‹شلومو ساند› (Shlomo Sand) مفكر اشتراكي إسرائيلي، وأستاذ فخري للتاريخ بجامعة تل أبيب. ولد بمدينة ‹لينز› (Linz) الواقعة على ضفاف نهر الدانوب شمال النمسا، لأبوين يهوديين بولنديين، ينتميان إلى ثقافة يهود أوروبا الشرقية ‹اليديشية› في 10 سبتمبر 1946م، أمضى جزءا من طفولته داخل مخيم للنازحين بالقرب من مدينة ميونيخ الألمانية، ثم انتقل برفقة أبويه إلى مدينة يافا، عام 1948م، تلقى تعليمه الأساسي بها، حت تم تجنيده بالجيش الإسرائيلي، عام ١٩٦٥م، فشارك جنديا في معارك القدس، أثناء حرب الأيام الستة 1967م، واستولت وحدته على منطقة ‹أبو طور› بالقدس الشرقية، وشاهد أيضا قتل، بل وشارك في تعذيب الفلسطينيين الذين كانوا يحاولون العودة إلى منازلهم بأريحا.
وبعد انتهاء الحرب، انضم شلومو ساند إلى منظمة ‹ماتزبين› (Matzpen) الأكثر تطرفًا ومعاداة للصهيونية، عام 1968م، ولكن سرعان ما تركها عام 1970م، وانخرط في استكمال دراسته؛ حتى تخرج في قسم التاريخ بجامعة تل أبيب، عام 1975م، ولكن عازمًا على ‹التخلي عن كل شيء› إسرائيلي. وحصل على منحة دراسية في باريس، عام 1975م، حيث نال الماجستير في التاريخ الفرنسي، والدكتوراه عن أطروحته عن ‹جورج سوريل والماركسية› ومن ثم أصبح عضو هيئة تدريس بجامعة تل أبيب، ومدرسا بجامعة كاليفورنيا، ومدرسة الدراسات العليا للعلوم الاجتماعية بباريس.
وينتمي شلومو ساند فكريا إلى حركة ما بعد الصهيونية (post-Zionist) التي عرفها الدكتور ‹عبد الوهاب المسيري› في موسوعته ‹اليهود واليهودية والصهيونية› بأنها مصطلح يشير لانحسار الأيديولوجية الصهيونية، ودخول التجمُّع الصهيوني عصر ما بعد الأيديولوجيات. ولعوامل كثيرة، سوف تتضح للقارئ بين ثنايا هذا الموضوع، تخلى ساند عن هويته اليهودية، دون تخليه عن دعم وجود إسرائيل؛ ‹ليس للحق التاريخي› بل ‹لحقيقة وجودها اليوم› وذلك لإيمانه ‹أن العلاقة الدينية بالأرض لا تمنحك الحق التاريخي›. ولهذا فإنه عبر بكل وضوح أنه شخصيا لا يسمي نفسه صهيونيًا، بل ‹ما بعد صهيوني› وليؤكد أنه ‹غير صهيوني› وأن إسرائيل لم تغتصب شعبًا فحسب، بل دمّرت مجتمعه بتأسيس دولة إسرائيل.
