في ركنٍ هادئ من الريف الفرنسي، وُلد صبي يتيم الأبوين اسمه «جان راسين»، لم يكن يعلم أن الأقدار تخطّ له سيرة من نارٍ وحبرٍ ومجدٍ أدبي لا يُنسى ، ونشأ في كنف جدّته، بين جدران الأديرة الصامتة، حيث تعلم الحرف والكلمة، لكنه سرعان ما أدرك أن قلبه لا يخفق للوعظ بل للدراما، وأن روحه لا تُروى إلا على خشبة المسرح.
لقد كان«راسين» شاعرًا لا يكتب فقط، بل يصرخ بالحبر، وكان مسرحيًا لا يبحث عن التسلية، بل عن الروح البشرية في أقصى حالاتها حبًّا، وجعًا، شغفًا، وانكسارًا، ومسرحياته لم تُروَ، بل عاشت. شخصياته لم تُمثّل، بل نَزفت، حتى خصومه، لم يستطيعوا إنكار أنه استطاع بموهبته أن يُسقط الجمهور في بحرٍ من الدموع والتأملات.
إنه الأديب جان راسين، الرجل الذي قاوم القيود، وانتصر للإنسان، ليصبح أحد أعمدة التراجيديا الفرنسية، وصوتًا خالدًا في سجل الأدب العالمي.
وُلد جان راسين عام 1639م في بلدة فيرتي ميلون الصغيرة بمقاطعة فالوا، في عائلة فقيرة كان والدها موظفًا قضائيًا بسيطًا، وتوفي والداه وهو في الثالثة، فكفلت تربيته جدّته، وفي سن التاسعة، التحق بمدرسة بورت-رويال الدينية، حيث تلقّى تعليمًا كلاسيكيًا صارمًا، وهناك بدأ يتضح له أن الأدب«not اللاهوت» هو طريقه في الحياة.
بداية الصراع مع الأدب
تُروى أسطورة أن الأديب جان راسين كتب أولى مسرحياته استنادًا إلى رواية يونانية، لكن معلّميه أحرقوا مخطوطته. لم ييأس وأعاد كتابتها، فتعرضت للحرق ثانية، ثم ثالثة! عندها قال بثقة: "لقد حفظتها عن ظهر قلب»، فأدرك الجميع أنه كاتب لا يُقهر.
من الدراسة إلى الأدب
وفي سن التاسعة عشرة، ذهب«راسين» إلى باريس لدراسة القانون، وهناك التقى بكبار الأدباء مثل لافونتين في عام 1666 كتب قصيدة لزفاف الملك لويس الرابع عشر نالت إعجابًا واسعًا.
لاحقًا، سافر إلى الريف آملًا في الحصول على منصب ديني يضمن له دخلًا، وهناك كتب لصديقه لافونتين ساخرًا من النساء المحليات: «مدهشات، لكني نُصِحت أن أكون أعمى وإن لم أكن أعمى، فعلى الأقل أصم!»
بداية الرحلة مع المسرح
عاد «راسين» إلى باريس وبدأ يتفرغ للمسرح اقترب من حلقات البلاط الأدبية وقدّم لهموليير مُؤَسٌِسُ الكوميديا الراقية له مسرحيتيه الأوليتين:«الإخوة الأعداء» و«الإسكندر الأكبر»، واختار«راسين »أن يكتب فن التراجيديا متأثرًا بالكاتب كورنيّ، لكنه لم يبق في ظل أحد.
انفصال «راسين» عن مسرح «موليير»
قرر«راسين» قطع علاقته مع فرقة مسرح «موليير في عام 1665، وانتقل إلى مسرح «أوتيل دي بوغرو، واصطحب معه تيريز دو بارك، أفضل ممثلات موليير، هناك قدّمت دور البطولة في أولى نجاحاته الكبرى: أندروماش.
تأثر الجمهور بعُمق شخصياته لا بحبكة القصة فقط، حتى أن باريس كلها غرقَت في البكاء، حسب ما قيل!
مسرحية كوميدية واحدة فقط
في العام التالي، كتب «راسين» مسرحيته الكوميدية الوحيدة «المتخاصمون»، كنوع من التحدي لـ موليير، ليثبت أن بإمكانه إتقان فنّ الملهاة أيضًا!
التتويج والنجاح في البلاط الملكي
في 1670م، طلبت الأميرة هينرييتا من كورنيّ وراسين تأليف مسرحيتين عن الحب بين الإمبراطور الروماني والملكة اليهودية، وكانت الغلبة لـ راسين بمسرحيته بيرنيس التي تفوقت على نظيرتها، وبفضل نجاحاته، أصبح«راسين» من نبلاء البلاط، وشارك في المناسبات الملكية الكبرى، وزاد قربه من الملك.
فيدرا... القمة والنهاية وأشهر المسرحيات
أصدر «راسين» مسرحيته فيدرا التي اعتبرها أفضل مؤلفاته ومسرحياته، لكن أعداءه لم يغفروا له، واتّهموه بـ «الفجور»، فقرّر ترك المسرح تمامًا عام 1677م، رغم نجاحه الكبير، من بين مؤلفات و مسرحيات «راسين» الخالدة، تبقى تراجيديا «أندروماك» واحدة من أكثر مسرحياته شهرة وتأثيرًا في تاريخ الأدب الفرنسي.»
منفى اختياري
ابتعد «راسين» عن الحياة العامة، وتزوج من فتاة بسيطة تُدعى كاترين رومانيس، لم تقرأ حتى مسرحياته، لكنها أحبّته كزوج وأب لسبعة أبناء.
في آخر 20 سنة من حياته، لم يكتب سوى مسرحيتين، بعدما كان مؤلفًا نشيطًا، وتوفي الكاتب والمسرحي المتميز جان راسين أواخر القرن السابع عشر في 21 أبريل 1699م عن عمر يناهز 59 عامًا مؤكدًا أن الأدب الكلاسيكي يمكنه اختراق النفس البشرية بعمق، حتى تحت أصعب القوالب.