رغم أن إعادة تحويل مسار العقول التي أصابها التطرف والإرهاب إلى طبيعتها المتحضرة، قضية أكبر كثيرا من أن تقوم بها وزارة أو مؤسسة منفردة دون غيرها من مؤسسات دولة بحجم مصر إلا أن وزارة الثقافة وزارة محورية في تحقيق الجزء الأكبر والأهم في أي استراتيجية تتبناها الدولة لتحقيق نجاحات كبيرة ومهمة في تلك القضية، ولعل ذلك راجع بالدرجة الأولى إلى مكامن القوة التي تمتلكها وزارة الثقافة والتي يمكن أن تستخدمها في حالة تملكها للإرادة والإدارة والقدرة، عند ذلك تستطيع التخطيط والحشد والتنفيذ لكل الجهود التي تمثل علاجا ناجعا لظاهرتي التطرف والإرهاب.
والتطرف والإرهاب ليس فقط ما استقر في الأذهان خلال العقود الماضية من ارتباط بالتطرف والإرهاب باستخدام الدين؛ بل إنه كل ما يمكن أن يكون خطرا على العقل المصري ومستقبله، قد يصنف في مصاف التطرف والإرهاب، لذا فإن وزارة الثقافة كجهة قادرة على استخدام القوة الناعمة لإحداث تغيير في أي خلل أصاب تفكير أي من أبناء الوطن العزيز، يجعلها تستحقها كل رعاية واهتمام ومساندة ودعم ليس فقط من الحكومة المصرية بل من جميع القوى المؤثرة ماديا ومعنويا حتى تستطيع أن تؤدي المهام المنوطة بها
مصر التي يعيش أغلب أبنائها في القرى والمناطق المهمشة تم استهدافها لتغيير توجهاتها والتخلي عن وسطيتها واعتدالها فلم يعرف عنها طوال تاريخها أن أهلها تطرفوا أو خرجوا عن الاعتدال والوسطية حتى عندما كانت تأخذ حقها من الغاصب أو المحتل.
ووزارة الثقافة بالمهام التي أسندت إليها طوال تاريخها أصبحت في حاجة ماسة إلى إعادة ترتيب أوراقها ومراجعة وتعزيز استراتيجيتها في الاهتمام بتعزيز الاعتدال كركن أساسي في بناء عقل الإنسان المصري للمحافظة على روحه قوية غير مهزومة وغير قابلة لاختراق من أفكار هدامة تحول جر مصر خارج مربع الوسطية والتحضر.
لنكن أكثر صراحة مازالت وزارة الثقافة في تلك المرحلة المهمة من عمر الوطن غير قادرة على أداء مهمتها المقدسة على الوجه الأكمل؛ ومازالت بعيدة عن الكثير من فئات الشعب ومناطقه الجغرافية من شمالها لجنوبها ومن شرقها لغربها؛ فمازال العمل داخل الوزارة يسير في كثير من جوانبه بنفس آليات وأفكار ستينيات القرن العشرين ومازالت تعمل بنفس أسماء قطاعات وهيئات عملت في القرن العشرين ومازالت برامج العمل وأدواته داخل جميع قطاعاتها وهيئاتها هي نفسها التي عملت بها في القرن العشرين وهي هي نفس الأدوات والبرامج التي ظهر لنا جميعا أن التطرف والإرهاب تفوق عليها واختطف عقول بعض أبناء الوطن وسبب لنا جميعا أذى كبيرا، ولنعترف أكثر أن الثقافة لم تنجح في معركة التطرف والإرهاب مثلما نجحت المؤسسات الأمنية في معركتها معه، ولنعترف أكثر وأكثر بأن وزارة الثقافة ليس لديها استراتيجية واضحة لنشر ثقافة الاعتدال ومحاربة التطرف والإرهاب.
إذا أردنا أن ننجح في معركتنا مع الإرهاب والتطرف؛ فعلى وزارة الثقافة أن تعيد إصلاح نفسها وترتيب أولوياتها للاشتباك مع قضايا الحاضر والمستقبل ونشر الاعتدال ومحاربة التطرف والإرهاب من خلال رؤية متكاملة قابلة للتطبيق؛ وفاعلة في المجتمع المصري وجاذبة للعقول قبل القلوب، ولعل من أهم المحاور التي يمكن أن تعمل من خلالها وزارة الثقافة
أولا: وضع خطة استراتيجية تفصيلية– كجزء من استراتيجية مصر - لنشر الاعتدال ومحاربة التطرف والإرهاب بكل الوسائل والمواد بمشاركة كل الجهات التي تختص بالعقل المصري؛ كالمجلس القومي لمكافحة الإرهاب والتطرف ووزارات التعليم والتعليم العالي والبحث العلمي والشباب والرياضة والأوقاف والكنيسة والأزهر والمجلس الأعلى للإعلام والهيئة الوطنية للإعلام والهيئة الوطنية للصحافة وغيرها من الجهات والهيئات التي مهام عملها تتقاطع مع تلك الاستراتيجية ويتم ذلك بتداخل من رجال الفكر والثقافة والفن؛ لتأتي تلك الاستراتيجية متكاملة وشاملة وقابلة للتنفيذ على أرض الواقع، وعلى مراحل متعددة متوسطة وبعيدة المدى ومتراكمة العمل وبتوقيتات محددة، وتتدخل في كل محتوى لا يتعارض مع ثوابت الوطن وفي هذا الجانب كلام كثير يمكن أن يقال.... كل ذلك بمتابعة من مجلس الوزراء الذي يرفع تقارير نصف سنوية وسنوية لرئيس الجمهورية، لضمان الجدية والاستمرارية.