وقد طرح شلومو ساند عددا من التساؤلات التي أثارت جدلا واسعا في الأوساط الفكرية والدينية داخل إسرائيل وخارجها، وهي تساؤلات نقدية، تسهم في فهم سبب تخليه عن هويته اليهودية. واتجاهه إلى تفكيك الأساطير والخرافات والسرديات المعرفية التي روجت لها الصهيونية بزعم وجود شعب يهودي، وقومية يهودية ذات امتداد تاريخي، بل وحولت كل الأساطير القديمة والروايات المختلقة إلى ما يمكن أن نسميه العلوم الزائفة. التي حاول ساند تفنيدها وكشف زيفها وإبراز مغالطتها في العلم والتاريخ معاً. خاصة أنها زعمت زورا وبهتانا أن أصل اليهود واحد، بقدر ما كرست فكرة نقاء انتمائهم العرقي. ومن بين هذه التساؤلات التي طرحها ساند، ما يلي:
- هل إسرائيل دولة ديمقراطية؟
- هل كانت الإبادة الجماعية النازية مأساة يهودية فريدة من نوعها؟
- هل الأمة اليهودية موجودة؟ وهل يمكن اعتبارها ‹أمة› فعلاً؟
- هل يُعقل اليوم أن يُشجع أي عربي على الاستقرار في شبه الجزيرة الإيبيرية؛ لإقامة دولة هناك، لمجرد أن أسلافه المسلمين طُردوا منها في الماضي؟
- هل يوجد عاقل يطالب سكان أمريكا الأصليين بالاستيلاء على مانهاتن، وطرد سكانها الحاليين من البيض والسود والآسيويين واللاتينيين؟
ولأن شلومو ساند طرح تساؤلات ذات نسق فكري وتفكير نقديّ قائم على الشكّ المنهجيّ، أو التفكير النقديّ الذي يمنح الفكرة فرصة لمعرفة الحقائق المجردة، والوصول إليها؛ فإنه تبنى مشروعا فكريا أثار وجدلاً واسعا ونقاشات حادة في جميع أنحاء العالم، خاصة أن مقولاته الفكرية فككت الصهيونية وأساطيرها القومية ومقولاتها الزائفة. وطرحت مدركا جديدا للصهيونية، مفاده أن كل ما اختلقته من روايات وأساطير تاريخية متعلقة بالأرض الموعودة، والممزوج بالأيديولوجية القومية، والتي عززتها بدراسات جينية تدعي أن اليهود أمة متصلة بيولوجيًا وتاريخيًا، ما هي إلا علوم زائفة.
وقد وضع شلومو ساند هذه المقولات الفكرية بين دفتي ثلاث دراسات نقدية، أو إن شئت قل أعمال فكرية، تضارع أعمال منظرين آخرين كبار من أمثال ‹بنديكت أندرسون› (Benedict Anderson) الذي صوّر الأمم على أنها ‹مجتمعات متخيلة› والفيلسوف الفرنسي ‹ميشيل فوكو› (Michel Foucault)) الذي حلل كيف يُشكّل الخطاب المعرفة والهوية ويتحكم فيهما. وذلك لأن ساند وظّف هذه الأدوات النظرية لتحليل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، ليخلص إلى أن ‹الشعب اليهودي› حديث التكوين ليس كيانًا قديمًا، بل إنه نتاج لخطاب قومي، وأساطير مختلقة، بل وضرورة سياسية. وبالتالي نجد ساند ينتقد بشكل خاص المفهوم الجوهري للهوية اليهودية باعتبارها متميزة بيولوجيًا أو عرقيًا. وهو نقد بالغ الأهمية في حقيقة الأمر؛ لأنه تحدى المنطق العنصري التقليدي للصهيونية، الذي يبرر تاريخيًا قيام الدولة اليهودية على أساس الدم والنسب المشترك. وبناء عليه دعا ساند إلى إعادة تعريف للهوية قائم على الحقوق والمؤسسات والمبادئ الأخلاقية المشتركة، وهو تعريف تناهضه الصهيونية بشكل ممنهج
وحقيقة الأمر أن هذه الأطروحات الاستفزازية أكسبت شلومو ساند إعجاب الأوساط المناهضة للصهيونية وما بعد الصهيونية، وكذلك الباحثين الذين ينتقدون القومية الإثنية عموماً. خاصة أن نقده للصهيونية، لم يكن من منطلق التدين أو الولاء لجماعة بعينها، بل إنه جاء ضمن إطار فكري علماني وإنساني ويساري. وبعبارة أخرى لم يكن رفضه للصهيونية رفضاً للهوية اليهودية في حد ذاتها، بقدر ما هي دعوة منه لإصلاحها على نحو يجعلها تتجاوز الحدود العرقية والقومية. وهو اتجاه فكري ينتمي إليه أيضا مفكرون يهود كبار، من أمثال الفيلسوف الأمريكي نعوم تشومسكي (Avram Noam Chomsky) والباحثة والمنظرة السياسية اليهودية ‹حنة أرندت› (Hannah Arendt) والفيلسوف اليهودي النمساوي ‹مارتن بوبر› (Martin Buber)
الثلاثية الجريئة
أصدر شلومو ساند ثلاثيته ذات أهمية شديدة في بابها، بهدف تعزيز الديمقراطية في إسرائيل وجعلها جمهورية ديمقراطية حقيقية. مبررا ذلك بأنه حتى يومنا هذا، لا يزال مؤسسو إسرائيل والمشرعون ينظرون إليها، باعتباره ملكية مشاعة لجميع اليهود في العالم، ‹بدلاً من كونه أعلى مؤسسة ديمقراطية لسكانها المحليين› حتى أنه كان قلقًا بشأن ما إذا كانت إسرائيل قادرة على البقاء كدولة لفترة طويلة.
