إن احتلال مصر المركز الثاني عالميا في معدل نمو الطاقة الكهربائية المولدة من الغاز الطبيعي خلال عام 2024 ليس مجرد إنجاز رقمي عابر بل هو مؤشر دقيق على تحول استراتيجي في بنية الاقتصاد الوطني ونظرته إلى الطاقة كقاطرة للتنمية وفي وقت تتعاظم فيه التحديات المرتبطة بتقلبات أسعار النفط وتزداد فيه المطالب العالمية بالتحول نحو مصادر طاقة أكثر كفاءة وأقل انبعاثًا يظهر الغاز الطبيعي كلاعب أساسي في معادلة الطاقة بالدولة وكمفتاح لتحقيق التوازن بين الاستدامة والقدرة التنافسية.
وقد شهدت مصر خلال السنوات الماضية تطورات لافتة في قطاع الغاز الطبيعي خاصة بعد اكتشافات الحقول البحرية الكبرى، وعلى رأسها حقل "ظهر" الذي يعد من أكبر الاكتشافات في البحر المتوسط وهذه الاكتشافات لم تبق حبيسة الأرقام الجيولوجية بل تم تحويلها إلى طاقة تشغيلية عبر بنية تحتية قوية وشراكات دولية مكنت البلاد من تلبية جانب كبير من احتياجاتها الكهربائية من الغاز بل والتوسع في التصدير كما أن الانتقال إلى الغاز الطبيعي لتوليد الكهرباء بنسبة أكبر ليس خيارا ترفيا بل قرار استراتيجي نابع من عقلية اقتصادية واعية تدرك أن الاعتماد على مصادر نظيفة نسبيا وذات تكلفة تنافسية هو السبيل لمواجهة ضغوط فاتورة الدعم وتحقيق فائض كهربائي يمكن أن يوظف في دعم الصناعة وجذب الاستثمارات وتعزيز قدرة الدولة على تلبية الطلب الداخلي المتزايد.
وأن تأتي مصر في المرتبة الثانية عالميا في هذا المضمار خلال عام 2024 يعني أنها تتقدم على دول صناعية كبرى تملك إمكانات تقنية ومالية عالية ما يشير إلى أن هناك إرادة سياسية وتنظيمية تدفع باتجاه تسريع التحول الطاقي كما يعكس هذا الإنجاز نجاحا في إدارة ملف الطاقة بصورة متكاملة حيث لم تقتصر الجهود على الإنتاج فقط بل امتدت إلى تطوير الشبكات وتوسيع نطاق محطات التوليد التي تعتمد على الغاز وزيادة الكفاءة التشغيلية وإذا ما قرئت هذه المؤشرات في ضوء السياق الإقليمي فإن مصر تثبت مجددا قدرتها على لعب دور محوري في سوق الطاقة بشرق المتوسط مستفيدة من موقعها الجغرافي وشبكة الربط الكهربائي الإقليمي التي تمد جسور الطاقة بين أفريقيا وأوروبا والشرق الأوسط.
ويحمل التحول إلى الغاز الطبيعي كمصدر رئيسي للكهرباء بين طياته انعكاسات اقتصادية أعمق من بينها خفض تكلفة الإنتاج الصناعي وتحسين الميزان التجاري عبر تقليص واردات الوقود السائل وزيادة صادرات الغاز المسال كما يتيح هذا التحول فرصا لتعظيم القيمة المضافة داخليا عبر الصناعات المرتبطة بالطاقة ويمنح مصر هامشا أوسع في سياسات الطاقة والتفاوض مع الشركاء الدوليين لكن ومع هذه النجاحات تبقى التحديات قائمة فاستدامة هذا النمو تتطلب تنويع مصادر الطاقة بما يشمل الطاقات المتجددة وتعزيز الكفاءة في الاستهلاك وترسيخ ثقافة الاقتصاد الأخضر فضلًا عن تطوير البنية التحتية لاستيعاب النمو المتوقع في الطلب خاصة في ظل التوسع السكاني والعمراني.
**نحو رؤية متكاملة للطاقة**
لا يمكن النظر إلى تقدم مصر في مجال الغاز بمعزل عن استراتيجيتها الشاملة للطاقة، والتي تهدف إلى تحقيق مزيج طاقي متوازن بحلول 2030، يعتمد على الغاز الطبيعي كمصدر انتقالي، ويمهد للانتقال لاحقًا إلى طاقات نظيفة أكثر استدامة مثل الطاقة الشمسية والرياح والهيدروجين الأخضر.
بذلك، فإن ما حققته مصر عام 2024 هو أكثر من مجرد تقدم في التصنيفات، إنه دليل على أن الدولة تمضي بخطى ثابتة نحو بناء منظومة طاقة حديثة، ذكية، وذات بعد اقتصادي وتنموي شامل، تؤسس لمرحلة جديدة من الاستقلال الطاقي والنمو المستدام، حيث تتحول الطاقة من عبء إلى فرصة.