الأحد 13 ابريل 2025

مقالات

عيد الفطر.. فرحة لها تاريخ

  • 10-4-2025 | 13:00
طباعة

مصر، شعبها ما أعجبه! ما أكرمه! ما أندره! 

أيقونة متفردة لا نظير لها بين البلاد، خرج من رحم المعاناة، يهفو إلى الفرحة بارعا في نسج خيوطها وسط آلامه، على جدران المعابد ثمَّة لوحات تُعبر عن عشقه للحياة، وعيد الفطر له فرحة خاصة في الثقافة الإسلامية، خاصة أنه جاء بعد شعيرة وفريضة إسلامية قام بها المسلون جميعا، ألا وهي فريضة الصوم، وقد حفل ديوان الشعر العربي بالعديد من القصائد المدبجة التي تناولت التهنئة والفرحة بالعيد.

فهذا هو الشاعر شهاب الدين بن معتوق الأهوازي يشدو قائلاً: 

ليهنكَ بعدَ صومكَ عيدُ فطرٍ .. يريكَ بقلبِ حاسدكَ انفطارا

أتاكَ وفوقَ غرَّتهِ هلالٌ .. إذا قابلتهُ خجلًا توارى

يشيرُ وعادَ نحوكَ كلَّ عامٍ .. يحدِّدُ فيكَ عهداَ وازديارا

وهذا هو الشاعر العباسي أشجع بن عمر السلمي يهنئ الخليفة هارون الرشيد، قائلاً:

لا زلتَ تَنشُر أعياداً وتَطْوِيها .. تَمْضِي بها لكَ أيام وتَثْنِيها

مُستَقبِلاً زِينةَ الدُّنيا وبَهْجَتها .. أيامنا لك لا تَفْنَى وتُفْنِيها

 وهذا البحتري يتحدث عن مقدم عيد الفطر بعد رمضان:

مضى الشهر محموداً ولو قال مخبرا .. لأثنى بما أوليت أيامه الشهر

عصمت بتقوى الله والورع الذي .. أتيت فلا لغو لديك ولا هجر

وكتب ابن الرومي الشاعر العباسي، قائلاً:

وَلَمَّا اِنْقَضَى شَهْرُ الصِّيَامِ بِفَضْلِهِ .. يُحْكَى هَلَاَلُ الْعِيدِ مِنْ جَانِبِ الْغَرْبِ

كَحَاجِبِ شَيْخِ شَاب مَنْ طُولِ عَمْرِهِ .. يُشِيرُ لَنَا بِالرَّمْزِ لِلْأَكْلِ وَالشُّرْبِ

ولا ننسى رائعة المتنبي التي قالها هاجيا كافور الإخشيدي عندما حال بينه وبين من يحب في العيد:

 عيدٌ بأيّةِ حالٍ عُدتَ يا عيدُ   بمَا مَضَى أمْ بأمْرٍ فيكَ تجْديدُ

أمّا الأحِبّةُ فالبَيْداءُ دونَهُمُ    فَلَيتَ دونَكَ بِيداً دونَهَا بِيدُ

والمعتمدُ بن عباد يأتيه العيد بعد زوال ملكه فيقول:

فيما مضى كنت بالأعياد مسرورا ..  وكان عيدك باللّذات معمورا

وكنت تحسب أن العيد مسعدةٌ .. فساءك العيد في أغمات مأسورا

والعيد في مصر له مذاق وطقوسٌ خاصة وليس هذا وليد اليوم، وقد لفتت فرحة المصريين بأعيادهم انتباه الرحالة منذ القدم، ففي كتابها "مصر في كتابات الرحالة والقناصل الفرنسيين في القرن الثامن عشر" نقلت لنا د.إلهام محمد علي ذهني بعضا مما سجله قناصل فرنسا، والرحالة الذين وفدوا لمصر، عن مظاهر احتفالات المصريين بالأعياد، مثل تأكيدهم على حب المصريين للفرح وإقبالهم على فنون الغناء والرقص، وأن غرام المصريين بتلك الفنون يتركز في المدن أكثر منه في الريف، وتدلنا كتابات الرحالة والقناصل الفرنسيين على أن عيدي الفطر والأضحى من الاحتفالات الدينية المهمة في مصر، وأن المصريين يحرصون في أعيادهم على تقديم الطعام، وتشير المصادر التاريخية، إلى أن الاهتمام بالعيد لم يقف عند عمل الكعك وأصناف أخرى من الحلوى، بل شمل السمك المملح، فهذا هو سبط بن الجوزي، الذي عاش في القرن الـ13 الميلادي، يؤكد أنه أكل السمك المملح في يوم عيد الفطر..