خاصة أن نسبة غير اليهود فيها تصل إلى 25 بالمائة. وهذا ما يعد لأي بلد، أمر خطيرًا للغاية، لا سيما عندما تتعرض هذه النسبة للتمييز بدرجات متفاوتة، مثلما يحدث في إسرائيل.
وقد أكد ساند أنه ليس لديه أي نية لتقويض دولة إسرائيل، لكن المزاج العنصري المتفاقم لدى اليهودي في إسرائيل جعله ‹يشعر وكأنه منفي›. وما يأمل أن يراه هو أن تتمكن إسرائيل من منح حقوق متساوية لجميع مواطنيها، سواء كانوا فلسطينيين أو أبناء المهاجرين المسيحيين الأفارقة، وأن يتم التسامح معهم واحترامهم على قدم المساواة.
الجزء الأول: اختراع الشعب اليهودي: هو أشهر أجزاء الثلاثية، صدر باللغة العبرية، عام 2008م، بعنوان ‹متى وكيف اخترع الشعب اليهودي؟ › وترجم إلى عشرات اللغات، منها الإنجليزية فنشر بعنوان (The Invention of the Jewish People) أي اختراع الشعب اليهودي، الذي انتقد فيه الدراسات الجينية، التي روجت فكرة تعريف ‹الأمة› اليهودية على أساس جينية، مستخدما نظرية القومية الحديثة لتتبع وتحليل ما يسمى بالتاريخ ‹القومي› لليهود. وذلك في إطار إعادة قراءته الجذرية للتاريخ اليهودي. فقال إن المفهوم الحديث لـ ‹الشعب اليهودي› كأمة متصلة بيولوجيًا وتاريخيًا، مجرد اختراع ظهر في القرن التاسع عشر، بُني لخدمة أغراض القومية الحديثة. ولهذا استولت الصهيونية على سرديات توراتية ودمجتها مع أفكار عرقية عن الهوية الوطنية لتبرير ادعائها بأن اليهود شعبٌ واحدٌ ذو صلة فريدة وأبدية بأرض فلسطين.
كما قوض الروايات التاريخية المختلقة التي روجت لها الحركة الصهيونية بشكل جوهري والتي زعمت بوجود ارتباط يهودي وثيق ومتواصل بالأرض التي اغتصبوها، متحديا الفرضية السائدة بين الصهاينة بأن اليهود نُفوا من يهودا القديمة على يد الرومان عام 70 ميلاديًا، وتشتتوا في جميع أنحاء العالم، في انتظار العودة إلى صهيون. استنادا إلى وجود أدلةً منطقية على العديد من المجتمعات اليهودية الموجودة في أوروبا الشرقية وشمال إفريقيا، تنحدر من سكانها الأصليين، ولا ينحدرون من العبرانيين القدماء.