ثانيا: إعادة هيكلة قطاعات الوزارة المعنية بمحاربة التطرف والإرهاب لتكون قادرة على أداء وظيفتها بكل كفاءة ومقدرة بعيدا عن النمطية والروتين وبما يجعل نشاطها جاذبا ومؤثرا؛ فاختيار الأفراد وتدريبهم وتوفير الإمكانيات ودعمهم وتذليل الصعوبات لهم سيجعلهم قادرين على أداء مهامهم في المناطق المستهدفة بالنشاط بكل تفان وإخلاص.
ثالثا: الانتشار في أقاليم مصر المختلفة مكانا ونشاطا فمصر بها 4709 قرية، يتبعها 30888 عزبة ونجعا، تمثل 57 % من عدد سكان مصر وفقا لما ذكرته تقارير الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء عام 2016، موزعين على مختلف المحافظات المصرية، والغريب أن وزارة الثقافة لا تتواجد في هذه القري التي يتواجد بها أكثر من 60 مليون مصري إلا ما ندر؛ فيكفي أن نعرف أنه على أحسن التقديرات لدى وزارة الثقافة أقل كثيرا من 80 موقعا فقط في هذه القرى بنسبة لا تزيد علي 2 % من قرى مصر أي أن هناك 98 % من قرى مصر لاتوجد بها مواقع لوزارة الثقافة كما لا توجد مواقع ثقافية في 30888 عزبة ونجعا وكفرا ويثير العجب أن بعض المواقع الثقافية المحدودة والضئيلة في القرى عبارة عن "مكتبة صغيرة" لا تزيد مساحتها في بعض الأماكن علي 60 مترا وليس بها الإمكانات المادية والبشرية اللازمة للعمل، فهل يعقل أن نترك عقول شباب وفتيات 57 % من سكان مصر دون رعايتهم ثقافيا وفنيا ووجدانيا، لقد كانت هناك خطة خلال عام 2015 أن تصل تغطية المواقع الثقافية لقصور الثقافة إلى ما نسبته 25 % من قرى مصر خلال عشر سنوات، ولا نعلم لماذا لم يتم استكمالها.
إن المتتبع لنمو ظاهرة التطرف والإرهاب يجد أنها نمت وترعرعت في مناطق مهمشة وبعيدة عن تأثير الدولة وتواجدها الطبيعي والمعنوي، ومنذ زمن بعيد والحاجة ماسة وملحة للتواجد أكثر وبشكل مستدام من خلال مقرات لقصور الثقافة والوزارة في قري ونجوع وكفور مصر، ولا يكتفى بما يتم الترويج له حاليا بإقامة أنشطة اليوم الواحد في منطقة من المناطق ثم الغياب طوال 364 يوما عن تلك المنطقة؛ كما أن الفوائد من تنظيم رحلات أو أنشطة لبعض شباب المناطق المحرومة ثقافيا في مؤسسات وزارة الثقافة كمحاولة لنشر الوعي، لن يكون سوى قطرة في محيط مما يجب عمله.
إذا أردنا أن نكون جادين في محاربة التطرف والإرهاب فإن الوجود اليومي والدائم المستدام الفاعل لوزارة الثقافة وبخاصة قصور الثقافة بين أبناء الوطن في القرى والمناطق المهمشة هو أولى الخطوات لنشر الاعتدال وتحصين المصريين من الأفكار الهدامة وقطع الطرق على أية محاولة لتغيير أفكار المصريين.
مازال الرهان على دور قصور الثقافة، وإصلاحها وتقوية أجهزتها الفنية والإدارية، حجر الزاوية في القيام بأي مجهود لوزارة الثقافة وليس تهميشها والتخلص من تركتها التي أصبح يرى فيها البعض عبئا ثقيلا على الدولة، يجب التخلص منه بسبب تكلفتها المادية والبشرية.
