعد المفصلة كما يوجد في اللغة العربية (المصدر السابق، ص 71).
العيد في الأدب
تعددت الأقوال وتنوعت في معنى العيد من الناحية الأدبية، ونختار منها ما يعبر عنه إمام البيان في لغتنا العربية المعاصرة، الأستاذ مصطفى صادق الرافعي في بيان واضح يجتلي لنا فيه معنى العيد، حيث يقول: جاء يوم العيد؛ يوم الخروج من الزمن إلى زمن وحده لا يستمر أكثر من يوم. زمن قصير ظريف ضاحك، تفرضه الأديان على الناس ليكون لهم بين الحين والحين يوم طبيعي في هذه الحياة التي انتقلت عن طبيعتها. يوم السلام والبشر والضحك والوفاء والإخاء، وقول الإنسان للإنسان: وأنتم بخير. يوم الثياب الجديدة على الكل إشعارا لهم بأن الوجه الإنساني جديد في هذا اليوم. يوم الزينة التي لا يراد منها إلا إظهار أثرها على النفس ليكون الناس جميعا في يوم حب.
يوم العيد، يوم تقديم الحلوى إلى كل فم لتحلو الكلمات فيه.. يوم تعمُّ فيه ألفاظ الدعاء والتهنئة مرتفعة بقوة إلهية فوق منازعات الحياة. ذلك اليوم الذي ينظر فيه الإنسان إلى نفسه نظرة تلمح السعادة، وإلى أهله نظرة تبصر الإعزاز، وإلى داره نظرة تدرك الجمال، وإلى الناس نظرة ترى الصداقة. ومن كل هذه النظرات تستوي له النظرة الجميلة إلى الحياة والعالم؛ فتبتهج نفسه بالعالم والحياة. وما أسماها نظرة تكشف للإنسان أن الكل جماله في الكل (مصطفى صادق الرافعي: وحي القلم. الجزء الأول. ص 29).
وهكذا، تلتقي معاني العيد وتتفق، سواء في الدين أو في اللغة أو في الأدب على أنه يوم فرح خاص، مهما تواتر قدومه عاما بعد عام؛ لتلتقي فيه النفوس الطائعة لله تعالى على معنى واحد وهو السلام النفسي والالتقاء الاجتماعي على المودة والمحبة والإخاء.