وقال إن تاريخ اليهود القديم، ومعاناة الأمة اليهودية هو في جوهره تاريخ اختلقته الصهيونية، فاليهود لم يجمعهم سوى القليل. كما لم يكن لهم أصل ‹عرقي› مشترك؛ نظرًا لارتفاع معدل اعتناق لليهودية في العصور القديمة. ولم تكن لديهم ثقافة دنيوية يومية مشتركة، ولم يأكلوا نفس الطعام، ولم تكن لديهم لغة مشتركة، إذ لم تكن العبرية تُستخدم إلا للصلاة، ولم تكن حتى مستخدمة زمن المسيح. أما اليديشية، فكانت، على الأكثر، لغة اليهود ‹الأشكناز› فما الذي تبقى ليوحدهم إذًا؟ أهو الدين؟ لكن الدين لا يصنع شعبًا، ومعظم اليهود ليسوا متدينين. صهاينة؟ علاوة على أن غالبية اليهود، لا ينوون العودة إلى الأرض المقدسة، مفضلين البقاء في مواطنهم. والغريب أن اليهود، قبل هيتلر، كانوا يعارضون الصهيونية، وأن مفهوم ‹أرض إسرائيل ‹لم يكن يتعلق بوطن مادي، بل بوطن روحاني.
وأكد شلومو ساند على أن ‹الشعب اليهودي› ما هو إلا مفهوم سياسي اختلقته الصهيونية، ولهذا فإنه اتهمها بارتكاب جريمة معرفية، بتزييفها التاريخ خدمة لمشروعها الاستعماري الاستيطاني. بل إن تزييفها الأيديولوجي للهوية الوطنية لليهود أصبح أداةً للقمع والاضطهاد.
ورفضا لما ذهب إليه شلومو ساند، في كتابه اختراع الشعب اليهودي، بأن اليهود نشأوا جرّاء تحولات دينية متعددة، وبين مجتمعات مختلفة، قال الكاتب والأكاديمي الأمريكي ‹جوشوا فيشمان› (Joshua Fishman) إن ذلك يتناقض تماما مع ما ذهب إليه الدكتور ‹هاري أوستر› (Harry Oster) بأن ‹اليهود البعيدين جغرافيًا وثقافيًا لا تزال لديهم جينات مشتركة› وأن هذه الجينات من أصل بلاد الشام، بما في ذلك المنطقة التي تقع فيها إسرائيل حاليا.
الجزء الثاني: اختراع أرض إسرائيل: صدر بالعبرية، عام ٢٠٠٩، وترجم هو الآخر إلى الإنجليزية، عام 2012م، بعنوان (The Invention of the Land of Israel) الذي انتقد فيه ساند بضراوة أسطورة القومية الدينية التي تُشكل جزءًا أساسيًا من الرواية الصهيونية للدولة اليهودية. وذلك عبر تحليله الدقيق للأساطير التاريخية، ليقدم بذلك تحديًا قويًا للأسس الأيديولوجية للدولة الإسرائيلية. يُذكّرنا عمله بأن التاريخ ليس مجرد سجلّ للماضي، بل ساحة معركة للحاضر والمستقبل. فقد ركز ساند اهتمامه في هذا الجزء على البناء اللاهوتي والسياسي للقومية اليهودية. وانتقد أيضا مفهوم أرض إسرائيل الموعودة، الممزوج بالأيديولوجية القومية، والمقدس في الخطاب الصهيوني. وكيف استُخدمت الصهيونية هذه السرديات لإضفاء الشرعية على التوسع الإقليمي وتهجير الفلسطينيين على نحو يُشكل أساسًا خطيرًا لإدارة شؤون الدولة الإسرائيلية في المستقبل خاصة في ظل ميلها إلى تحويل النزاعات السياسية إلى معارك ميتافيزيقية واستحضار الأساطير الدينية القومية؛ لتبرير جرائم الصهيونية مثل التطهير العرقي والاحتلال العسكري وممارسات الفصل العنصر وطرد الفلسطينيين من أراضيهم، عام 1948م، ومواصلة احتلال الضفة الغربية، وحصار غزة، حتى اليوم.