لا جدال في أن هناك خطورة من تقليص نشاط الوزارة وبالأخص نشاط قصور الثقافة وترك الأمر لجهات أخرى قد يقف وراء بعضها مشاريع وأهداف ليست مصرية ولا تتصل بالوطن وقضاياه ومستقبله لذا فإن الحفاظ على دور قصور الثقافة وتطويره ورعايته، لا نغالى إذا أكدنا على أنه محوري ومهم في تحقيق أهداف الدولة في بناء أجيالها ثقافيا ومعرفيا، وتحصينها من كل فكر هادم ومتطرف.
رابعا: استخدام موارد غير تقليدية لنشاط غير تقليدي، لا شك أن وزارة الثقافة وكل قطاعاتها، ليس لديها ما يكفي من الموارد المادية لتنفيذ البنى التحتية أو توفير الأدوات والآلات الحديثة أو حتى لتنفيذ أنشطة الوزارة المتنوعة، بخاصة ذات الميزانيات العالية، ورغم أن الدولة المصرية توفر ميزانيات سنوية أغلب القطاعات لا تنفقها بشكل كامل ويعود بعضها إلى وزارة المالية مرة أخرى؛ فإن بعض جوانب عمل وزارة الثقافة يمكن تجنب الإنفاق عليها من موارد الحكومة المصرية، بالاعتماد على القطاع الأهلي والمؤسسات الاقتصادية الكبيرة، فمع بذل قليل من الجهد في أقاليم مصر المختلفة وبخاصة لدى العائلات الكبيرة في قرى مصر، تستطيع وزارة الثقافة توفير تمويل لبناء المزيد من المواقع الثقافية، على غرار ما تقوم به بعض العائلات حيث تقدم تبرعا لبناء المدارس وبعض المصالح الحكومية خدمة لأهالي القرى، والنجاح في هذا الأمر يوفر الكثير من الأموال التي ترصد لبناء مواقع ثقافية لتنفيذ مزيد من النشاط وبذلك تستطيع قصور الثقافة التوسع في قرى مصر المحرومة من النشاط الثقافي.
الجانب الآخر المهم، الذي يمكن أن يخفف الأعباء المادية، من على كاهل وزارة الثقافة، التعاون مع الكيانات الاقتصادية الكبيرة (الشركات الكبرى والبنوك) لتفعيل المسئولية المجتمعية لها – طبقا للقانون- في أقاليم مصر المختلفة؛ فبقليل من الجهد يمكن أن تحصل وزارة الثقافة على دعم لنشاطها من تلك الكيانات الاقتصادية وبذلك تستطيع الوزارة تنفيذ أنشطة خلاقة ومختلفة وملحة تعود على أهالي المناطق المهمشة ثقافيا، مع إمكانية إطلاق أسماء تلك الكيانات أو العائلات على تلك الأماكن أو الأنشطة مثلما يحدث مع وزارات مثل التعليم أو الصحة أو التضامن الاجتماعي.
خامسا: تحتاج وزارة الثقافة إلى تقديم محتوى أكثر جذبا وتشويقا وإقناعا لأجيال أصبحت منفتحة على مصادر معلومات مختلفة وأعمال فنية وثقافية وفكرية لها من الخطورة ما يهدد قيم مجتمعنا وعلى هوية وخصائص الأمة المصرية، لذا فإن التحدي الأكبر لوزارة الثقافة هو صناعة محتوى قادر على جذب تلك الأجيال الجديدة وإشباع رغباتهم الثقافية والفنية، ولعل ما يعين وزارة الثقافة في أداء تلك المهمة هو استقطاب كبار المفكرين والمؤلفين والكتاب والفنانين إلى جانب المبدعين من الأجيال الجديدة في مجالات الفكر والثقافة والفن. إن تكوين فرق عمل من هؤلاء واستخدام إبداعاتهم في تقديم ثقافة وفن مختلفين لتصحيح الفكر ونشر الاعتدال ومحاربة التطرف والإرهاب من خلال مجالات عمل وزارة الثقافة في المسرح والسينما والفن التشكيلي والكتاب والقصة والشعر والأدب وغيرها من دوائر عمل وزارة الثقافة والخروج به من المدن الكبرى إلى الأطراف والأماكن المهمشة سيضعها على طريق النجاح في مهمتها.
هذه بعض المحاور القليلة من كثير تحتاج الوزارة إلى أن تعمل عليه لتقوم بدورها في نشر الاعتدال ومحاربة التطرف والإرهاب ويجب أن نشير إلى أن وزارة الثقافة لن تؤدي مهمتها بشكل مرضي وبنجاح مقبول إلا بوجود نجاح مواز في المجالات الأخرى لمحاربة التطرف والإرهاب سواء كانت اقتصادية أو اجتماعية أو غيرها.....