أكد مفتي الجمهورية الدكتور نظير عياد، أن لعلماء الإسلام إرثًا دينيًّا حضاريًّا متميّزًا، يمكّنهم من المشاركة الفاعلة في إرشاد المجتمعات؛ للحفاظ على البيئة، والتعامل الرّشيد مع الثّروات الطبيعيّة.
جاء ذلك في كلمة مفتي الجمهورية في الجلسة الافتتاحية للنسخة الثالثة من المؤتمر الدولي للمناخ و البيئة الذي انطلق اليوم بمقر الجامعة العربية تحت رعاية مجلس الوزراء والأمانة العامة للجامعة وبحضور الدكتور محمد أيمن عاشور وزير التعليم العالي والبحث العلمي ووزير الأوقاف الدكتور أسامة الأزهري.
وقال الدكتور نظير عياد إنّ هذا المؤتمر الذي تعقده جامعة النيل بالتعاون مع مؤسسة «مهندسون من أجل مصر المستدامة»؛ ليمثّل أهميةً كبرى في إطار اهتمام الدولة المصريّة بمجالات البحث العلميّ، خاصةً ما يتعلق بعلوم المناخ والبيئة وقضايا الفلك والفضاء، كما أنّ ما تناقشه محاور هذا المؤتمر وجلساته التّي تدور حول التحديات المناخيّة المتجدّدة والفرص المتاحة لإحلالها بما ينعكس على معدّلات التنمية، يؤكد أنّ الدولة المصريّة تسير نحو تطوّر مهمّ يسعى لاستثمار كلّ مواردها الطبيعيّة وإمكاناتها في خدمة المجتمع وتلبية احتياجاته.
وأضاف "من منّا لا ينتابه شعور الأسى والحزن الشديد يرافقه اندهاش كبير عندما يسمع عن اختفاء أنهار أو بحار، فتتحوّل تلك البقاع الزّرقاء، التّي كانت تزخر بالحياة، وتقوم على ضفافها الحضارات، إلى صحراء قاحلة، تتناثر فيها السّفن على الرّمال، في مشهد مخيف، يشعرك وكأنّك تقف على عتبة نهاية العالم".
وقال الدكتور نظير عياد إن الغريب أنّه بالرّغم من كلّ هذه الكوارث البيئيّة، التّي تسبّب بها الإنسان، إلّا أنّه ما زال مستمرًا في تدمير عالمه بيده، وكأنّه لا يكفي أن يرى بيته وهو ينهار على رأسه؛ كي يتوقّف عن تدمير أعمدة وأركان هذا البيت.
واستدرك قائلا " إنه رغم الكوارث البيئيّة المفزعة، التّي يشهدها العالم، جرّاء التّغيّر المناخيّ، إلّا أنّ بارقة أمل لاحت في الأفق؛ بإمكانيّة تدارك هذا الخطر، عندما رأينا حراكًا عالميًّا، بدا قويًّا وصادقًا، ينادي بوقف الممارسات التّي تتسبّب في التغيّرات الكارثيّة للمناخ، ورأينا ذلك الحراك يتبلور بوضوح خلال قمّة الأرض في «ريو دي جانيرو» في البرازيل، ثمّ «بروتوكول كيوتو»، وصولا إلى اتّفاق باريس للمناخ، ومؤتمر الأمم المتحدة السابع والعشرين للتّغير المناخيّ (COP27) الذي عقد في مدينة شرم الشيخ سنة 2022م.
وأضاف لقد شعرنا أنّ دول العالم -خاصّةً الكبرى منها- بدأت تشعر بمسؤوليّتها، ولاسيّما أنّها المتسبّبة الأولى في هذا التّغيير؛ لكونها المصدر الأكبر لانبعاث الغازات الدفيئة، إلّا أنّ آمالنا اصطدمت بالأنانيّة الماديّة البشعة، التّي طالما كانت سببًا في شقاء العالم وأحزانه، وفوجئنا بإعلان دول صناعيّة كبرى انسحابها من الاتفاق، وهو ما يجعل مستقبل البشريّة كلّها رهينة الحسابات الاقتصاديّة الضّيّقة لتلك الدّول.