وبناء عليه، أصبح شلومو ساند يرى إسرائيل واحدةً من أكثر المجتمعات عنصريةً في العالم، ولهذا أعلن تخليه عن هويته اليهودية، وأنه لن يعيش إلا كإسرائيلي، وذلك لأنه لم يستطع أن يتحمل خصائص ‹الجنسية› اليهودية التي فرضتها عليه إسرائيل، والأجواء العنصرية اليهودية المتفاقمة فيها. كما أنه عارض حل الدولة الواحدة لأنه، وإن كان يحظى بشعبية كبيرة في الأوساط اليسارية الإسرائيلية، إلا أنه ‹غير جدي› ولذلك، فهو يدعم "حل الدولتين على حدود عام ١٩٦٧م، مع إخلاء معظم المستوطنين، لإيمانه بأنه لن يمثل مشكلة كبيرة. وقد امتد موقف شلومو ساند من تشكيل هوية وطنية ليشمل الفلسطينيين، الذين لم يكن لهم وجود، في رأيه، كشعب قبل ظهور الصهيونية
الجزء الثالث: كيف توقفت عن كوني يهوديًا؟: أصدره شلومو ساند، عام ٢٠١٣م، وترجم في العام التالي إلى الإنجليزية بعنوان (How I Stopped Being a Jew) الذي عالج فيه مسألة الهوية اليهودية والتمييز بين أن تكون يهوديًا، وأن تكون إسرائيليًا. كما تناول مسألة هوية إسرائيل، مع التركيز على علاقة الدولة، كـ ‹دولة يهودية› باليهود حول العالم، وبمواطنيها غير اليهود. ومن ثم أعرب عن رغبته في الانفصال عما يراه ‹مركزية يهودية قبلية› خاضعة ‹لنزوات سحرة القبيلة› مُعربًا عن تعلقه العميق باللغة العبرية وبالقيم العلمانية لإسرائيل.
وكشف عما يراه من إخفاقات أيديولوجية وسياسية وأخلاقية للمشروع الصهيوني. ولذلك لم يقتصر نقده على التشوهات التاريخية المضمنة في التأريخ الصهيوني فحسب، بل انتقد أيضًا الظلم المنهجي الذي ارتكبته الدولة الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني. وأشار إلى أن إسرائيل، من أجل تحقيق الاستراتيجية الجديدة للصهيونية و ‹تجميع الهيبة ورأس المال الاقتصادي› في العالم، بدأت تمجد معاناة اليهود في الماضي، معتبرة إياها ‹أعظم تضحية قدمها اليهود› في جميع أنحاء العالم، أصبح أحفاد الناجين اليهود، واليهود الذين لم يشهدوا الهولوكوست أعضاء في معسكر ضحايا النازية والمنددين بفظائع النازية.
أهم مقولات الثلاثية
تقوم مقولات شلومو ساند الفكرية، في ثلاثيته المثيرة للجدل، على نقد الصهيونية؛ استنادا إلى رؤية قومية مدنية وحقوقية، داعية إلى نظام سياسي ثنائي القومية، أو ما بعد قومي، يعترف بالحقوق المتساوية لجميع سكان إسرائيل وفلسطين، بغض النظر عن عرقهم أو دينهم. وبهذا، فإنه قوض النموذجين الصهيوني والقومي الفلسطيني السائدين، ساعيًا إلى مستقبل قائم على التعايش والعدالة. كما يقوم نقده للصهيونية أيضا على تقديم فهم علماني مادي للتاريخ، متأثرا بالتأريخ الماركسي والنظرية النقدية الفرنسية. ومن ثم فإنه لم يتحد الأساطير القومية التي روجتها الصهيونية فحسب، بل تحدى أيضًا الفرضيات المنهجية للتأريخ اليهودي التقليدي. وصولا إلى تأريخ الهوية، وخاصةً الهوية الدينية والقومية، الموجودة في إسرائيل اليوم حولتها إلى دولة ‹إثنوقراطية› ذات فصل عنصري، وتقمع المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل، وفرضت ظروفا مشابهة لهذا الفصل العنصري في الضفة الغربية، وقطاع غزة وانتهجت مزيدا من العنف ضدهم؛ استنادا إلى العقائد المتجذر في الأيديولوجية الصهيونية.