كما تشير كتب الرحالة والمؤرخين، أنه منذ القرن الـ19 الميلادي والمدافع تطلق في الأوقات الخمسة أيام العيد احتفاء به. 

وفي كتاب "رمضان زمان" للدكتور أحمد الصاوي، يشير إلى أن أبرز مظاهر الاحتفال بيوم عيد الفطر لدى المصريين على مر الزمان، هو ذلك الاهتمام الكبير بأداء صلاة العيد التي يتقدمها الحكام والسلاطين وعمال النواحي وأرباب الوظائف كالقضاة والعلماء في الدول، وتسجل المصادر أن الدولة الفاطمية في طليعة الدول الإسلامية التي اهتمت بالاحتفال بيوم الفطر، كما يروى أن الاحتفالات بعيدي الفطر والأضحى كانت تتضمن إقامة المواكب المحاطة بأنواع من المرح، وأما صلاة العيد فكانت تشهد خروج الحكام والسلاطين في مواكب حاشدة تتقدمها الخيالة، وتسير من بوابات قصور الحكام والسلاطين حتى تصل إلى المساجد الكبرى في حضور رجال الدولة وكبار التجار والصُّناع وأعداد من مختلف الطوائف، وقد ذكر المقريزي في "الخطط والآثار" أن "مصلى خولان.. [كان هو] مشهد الأعياد ويؤم الناس ويخطب لهم.. في يوم العيد خطيب جامع عمرو بن العاص (ت 43هـ/664م)"، وقد سجّل المقريزيّ -في ‘اتّعاظ الحنفا‘- مشاهد عيد سنة 395هـ/1004م فذكر أنه "ركب [الخليفة] الحاكمُ يوم عيد الفطر..، وقُيّدَ بين يديه ستةُ أفراس -بسروج مرصّعة بالجوهر- وستة فيَلة وخمسُ زرافات! فصلى بالناس صلاة العيد وخطبهم"!
وقد كانت موائدُهم -وخاصة في العيد- عامرةً بأصناف الأطعمة والحلويات، على نحو ما نجد وصفه عند ابن تَغْري بَرْدي لمائدة الخليفة الفاطميّ العزيز بالله، ففي أحد الأعياد "نُصب إلى فسقية كانت في وسط الإيوان سماط طوله عشرون قصبة، عليه من الخُشْكَنان (خبزة مقلية محشوة)، والبِسْتَنْدُود (فطائر محشوة)، والبَزْماوَرْد (حلوى عجين بالسكر) مثل الجبل الشاهق! وفي كلّ قطعة منها ربعُ قنطار فما دون ذلك إلى رطل؛ فيدخل الناس فيأكلون ولا منع ولا حجر..، بل يفرّق على الناس ويحمل إلى دورهم". ثم ذكر أن العزيز "كان أوّل من رتّبها في عيد الفطر خاصّة".

ويستفيضُ في الوصف بعد ذلك قائلًا: "وأمّا سماط الطعام ففي يوم عيد الفطر اثنتان.. وفي عيد النحر مرّة واحد، ويُعبّى السّماط في الليل، وطوله ثلاثمئة ذراع في عرض سبع أذرع، وعليه من أنواع المأكل أشياء كثيرة؛ فيحضر إليه الوزير أوّل صلاة الفجر والخليفة جالس في الشبّاك، ومُكّنت الناس منه فاحتملوا ونهبوا ما لا يأكلونه، ويبيعونه ويدّخرونه، وهذا قبل صلاة العيد. فإذا فرغ من صلاة العيد مدّ السّماط المقدّم ذكره فيؤكل، ثمّ يُمَدُّ سماطٌ ثانٍ من فضّة يقال له المدوّرة، عليها أواني الفضّة والذهب والصّيني، وفيها من الأطعمة الخاصّ ما يُستحى من ذكره.

وكثير هي تلك الكتابات التي تناولت فرحة المصريين بالعيد، ما يضيق المقام عن حصرها، وفيما يلي نظرة سريعة إلى أبرز احتفاءات المصريين بالعيد.

كسوة العيد

في كتاب رمضان زمان، روى الرحالة والمؤرخون، من العرب والمستشرقين، عن كسوة العيد التي كانت مظهرا مهما من مظاهر الاحتفال بالأعياد لدى المصريين قبل قرون مضت، ونقلوا لنا كيف أن كسوة العيد كانت من أهم مظاهر الاحتفال بعيد الفطر، وهي عادة يرجع تاريخها، حسب المصادر، إلى دولة الخلافة الإسلامية في عصور بني أمية والعباس، والتي كانت قوانينها تقضي بتوزيع الخلع (الملابس) على أرباب الوظائف في الدولة خلال شهر رمضان، وفي بعض العصور كان يوصف عيد الفطر بعيد "الحلل" أي الملابس الجديدة. 

