بدأت تقنيات واستراتيجيات الحرب النفسية مع بدء الصراع بين الإنسان والإنسان في العصور السحيقة، ومع تطور الحرب النفسية ظهرت الحرب الثقافية، حروب الأفكار والوعي والمعنويات، ولاحقاً استقل علم الحروب الثقافية عن علوم الحرب النفسية تحت مظلة العلوم الحربية. وفي القرن العشرين، مع تطور أدوات الإعلام والنشر، أصبحت الحرب الثقافية هي الضربة الأولى في الحروب والصراعات، وأصبح لكل عدوان مشروع استعماري وإمبريالي سرديات ثقافية تستهدف الغزو الفكري والاستعمار الثقافي حيال المجتمعات والدول المستهدفة.
وفي هذا السياق، لم يعد قطاع الثقافة وقطاع النشر، وكذلك قطاع الصحافة وصولاً إلى قطاع الإعلام، مجرد قطاعات مدنية تمارس دورًا ثقافيًا وإخباريًا أو حتى تنويريًا، بل أصبحت جزءاً من السيادة الوطنية وجزءاً من أدوات الدفاع عن الأوطان ورد العدوان عن الوعي الجمعي للشعوب. المؤرخ البريطاني ألبرت مونتيفيوري هيامسون (27 أغسطس 1875 - 5 أكتوبر 1954) في كتابه British projects for the restoration of the Jews الصادر عام 1917، أشار إلى أن بريطانيا حينما قررت في أواخر ثلاثينيات القرن التاسع عشر صناعة وطن قومي لليهود في فلسطين، قررت في الوقت ذاته بدء حركة أدبية وثورة ثقافية لدعم هذه الفكرة! نتحدث عن القرن التاسع عشر، في أوروبا التي كان تراثها الديني والسياسي، وحتى القومي، يناصر العداء لليهود بشكل عنصري بغيض، لذا كان يجب تجييش الرأي العام الأوروبي والغربي لصالح الانتصار لليهود على سكان فلسطين الأصليين، وفي هذا الزمن كان الحل وكانت أدوات الحرب الثقافية هي الروايات والمسرح وما توفر من حركة صحفية، فكانت التوصية الحكومية أن يكون دائماً في المسرحيات والروايات أحد الأبطال يهودياً، يتعرض لمضايقات، ودائماً ما يوجد بطل ثانٍ في هذا المشهد حتى لو كان كلاهما من الأبطال الثانويين في الرواية أو المسرحية، ويقوم البطل الثاني بإخبار اليهودي بأن النجاة والخلاص تكمن في العودة إلى أرض الميعاد، إلى فلسطين.
هكذا، عبر الحرب الثقافية، تم تمرير الفكرة إلى الوعي الجمعي للشعوب الغربية، عبر القصص والروايات والصحف والمسرحيات، بدايةً من ثلاثينيات القرن التاسع عشر: اليهودي التعيس لن يرتاح إلا بالعودة إلى فلسطين، وهي صفقة مريحة للجميع، لأوروبا الكاثوليكية وأمريكا البروتستانتية وحتى روسيا الأرثوذكسية! ومن هنا، تُعتبر الحرب الثقافية التي واكبت السعي الغربي لتوطين يهود الغرب في فلسطين تحت مسمى عودة إسرائيل وعودة اليهود، هي أهم حرب ثقافية في التاريخ بلا جدال؛ هي معركة القرن الثقافية، إذ عقب تأسيس أوروبا للمنظمة الصهيونية، بدأت الحكومات الغربية في إقناع أثرياء اليهود بتمويل قيام دولة إسرائيل، فتأسست منظمات صهيونية متخصصة في الدعاية والحرب الثقافية، أنتجت آلاف الديباجات والنصوص التي تهدف إلى تأسيس وترسيخ تاريخ بديل مزيف عن الذاكرة التاريخية لشعوب المشرق، تاريخ بديل ينتصر للتوراة واليهود واليهودية وإسرائيل على حساب حضارات الشرق القديم وسكان الشرق حتى اليوم، في أعتى استخدام لاستراتيجية الإبادة الثقافية.
إن إبادة الشعب الفلسطيني، وغزو سوريا ولبنان، ومحاولة غزو سيناء والأردن، كلها خطوات بدأت قبل بدء الاستيطان اليهودي الأوروبي عام 1882، وبدأت بالحرب الثقافية، على يد مثقفين ومفكرين وأدباء، وعلى يد كتاب القصة والرواية والمسرح، ثم لاحقاً الإذاعة والمسلسل والفيلم الروائي والوثائقي، ثم لاحقًا صانع المحتوى الرقمي. وبالتالي، فإن المناقشات الثقافية حول إسرائيل هي أهم معركة ثقافية في العصر الحديث، لأنها معركة ثقافية قادرة على إبقاء أو نفي إسرائيل الحديثة، ولا تقل أهمية عن معركة السلاح والتجارة والعملة في دولاب الصراع العربي الإسرائيلي.