وقال مفتي الجمهورية إنه رغم إدراكنا أنّ المسؤوليّة الأساسيّة تتحمّلها تلك الدّول الكبرى، التّي تتسبّب ممارساتها الجائرة بحقّ الطّبيعة في تدمير التّوازن البيئيّ، إلّا أنّنا على الجانب الآخر نؤمن –أيضًا- بالمسؤوليّة التضامنيّة بين كلّ البشر؛ لحماية كوكب الأرض، ونؤمن بأهمية وعي المجتمعات الإنسانيّة في الحفاظ على البيئة، ولما لرجال الدّين من تأثير كبير في مجتمعاتهم، تقع عليهم مسؤولية كبيرة في توجيه السّلوك الإنسانيّ نحو التصدّي للأخطار البيئيّة المحدقة بعالمنا.
وأشار إلى أنّ الفكر الدينيّ حينما يهتمّ بقضية (التغيّرات المناخيّة)، فإنّما ينطلق من مبدأ سام، ورسالة إلهيّة، تظهر واضحةً جليّةً في قول الله تبارك وتعالى: ﱩهو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها ﱨ [هود: 61]. فالأمر بعمارة الأرض والنّهي عن الإفساد فيها جزء من الرسالة الإلهيّة التّي حملها الأنبياء إلى أقوامهم، وأمر الله بها جميع خلقه: " ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها" [الأعراف: 56]. أي: بعد أن أصلحها الله لنا بميزان دقيق، وضبط محكم!.
وقال مفتي الجمهورية إنّ لعلماء الإسلام إرثًا دينيًّا حضاريًّا متميّزًا، يمكّنهم من المشاركة الفاعلة في إرشاد المجتمعات؛ للحفاظ على البيئة، والتعامل الرّشيد مع الثّروات الطبيعيّة، فالدّين الإسلاميّ اعتبر الإنسان مستخلفًا في الأرض، ومطالبًا بعمارتها والاعتناء بها، وفي المقابل حذّر من إفسادها، أو تهديد استقرار الحياة على سطحها، حيث حذّر المولى -تعالى- أشدّ التّحذير من ذلك.
وأشار الدكتور نظير عياد إلى أن الإسلام قد سبق الحضارات الحديثة في العناية بالبيئة، والارتقاء بها، وحمايتها من الفساد والتّلوّث، وذلك بوضع تشريعات خاصّة وضوابط محكمة تدور حول العمارة والتّثمير، والتّشجير والتّخضير، والنّظافة والتّطهير، وغير ذلك من آليات تتجاوز حدّ المحافظة على البيئة إلى الإحسان إليها، واستثمار مواردها بما لا يضرّ بالتّوازن الطّبيعيّ.
وقال إن من تأمّل هذه التّشريعات والأوامر والنّواهي التّي تعنى بالبيئة يرى أنّها تنتظم في سياق لا يجعل العلاقة بين الإنسان والكون علاقة مسيطر بمسيطر عليه، أو علاقة مالك بمملوك، وإنّما هي علاقة أمين بما استؤمن عليه.
ولفت إلى أنّ تلك الأحكام الإسلاميّة المتعلّقة برعاية البيئة وإصلاحها وحمايتها لم تكن مجرّد قواعد أو تشريعات وضعيّة، بحيث يمكن قبولها أو رفضها، وإنّما جاءت أوامر إلهيّةً، وتوجيهات ربانيّةً توجب على المسلمين –وعلى العقلاء من سواهم- أن ينفّذوها بما يقتضيه إيمانهم، وما توجبه عقولهم.