وقد أُقيمت لكسوة العيد دار تسمى "دار الكسوة"، و"دار الطراز"، وقد ذاعت شهرة دور الطراز المصرية بما أنتجته من المنسوجات الكتانية والحريرية، التي كانت تصدر في العصور الوسطى إلى العديد من الدول الإسلامية بل والأوروبية. 

كعك العيد

 لم يشهد بلد كمصر الارتباط بهذا النوع من الحلوى خاصة في عيد الفطر تعبيرا عن الفرحة، والتي انتقلت منه إلى العديد من دول العالم إن لم تكن دول العالم قاطبة، وإن اختلفت مسمياتها، ومما لا يخفى على أحد أن هذا النوع طعام مصري أصيل، ويرجع إلى تاريخ مصر القديمة، ويرجح البعض بدايته من عصر الملك رمسيس الثالث، وكان حينها يطلق عليه اسم "القرص" لكونه مستدير الشكل ويرمز لقرص الشمس الإله رع، بل رسموا عليه صورة الشمس كرمز لإله الشمس (رع)، وكانوا يقرِّبون هذه الأقراص إلى آلهتهم، وثمَّة صور مفصلة لصناعة كعك العيد على جدران مقابر طيبة ومنف ومقبرة الوزير رخمي رع، من الأسرة الثامنة عشرة، واستمرت صناعة الكعك طوال التاريخ بين المصريين عبر العصرين اليونانى والرومانى، مرورًا بالعصر البيزنطى، إلى أن وصل إلى العصر الإسلامى لاسيما فى عهد الدولة الطولونية فى مصر 868 - 904م، حيث كان يصنع حينها فى قوالب خاصة، وقد كان يتم حشو كعك العيد في عهد ابن طولون بالدنانير الذهبية كنوع من الدعاية له ويتم توزيعها على الفقراء، وكان يُقدم الكعك على مائدة طولها 200 متر وعرضها 7 أمتار وكانت تُقدم تلك المائدة لرجال الدولة والشعب، وكان يُطلق على كعك العيد في عهد الطولونيين اسم (افطن-له) ويرجع ذلك الاسم إلى أنه في إحدى الموائد المُقامة لتقديم الكعك لبعض من رجال الدولة، نبه وزير الدولة أبو بكر المادرائي أحد أصدقائه إلى الكعك الذي يحتوي على دنانير الذهب قائلاً له (افطن له) بمعنى انتبه لما فيه من مفاجأة، وانتقلت صناعته إلى الدولة الإخشيدية وأصبح من أهم مظاهر عيد الفطر حينذاك، وفى عصر الخلافة الفاطمية فى مصر، اهتم الفاطميون بصناعة الكعك فى عيد الفطر، حيث كان الخليفة الفاطمى يخصص مبلغ 20 ألف دينار لصناعة كعك العيد، وكانت المخابز تتفرغ لصناعته من منتصف شهر رجب؛ ثم أنشئت بعد ذلك ''دار الفطرة''، وهى دار مخصصة لصناعة كعك العيد.

وقد جاء في كتاب "رمضان" لحسن عبدالوهاب عن محمد بن السعودي الخياط الذي كان يسكن درب الأتراك بجوار الأزهر، قوله إنه في سنة بضع وستين وسبعمائة جاءه في عيد الفطر من الجيران أطباق كعك على عادة أهل مصر ملأ بها زيرا كبيرا، وأن هذا النوع حاز اهتمام التجار، لأنه كان رائجا في القرنين الـ14 والـ15 الميلاديين، وأن رؤية الكعك بأنواعه كانت تروق للناس في عيد الفطر لكثرة ما يُعرض منه في الحوانيت.

وتروي صفحات الكتاب ما سجله الرحالة والمؤرخون عن الكعك، وكيف صنع له المصريون القوالب المنقوشة والمكتوبة، ومنها مجموعة عُرضت في متحف الفن الإسلامي بالقاهرة، مكتوب على بعضها: "كل هنيا"، و"كل واشكر"، و"كل واشكر مولاك"، و"بالشكر تدوم النعم".

وعملت بعض الأوقاف على توزيعه في عيد الفطر على اليتامى والفقراء حتى لا يحرموا منه، مثل وقف الأميرة تتر الحجازية الذي كان ينص على توزيع الكعك الناعم والخشن على موظفي مدرستها التي أنشأتها سنة 1348 ميلادية، وقد أصبح سكان مصر يتهادونه من وقتها حتى الآن ويتفاخرون بإجادة صنعه.