إضافة إلى التأكيد على أن الصهيونية مشروع استعماري استيطاني ألحق ظلمًا فادحًا بالشعب الفلسطيني، لأنها في جوهرها أيديولوجية عرقية مركزية، إقصائية، تتناقض مع المبادئ الديمقراطية والعالمية لليبرالية الحديثة. وأنها تعد ضمن المشاريع الاستعمارية الأخرى، التي ظهرت خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، مقارنًا إياها بالجزائر الفرنسية، وجنوب إفريقيا في ظل نظام الفصل العنصري، والاستعمار البريطاني في الهند. ناهيك عن أن جرائم هذه الصهيونية ليست جرائم عرضية أو وليدة المصادفة، بل هي منهجية. تنبع من أيديولوجية سياسية تسعى إلى بناء دولة حصرية عرقيًا على أرض يسكنها بالفعل شعب آخر. تشمل هذه الجرائم التطهير العرقي، الذي حدث منذ عام ١٩٤٨م، والاحتلال العسكري، منذ عام ١٩٦٧م، وبناء المستوطنات على الأراضي الفلسطينية، وحرمان ملايين الفلسطينيين من الحقوق الأساسية، حتى اليوم. وفي هذا الإطار، عارض شلومو ساند قانون حق العودة الإسرائيلي الذي يمنح الجنسية تلقائيًا لليهود الذين يهاجرون إلى إسرائيل من أي مكان في العالم، ينما ينكر هذا القانون حق العودة للاجئين الفلسطينيين الذين طُردوا من ديارهم، عام ١٩٤٨م.
وقبل أن نختتم هذه الإطالة على ثلاثية شلومو ساند الفكرية الشجاعة، يتعين علينا أن نشير أيضا إلى أن الدكتور صالح عبد الجواد أستاذ العلوم السياسية والمؤرخ الفلسطيني المعروف ذكر في تحليل رصين نشره بمجلة السياسة الفلسطينية بعنوان: ‹المؤرخون الجدد خطوة استكمالية للمشروع الصهيوني أم خطوة أولى باتجاه تسوية الصراع؟ › أن ظهور هذا الاتجاه النقدي للصهيونية ولسردياتها الزائفة، يمكن التعامل مع أصحاب مثل هذه الأطروحات على ثلاثة مواقف:
الموقف الأول: أنه إنتاج غير متوازن تاريخياً، لكن يمكن الاستفادة منه سياسياً، وباعتبار أن أهميته ناجمة عن تأكيده على ما قاله الفلسطينيون.
الموقف الثاني: يعدون مجرد محاولة للخروج من المأزق الأخلاقي لإسرائيل، ويرى البعض أن أعمالهم هي أزمة ضمير الأكاديميين على ما اقترفه آباؤهم بحق الفلسطينيين، وأن هذه الاعترافات تأتي كعملية غسل لتاريخ دولة إسرائيل الملوث.
الموقف الثالث: أن هذه الأعمال تعد جزءاً من الدعاية الرسمية الإسرائيلية، وأن أهميتها تأتي من كونها أكثر تعقيداً وتتخفى خلف مظاهر كاذبة من الأساليب الأكاديمية، وأن أعمالهم ما هي إلا استكمال للمشروع الصهيوني.