وللمفارقة، أنه في العصر الحديث، من أبرز "مقاتلي" الحرب الثقافية ضد السرديات الصهيونية هم يهود، بل ومنهم من إسرائيل نفسها! البروفيسور الإسرائيلي شلومو ساند، أستاذ التاريخ في جامعة تل أبيب وواحد من أبرز المفكرين الإسرائيليين الذين تخصصوا في دراسة تاريخ اليهودية والهوية القومية، بدأ حياته مثل أي شخص ولد فيما يسمى بـ"إسرائيل"، يؤمن بفكرة أرض الميعاد والوطن اليهودي، وتحمس حينما كان شابًا لبدء التنقيب في كتب التاريخ والآثار من أجل تعزيز أصالة الفكرة. يوماً بعد يوم، وعاماً بعد عام، كانت الحقائق تظهر أمام ساند كما كانت تظهر أمام أي مثقف حول العالم، بعضهم صمت، والآخر تخلص مما توصل إليه، ولكن الحقائق أمام شلومو ساند كانت أكبر من أن يسكت ضميره، فخرج إلى العالم عبر كتابه اختراع الشعب اليهودي عام 2008، موضحًا أن اليهودية ديانة وليست قومية، وأن اليهود ليسوا شعبًا واحدًا، ولكن مثل المسلمين والمسيحيين وأتباع كافة الديانات، كل فرد هو ابن بيئته وشعبه ومجتمعه. لا توجد خصائص واحدة وموحدة لأي مجتمع يهودي حتى في زمن الجيتو، أي الزمن الذي كان اليهود فيه يعيشون في مجتمعات مغلقة في أوروبا.
ساند ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، إذ إن حركة التنقيب عن الآثار اكتشفت في فلسطين المحتلة آثاراً منذ عصر الديناصورات حتى مئتي عام مضت، ولكن لا أثر واحد لمملكة إسرائيل ولو حتى كوب من الفخار! اختتم ساند أبحاثه بأن تلك القصص الدينية إما أنها لم تحدث من الأساس أو أننا نبحث عن آثارها في المكان الخطأ! آرثر كوستلر Arthur Koestler، الروائي والكاتب والصحفي الإنجليزي–المجري الشهير، صاحب كتاب السبط الثالث عشر The Thirteenth Tribe، الذي نُشر عام 1976 ودحض فيه أسطورة يهود إسرائيل، ملخص كتابه أن يهود اليوم ليسوا ساميين ولا حق لهم في فلسطين، إذ أنهم لا ينتمون إلى بني إسرائيل أو العبرانيين، ولكن يهود العصر الحالي هم في واقع الأمر منحدرون من سلالة الخزر، هم يهود بالتحول والاعتناق، لم تطأ أقدام أجدادهم قط أرض فلسطين المقدسة في تاريخ العهد القديم.
والخزر هم شعب آسيوي تعود أصوله إلى قبائل التتار وليس الأتراك، لأن الترك ينتسبون إلى التتر وليس العكس، لذا فإن يهود اليوم هم أحفاد التتار اليهود وليس بني إسرائيل، ولا قرابة لهم ولا صلة دم مع قوم موسى، أو قبائل إسرائيل وأسباطها، ولا صلة مع النبي إبراهيم وأبنائه وأحفاده وسلالاته.
عام 1983، وفي سن السابعة والسبعين، توفي آرثر كوستلر مع زوجته بشكل غامض، وقتذاك أشاع الإعلام الصهيوني أنهم انتحروا بالسم، ولكن لا يوجد أي تحقيق جرى خلف الأمر لمعرفة حقيقة ما جرى! وشعب الخزر من الشعوب الوثنية التي أسست دولة كبرى، واشتد الصراع بين الدولة العباسية وحلفائها ضد الإمبراطورية البيزنطية، وقرر حاكم الخزر في القرن التاسع الميلادي أن يختار دينًا جديدًا لشخصه وشعبه ودولته من أجل الانخراط في هذا الصراع، ولكن بعد أن قرأ الكثير عن الإسلام والمسيحية ظن أن اعتناقه اليهودية سوف يجنبه هذا الصراع ويبقيه على الحياد، وهو ظن خاطئ لأن الصراع كان سياسيًا وليس دينيًا، ولكن ما حدث أن الخزر دخلوا في دين اليهودية وقتذاك، بقرار من حاكم الخزر، لذا فلا هم بدورهم ينتسبون إلى قبائل إسرائيل بل إلى قبائل التتار. البروفيسور الأمريكي كيفين ماكدونالد Kevin B. MacDonald، أستاذ علم النفس التطوري بجامعة كاليفورنيا، تحدث عن التأصيل الثقافي والنفسي لهذه الفكرة وتَبِعاتها، فكرة أن يهود أوروبا ليسوا من أصول عبرانية، وذلك في كتابه ثقافة النقد The Culture of Critique عام 1998.
تلك الأسماء لم تكن وقائع نادرة، بل هي أساس أيديولوجي لهزيمة نكراء للصهيونية في الحرب الثقافية، أساس يضم الصحفي البريطاني دوجلاس ريد Douglas Reed وكتابه جدلية صهيون The Controversy of Zion، أو عالم اللغويات الأمريكي بول ويكسلر Paul Wexler، الذي قال في كتابه اليهود الأشكناز: شعب سلافي تركي يبحث عن هوية يهودية المنشور عام 1993، إن اللغة العبرية الحديثة ليست تطورًا طبيعيًا من العبرية التوراتية، ولكنها "لغة سلافية مموهة" بسبب تأثير يهود الخزر والسلاف. وواصل المفكر البلجيكي كونراد إلست Koenraad Elst الحديث عن التتار الخزر اليهود، أجداد يهود العالم اليوم، وكذلك المؤرخ الأمريكي اليهودي ألفريد ليليينثال Alfred Lilienthal في كتابه العلاقات الصهيونية The Zionist Connection.
أما المؤرخ الأمريكي جون بيتي John Beaty، فقد وضح في كتابه عام 1951 أن يهود اليوم أحفاد يهود الخزر الذين انبثقت منهم شبكة من اليهود الأشكناز الساعين للسيطرة على السياسة الأمريكية، وذلك في كتابه الستار الحديدي فوق أمريكا The Iron Curtain Over America. وللأسف، فإن هذه الحقيقة التاريخية الجغرافية الثقافية غائبة عن الكثير جداً من محافل العرب والمصريين الثقافية، لأنها لا تخدم السرديات الدينية التي تهيمن على الوعي الجمعي لشعوب المنطقة.