العيدية

أبرز سمات الفرحة عند المصريين في العيد، ومن المعروف تاريخيا أنها تعود لعصور قديمة من قِبل الحكومات توسعة على الشعب، ولنشر البهجة، وكلمة العيدية مشتقة من العيد، ولكن ظهرت بشكل واضح في العصر الفاطمي حيث حرص  الفاطميون على تخصيص مبلغ مالي لكل مناسبة رسمية، وبدأت فكرة العيدية بمناسبة ختم القرآن الكريم، حيث توزع على كل من قراء وحفَظة القرآن الكريم، في نهاية شهر رمضان الكريم، ومع حلول الأعياد، على هيئة مبالغ مختلفة من الدراهم الذهبية، وفي بعض الأوقات تُوزع كسوة العيد على موظفي الدولة، مصحوبة بمبالغ من الذهب تختلف حسب رتبهم الوظيفية، وكان يقوم الخليفة بتوزيعها على من يقومون بزيارته صباح يوم العيد للتهنئة، حيث يطل الخليفة عليهم من شرفة أعلى باب القصر ليفرق عليهم الدراهم الفضية والدنانير الذهبية، ثم أصبحت عادة شعبية بين الناس لا دخل للدولة الحاكمة فيها بشكل كبير، وأصبحت الهدايا والنقود تقدم للأطفال ومع نهاية الدولة العثمانية استقر شكل العيدية كما نعرفها الآن. 

وتنوعت أسماء العيدية من عصر لآخر ففي العصر الفاطمي عرفت ب«الرسوم» أو «التوسعة»، وفي العصر المملوكي، عرفت باسم «الجامكية»، وهي كلمة تعني «المال المخصص لشراء الملابس»، وبعد ذلك تم تحريفها لتصبح «العيدية»، كما اتخذت العيدية صورة الحلويات والمأكولات الشهية والملابس الفاخرة والبالونات، وتحرص الأسر على إعطاء أطفالها العيدية التي تختلف قيمتها حسب عمر الطفل، لذلك ينتظرها الأطفال من عيد لآخر ويفرحون بها ويحرصون على جمعها لشراء ما يحلو لهم.  

وقد ذكر المقريزي -في ‘اتعاظ الحنفا‘- أن الخليفة الفاطميّ… "قرر للشيخ أبي جعفر يوسف بن أحمد بن حسديه (حسداي) بن يوسف (ت نحو 530هـ/1136م) -الإسرائيلي (= اليهودي) الأصل- لما قدم من الأندلس وصار ضيف الدولة [وكان طبيبًا حاذقًا]: جاريًا (= راتباً)، وكسوة شتوية، وعيدية". ويبدو أنه حتى الملوك كانوا يتلقون "عيديات" بلَبوس هدايا في الأعياد يقدمها رجالات بلاطهم؛ فهذا ابن دحية (ت 633هـ/1235م) يخبرنا -في ‘المُطرب‘ أنه "أهدى الناسُ في يوم عيد إلى السلطان المعتمد.. ابن عباد (ت 488هـ/1095م) مما يُهدَى للملوك في الأعياد"!!

أما أظرف العيديّات فهو ما كان يُمنح للضيوف عينيًّا دون أن يشعروا وبطريقةٍ غاية في اللطف، وذلك بأن يُحشى الكعك بالدنانير الذهبية بدلًا من السكر، أو تُلبّس الحلوى على فستقٍ من ذهب! فقد ذكر المقريزي -في ‘اتعاظ الحنفا‘- قصة هذين الصنفين العجيبين من الضيافة؛ فقال في ترجمة القاضي ابن مُيَسَّر (ت 531هـ/1137م): "وهو الذي أخرج الفستق الملبَّس بالحلوى، فإنه بلغه أن [الوزير الإخشيدي] أبا بكر.. المادَرائي (ت 345هـ/956م) عمل الكعك.. وعمل عوضاً من حشو السكر دنانير..؛ فأراد القاضي ابن مُيسر أن يتشبه بأبي بكر المادرائي في ذلك؛ فعمل صحناً منه لكن جعل فستقًا قد لُبّس حلوى وذلك الفستق من ذهب، وأباحه أهلَ مجلسه"!

الوقفة

وهي اليوم الذي يسبق يوم العيد مباشرة، وجاءت التسمية من وقفة عرفات التي تسبق عيد الأضحى المبارك، ومن هنا صار الاسم يطلق على اليوم الذي يسبق العيد مباشرة، وهذا اليوم له طقوسه الخاصة في الحياة المصرية وربما تفوق فرحته فرحة العيد نفسه حيث الاستعدادات ليوم العيد وغالبا يقضيه المصريون سهرا إلى صلاة العيد، وفيه تظل المحال مفتوحة تلبية لطلبات المصريين من حلاقة وشراء الملابس الجديدة، وحلوى العيد، وثمَّة أغانٍ ارتبطت بتلك الليلة ولعل أشهرها أغنية أم كلثوم "يا ليلة العيد".

الاكثر قراءة