تحمل السينما المصرية تراثا يبلغ حدا كبيرا من الثراء لأنها استمدت موضوعات أفلامها من مصادر كثيرة ومختلفة، سواء من الأدب العربي أو العالمي أو من سير الشخصيات الشهيرة وكذلك اقتبست من الأدب الشعبي المصري عددا كبيرا من القصص التي أحبها الجمهور مثل «حسن ونعيمة» و«أدهم الشرقاوي» و«شفيقة ومتولي»، ولم يقتصر الأمر على ذلك بل أشار الباحث والناقد عبدالحميد حواس إلى تأثر السينما بالمأثورات الشعبية في أفلام كثيرة مثل «العزيمة» و«عزيزة» و«المغنواتي»، كما رصد د.حسين عبد اللطيف تأثير المأثورات الشعبية على مخرج الواقعية صلاح أبو سيف في «الفتوة» و«الزوجة التانية» و«السقا مات».
يحدد عبدالحميد حواس في كتابه "أطياف وظلال" مجموعة من خصائص السينما باعتبارها "منتجا ثقافيا" ويقول: "الثقافة بمعناها العلمي هي رؤية جماعة اجتماعية معينة للعالم وطريقتها المخصوصة في الحياة وأسلوبها في العيش.. الثقافة منظومة من الرموز والعلامات والإيماءات التي تحيل إلى نسق من الدلالات والمعاني والقيم... وقد أصبح النقد الثقافي من أهم اتجاهات النقد الأدبي والفني.. والسينما كذلك منتج جماهيري يجب أن نضع في اعتبارنا اللغة التي تنشئ بها السينما خطابها إلى جمهورها لكي تتواصل معه، والسينما أيضا منتج يرتكز في مرجعيته على مكونات الثقافة الشعبية لذلك وجدت السينما في مصر البيئة الخصبة للحياة والنمو لأن الجمهور المصري اعتاد على مشاهدة صندوق الدنيا وخيال الظل قبل أن تصل إليه السينما".
العزيمة
فيلم "العزيمة" من إنتاج ستوديو مصر عام 1939 بطولة حسين صدقي وفاطمة رشدي تأليف وإخراج كمال سليم، وهو ضمن قائمة أفضل 100 فيلم في تاريخ السينما المصرية في استفتاء النقاد. يقدم الفيلم قصة الحب بين "محمد" و"فاطمة" وهما يتعاهدان على الزواج في حين أن محمد حديث التخرج ويعاني من ظروف مالية غير ميسرة، فيتشارك مع عدلي "أنور وجدي" ابن نزيه باشا "زكي رستم" في شركة تجارية بمجهوده، ولكن يتم تلفيق تهمة لمحمد بضياع مستند مهم ويطرد على إثر ذلك من الشركة ويضطر للعمل في وظيفة صغيرة مع إخفاء ذلك عن فاطمة والتي عندما تكتشف ذلك تحت تأثير أمها تطلب الطلاق، في حين يطمع فيها الجزار "العتر" ويتقدم للزواج منها، يحدث أن يتغير حال عدلى ابن نزيه باشا ويعمل على إيجاد المستند الذي من شأنه يتم تبرئة محمد من التهمة التي نسبت إليه، ويبدأ محمد مع عدلي الشراكة الذي كان يخطط لها. تندم فاطمة على تفريطها في حبها لمحمد وتعود إليه قبل إتمام زواجها من الجزار.
ويعتقد عبدالحميد حواس أن فيلم "العزيمة" استخدم في بنائه عناصر غير قليلة من المأثور الشعبي مثل قدرة البطل على مواجهة الظروف الصعبة التي يمر بها بعد أن فقد وظيفته وطلبت زوجته الطلاق، ورغم ذلك يجسد البطل محمد شخصية الرجل الطيب المتسامح الذي يتحمل مؤامرات الخسيس وشماتة أشرار الحارة.
خمسة أفلام
وفي دراسة مهمة للدكتور محمد أمين عبدالصمد بعنوان "الموال القصصي في السينما المصرية" يشير إلى خمسة أفلام مأخوذة من الأدب الشعبي المصري وبالتحديد من المواويل القصصية وهي: "حسن ونعيمة" إخراج هنري بركات عام 1959، وقام بالمعالجة الدرامية عبدالرحمن الخميسي، و"بهية" إخراج رمسيس نجيب عام 1960 والمعالجة الدرامية ليوسف السباعي، وفيلم "أدهم الشرقاوي" إخراج حسام الدين مصطفى عام 1964 والمعالجة الدرامية لسعد الدين وهبة، و"شفيقة ومتولي" إخراج علي بدرخان عام 1978 والمعالجة الدرامية لصلاح جاهين و"المغنواتي" إخراج سيد عيسى عام 1984 والمعالجة الدرامية ليسري الجندي.