وقال إنه إذا كان وصف الإيمان من أنفس ما يحرص عليه إنسان، فإنّ الإيمان لا يكون بالتّمنّي ولا بالادّعاء، ولكن بما وقر في القلب وصدّقه العمل، ويكفي أن نفهم أنّ الصّالحات التي تقترن بالإيمان في كثير من آي القرآن تتجاوز الصّلاة والصّيام والزّكاة والحجّ، حتّى تشمل عمل ما يصلح الكون كلّه، قال تعالى: «إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملًا».
وأكد الدكتور نظير عياد أن التّحديات الّتي تواجهها الكرة الأرضيّة اليوم توجب على البشريّة جميعًا دون النّظر لعقائدهم الدّينيّة، العمل معًا من أجل حماية الكوكب.
وقال إنّ أحد الأدوات المعاصرة الّتي يمكن أن تستثمر في المحافظة على البيئة هذه الإمكانيّات التّكنولوجيّة الّتي قفزت قفزات نوعيّةً في مضمار الذّكاء الاصطناعيّ، والّتي يمكنها أن تزوّدنا بمعلومات تعين على التّدخّل المناسب بشكل أسرع وأكثر دقّةً من الوسائل التّقليدية في ظواهر تهدّد الحياة.
وأردف قائلا "إنّنا جميعًا مؤتمنون على هذه الأرض الّتي نحيا عليها، ومن الواجب أن نتكاتف في رعاية هذا الكوكب، بكلّ ما أوتينا من فكر وأدوات".
وقال الدكتور نظير عياد إنّ الاجتماع حول صيغ واحدة كالاتّفاقيّات أو المعاهدات أو الوثائق الدّوليّة الملزمة ضرورة لا تمنعها أيّ اعتبارات زمانيّة أو مكانيّة أو بشريّة.
وأضاف إنّ من الوعي أن نستثمر التّقدّم التّكنولوجيّ في مجال حماية البيئة ومكوّناتها، وبمقدور هذه التّطبيقات إن أحسنّا استخدامها أن تحدث تحوّلًا جذريًّا في العديد من المعضلات الّتي كانت عصيةً على الحلّ حتّى وقت قريب.
وعرض بعض الأفكار الّتي يراها ضروريّةً في هذا السّياق: أوّلًا: غرس فكرة العناية بالبيئة والمحافظة عليها لدى النّاشئة من خلال المناهج والكتب الدّراسيّة والبرامج المختلفة.
ثانيًا: تكاتف جهود مؤسّسات المجتمع المختلفة، بدءًا بالأسرة ومرورًا بالمؤسّسات التّعليميّة والدّعويّة والتّثقيفيّة؛ للقيام بدورها التّربويّ والتّوعويّ؛ فإنّ إصلاح البيئة يحتاج إلى إنسان صالح أوّلًا.
ثالثًا: مناشدة الدّول وحثّ الحكومات على سنّ القوانين والتّشريعات الّتي تردع ملوثي البيئة بعقوبة مانعة، وعلى ملء الفراغ التّشريعيّ في بعض البلدان.
رابعًا: تبادل المعلومات بين الدّول والمنظّمات الحكوميّة وغير الحكوميّة بشأن المشكلات البيئيّة بسرعة وبدقّة، بعيدًا عن الجوانب الإجرائيّة والشّكليّة، وذلك للانتفاع بها واستخدامها في مواجهة أي خطر يهدّد البيئة.
وقال مفتي الجمهورية أن الناظر لما يحدث في غزة يقف على حجم الاعتداءات المتعددة والمتنوعة والتي أفضت إلى فساد البيئة واضطراب عوامل المناخ، واختفاء لأدنى أسباب الحياة الكريمة التي تحمي البلاد والعباد، وتعمر الكون، وتحفظ بقاءه واستمراره.
وأضاف "لا غرابة في ذلك؛ لأن ما يحدث إنما صدر عن كيان متغطرس ومحتل؛ لا يرعى لله حرمة، ولا للإنسانية وقارًا، ولا للبيئة عناية واحترامًا، لكن الغرابة كل الغرابة في موقف العالم وصمته؛ بل وفي كثير من الأحيان في دعمه وتبرير فعله".