ويؤكد د.عبدالصمد على ضرورة توافر عناصر أساسية لنجاح الفيلم السينمائي المأخوذ عن القصص الشعبية، وأهمها عنصر التشويق الذي يعتمد على الصراع.. مثل صراع أدهم ضد السلطة المتعاونة مع الاحتلال وصراع ياسين ضد الإقطاع ومن يمثلونه وصراع حسن مع أهل نعيمة والتقاليد البالية المساندة لهم، وفي "شفيقة ومتولي" صراع ضد أنواع من الفساد وفي "المغنواتي" صراع بين القديم والجديد. ولعل من أفضل وسائل إثارة التشويق أن الجمهور يكون على معرفة بشيء لا تعرفه شخصيات الفيلم، فمثلا في "حسن ونعيمة" نجد مجموعة الأشرار يتربصون بحسن لقتله بينما هو يسير هادئا مع صديقه محمد الطبال يتغزل في جمال القمر وسكون الليل والشبه بين هذا الجمال وحبيبته نعيمة.. وفجأة تدوي طلقات الرصاص قاصدة روح حسن.. وفي "أدهم الشرقاوي" يعرف الجمهور كراهية بدران لصديقه أدهم وغيرته من حب "سلمى" له ثم خيانته لأدهم الذي لا يدري شيئا عن كل هذا.
الفتوة
في بحث للدكتور حسين عبداللطيف يحمل عنوان "المأثورات الشعبية في السينما المصرية" دراسة لبعض أفلام المخرج صلاح أبو سيف مثل "الفتوة" و"الزوجة الثانية" و"السقا مات".. فيلم "الفتوة" من إنتاج 1957 وبطولة فريد شوقي وتحية كاريوكا وزكي رستم قصة محمود صبحي وفريد شوقي وسيناريو السيد بدير ونجيب محفوظ وصلاح أبو سيف.. وفي الفيلم يدخل "هريدي" فريد شوقي الباحث عن الرزق إلى سوق الخضار، فيستقبله بالصفع والإهانة لكنه يتحمل من أجل تحقيق أحلامه، وبعد محاولات كثيرة ينجح في العمل لدى المعلم "أبو زيد" زكي رستم كبير تجار السوق بمساعدة "المعلمة حسنية" تحية كاريوكا، يتقرب هريدي من أبو زيد ويعرف كل أسراره وطرق حصوله على المزادات والاستعانة بذوى النفوذ، ينفصل هريدي عن المعلم ويتزوج حسنية، ويصبح من كبار التجار، يشك أبو زيد في أن هريدي يخونه، لكن كل محاولاته للبحث عن الحقيقة تبوء بالفشل، يدخل أبو زيد السجن ويصبح هريدي سيد السوق، ويتحول إلى طاغية مثله، يخرج أبو زيد من السجن، وتدور منافسة بينه وبين هريدي حول أحد المزادات الكبيرة يموت فيها أبو زيد، ويتم القبض على هريدي، ويستقبل السوق بطلي نسخة جديدة من الفيلم هما ضيفي الشرف محمود المليجي وهدى سلطان.
يستخدم صلاح أبو سيف المقهى الشعبي وشاعر الربابة في بعض المشاهد لتوجيه الجمهور للخط الدرامي الذي سوف تسير فيه أحداث الفيلم، ويستغل ابو سيف فرصة زواج هريدي وحسنة ليقدم مظاهر الاحتفال بالفرح الشعبي في قاهرة الأربعينيات حيث الفصل بين مجلس الرجال في الحارة ومجلس النساء داخل منزل العروس.. وتظل فرقة حسب الله تعزف طوال يوم الزفاف ويقدم الفيلم كيفية استقبال المعازيم والترحيب بهم، كذلك يستعرض أبو سيف ملابس الرجال والنساء في تلك المرحلة من تاريخ المجتمع المصري ويصور الحياة داخل سوق روض الفرج الشعبي ونظام البيع والشراء والمزاد اليومي للحصول على البضائع، ويقدم الفيلم قبل النهاية صورة سينمائية توثيقية لمعارك الفتوات في أربعينيات القرن العشرين.
الزوجة التانية
أما فيلم "الزوجة الثانية" فهو إنتاج عام 1967 مأخوذ عن قصة رائد الأدب الشعبي أحمد رشدي صالح وسيناريو محمد مصطفى سامي وسعد الدين وهبة وصلاح أبو سيف وبطولة سعاد حسني وشكري سرحان وسناء جميل وصلاح منصور.. يحكي الفيلم عن رغبة عمدة إحدى القرى في الريف قبل ثورة 1952 في إنجاب ابن يورثه ويحمل اسمه، فيطمع في خادمته فيجبر عامله على تطليقها ويتزوجها جبرا، من خلال تهديده بتلفيق تهمة له، ولكنها تستخدم الحيلة في إبعاده عنها وتستمر علاقتها بزوجها، وينتهى الفيلم بإصابة العمدة بالشلل عند علمه بحملها ويموت، فتعيد الزوجة الحقوق لأصحابها.
يستخدم صلاح أبو سيف المأثورات الشعبية في بداية أحداث الفيلم عندما يحكي الراوي شفيق نور الدين للمشاهد وكأنه يجلس أمام "صندوق الدنيا".. وبكلمات صلاح جاهين يبدأ تقديم أبطال القصة والشخصيات التي سوف نشاهدها على الشاشة مثل العمدة عتمان وزوجته العاقر الست حفيظة والفلاحة الجميلة فاطمة وزوجها الفلاح الغلبان أبو العلا وهكذا.
وفي الفيلم نشاهد مظاهر كثيرة للحياة في الريف في تلك الفترة التاريخية منها الطب الشعبي وعلاج حلاق الصحة للفلاحين الفقراء وتظهر هشاشة علاجه عند انتشار وباء الكوليرا ثم الملاريا وغيرها من الأمراض الخطيرة التي كانت تحصد أرواح الآلاف.. ويظهر الفيلم أيضا إحدى وسائل علاج العقم وفك المشاهرة عند الفلاحات في ذلك الزمن حيث تنام الفلاحة بجوار قضبان قطار السكة الحديد ويؤدي الفزع والخوف الشديد إلى زيادة فرص الفلاحة في الحمل.. كذلك تقوم زوجة العمدة الست حفيظة بعمل الرقوة الشعبية والتبخير لفك العكوسات، ويصور الفيلم أيضا احتفالية سبوع المولود بعد إنجاب فاطمة لطفلها وهي من أشهر مظاهر الاحتفال بالمولود الجديد في البيئة الشعبية أو في الريف، وفي أحد مشاهد الفيلم تظهر شخصية الأراجوز وزوجته التي تتحداه وتقول إنه لا أحد يستطيع أن يغلب المرأة، وبعد فقرة الأراجوز تقرر فاطمة الموافقة على الزواج من العمدة وهي تبيت النية على الانتقام منه بطريقتها الخاصة.. وفي الفيلم تقوم فاطمة بزيارة أضرحة أولياء الله الصالحين وتتبرك بها وهناك تعلم أن زواج الإكراه في الإسلام غير صحيح ولا يعتبر زواجا.
ويقدم أبو سيف مشاهد الاحتفال بفرح العمدة والصباحية وعندما يتحطم كبرياء العمدة بعد زواجه يسير في طرقات القرية وقت خسوف القمر وهو في المعتقد الشعبي علامة على الشر القادم وبالتالي يظل الأطفال يقرعون على الصفيح حتى يعود القمر إلى حالته الطبيعية.
السقا مات
وأخيرا نأتي إلى فيلم "السقا مات" وهو من إنتاج سنة 1977، ويتناول الواقع المصري خلال عقد العشرينيات والثلاثنيات. مقتبس من قصة بنفس الاسم ليوسف السباعي وسيناريو وحوار محسن زايد، ومن بطولة عزت العلايلي، وفريد شوقي، وشويكار، وأمينة رزق، وتحية كاريوكا، وناهد جبر.
تدور الأحداث في حي الحسينية حوالي عام 1921. المعلم شوشة السقا الذي يخاف من الموت خوفًا شديدًا لأنه بالنسبة له يسلب الأحبة، وقد أخذ منه زوجته، ويحاول "شوشة" أن يخلق نوعا من العلاقة بين ابنه وبين شجرة التمر حنة وهي الشجرة التي تذكره دائما بزوجته الراحلة، كما يحاول إعداده ليحصل على المكانة التي لم يستطع الحصول عليها طيلة حياته حيث يصبح المسئول عن صنبور المياه. ويتقابل شوشة مع شحاتة أفندي الذي يعلم فيما بعد أنه مطيباتي يسير امام تابوت الموتى في الجنازات فيتشائم منه ويموت شحاتة ليحزن عليه شوشة حزنًا شديدًا.
ويشير د.عبداللطيف إلى مظاهر الحياة في الأحياء الشعبية في عشرينيات القرن الماضي وكيف كانت مهنة "السقا" في تلك الفترة حيث توجد حنفية فى مدخل الحارة بالإضافة إلى مرور السقا لملئ الأواني داخل البيوت.. ويقدم الفيلم صورة واقعية لملابس السقا وأدواته ويستعرض غرف منزل السقا والجدة آمنة -أمينة رزق- وعلاقة السقا بابنه الوحيد "سيد" وقد جعله يذهب إلى "الكتاب" ليتعلم القراءة والكتابة ويحفظ بعض آيات القران الكريم.. وفي أحداث الفيلم نتعرف على المقهى الشعبي والمسمط والعطار ومكوجي الرجل والحمام الشعبي والفرح البلدي، بالإضافة إلى حديث الفيلم عن ظاهرة التشاؤم من الذين يعملون في مهن تتعلق بالموت مثل الحانوتي والمطيباتي والندابة وما زال التشاؤم من الظواهر الموجودة عند المصريين خاصة في الأحياء الشعبية.
وهكذا قدمت السينما المصرية صورة واقعية لأدق خصائص المجتمع المصري، سواء في الريف أو في المدينة من خلال المأثورات الشعبية والعادات والتقاليد التي عاشت لقرون من الزمن تتوارثها أجيال من المصريين.