الثلاثاء 24 يونيو 2025

مقالات

محمد فريد.. قديس الدولة الوطنية

  • 24-6-2025 | 10:56
طباعة

ولد محمد أحمد فريد فى القاهرة، يوم الإثنين العشرين من يناير 1868، ليجد نفسه فى أسرة ثرية، فوالده أحمد باشا فريد ناظر الخاصة الملكية، ووالدته كريمة إبراهيم أفندى (شيخ بندر) التجار، وامتلكت هذه الأسرة القدرة على تعليم أولادها، رغم أمواج الجهل والأمية، التى تغرق أكثر من 90% من الشعب المصرى، وامتلك الفتى وعياً مبكراً، وحساً وطنياً راقياً، ولذلك بكى كثيرا، عندما رأى جنود الاحتلال الإنجليزى، يخترقون شوارع القاهرة لأول مرة فى عام 1882، وكان فى الرابعة عشرة من العمر، وراح يجتاز مراحل التعليم المختلفة، حتى حصل على شهادة مدرسة الحقوق فى عام 1887، ليعمل بقلم الدائرة السنية، حتى أصبح رئيسا لهذا القلم، ثم انتقل للعمل بسلك القضاء فى عام 1891، حيث عمل بالنيابة، حتى أصبح وكيل نيابة الاستئناف، وأقسم بتحرى العدل والحقيقة، فى كل القضايا التى تعرض عليه، وبرفض أى ظلم، بل يسعى بكل القوة لمواجهة هذا الظلم، مما أدى به إلى الاستقالة من سلك القضاء، بعد واحدة من تلك المواجهات، حيث نشر الشيخ على يوسف صاحب جريدة المؤيد، تقريراً عن انتشار الكوليرا، بين الجنود المصريين المشتركين فى حملة دنقلة بالسودان، فغضبت سلطة الاحتلال الإنجليزى، وقررت محاكمة على يوسف، وموظف التلغراف توفيق كيرلس، فأبدى محمد فريد تعاطفه الشديد مع المتهمين، فقرر الإنجليز إبعاده إلى الصعيد، فقرر تقديم استقالته على الفور، وذلك فى 23 نوفمبر 1896، وتقدم بأوراقه إلى نقابة المحامين فى 1897، ليصبح أول محامى من أبناء الطبقة العليا، ولكنه لم يخلص أبداً لمهنة المحاماة، حيث شغله النضال الوطنى ضد الإنجليز عن التفرغ لهذه المهنة الصعبة، فقرر اعتزالها فى عام 1905، وكان يعتمد فى مصروفاته الشخصية على بيع ممتلكاته من الأطيان والعقارات.

أصدر مصطفى كامل مجلة المدرسة عام 1893، فأعجب محمد فريد بوطنية وحماسة ذلك الشاب الصغير، والتقيا فى ذات العام، ثم التقيا مرة أخرى فى باريس عام 1895، قبل أن يلقى مصطفى كامل أول خطبه السياسية فى باريس، وتلاقت أفكار المناضلين الكبيرين، ورغم أن فريد الأكبر سنا والأكثر خبرة، إلا أنه تنازل عن القيادة للشاب الوطنى الجسور، الذى ملأ الدنيا حماسة وتنديداً بالاحتلال الإنجليزى، وراح المناضلان يخطبان فى كل مكان، ويثيران غضب المصريين ضد الاحتلال الإنجليزى، وكان مصطفى كامل رافضا للإنجليز، وموافقاً على أن تظل مصر تحت مظلة العثمانيين، بينما محمد فريد كان يرفض الاحتلالين معاً، واستمر نضالهما معاً إلى أن حدثت حادثة دنشواى فى 13 يونيه 1906.

وراح كامل وفريد يفضحان ممارسات الإنجليز البغيضة، حتى اضطر اللورد كرومر إلى تقديم استقالته فى عام 1907، فكتب فريد مقالا بعنوان (المطالبة بالحقوق، الفرق بيننا وبينهم)، واستقر رأى الصديقان على حتمية إنشاء حزب مصرى قوى، يتولى قيادة نضال المصريين، وفى تلك الأثناء اشتدت وطأة المرض على مصطفى كامل، فعمل محمد فريد على إعداد كل شىء لعقد المؤتمر الأول للحزب، وإعلان انطلاقه، وتم ذلك فى 27 ديسمبر 1907، ليظهر الحزب الوطنى، ويتم اختيار مصطفى كامل رئيساً للحزب بالاجماع، ولكن المرض لم يدع له أى فرصة لممارسة دوره الحزبى، حيث رحل فى يوم العاشر من فبراير 1908، وراح محمد فريد يستكمل بناء الحزب من القاعدة وحتى القمة، ويعمل على دعم وتقوية جريدة اللواء، الناطقة باسم الحزب، وتم اختياره فى الرابع عشر من نوفمبر 1908، رئيساً للحزب، بعد اجتماع حاشد تم فى بيته وحضره كل قيادات الحزب، وفور أن تولى قيادة الحزب، أعلن مطالب مصر الوطنية، وأهمها جلاء الاحتلال الإنجليزى، والعمل على اصدار دستور يحمى الحقوق المدنية للمصريين، وبادر بوضع صيغة موحدة لمشروع الدستور، وطبع منها عشرات الآلاف من النسخ، ودعا الشعب إلى توقيعها وإعادة أرسالها إليه، ليقدمها إلى الخديو عباس حلمى الثانى، ونجحت الحملة بشكل كبير بعد أن تم جمع أكثر من 45 ألف توقيع، وذهب بالفعل لتقديمها إلى قصر الخديو، رغم عدم ثقته فى عباس حلمى، الذى تغير موقفه من الحركة الوطنية، فبعد أن كان داعماً لتلك الحركة بقيادة مصطفى كامل ومحمد فريد، انقلب عليها وتحالف مع المندوب السامى البريطانى.

وقد كتب محمد فريد عن ذلك التحالف الغريب فى جريدة اللواء يوم 11 أبريل 1908، مفندا التحالف بين عباس حلمى الثانى، والسير ألدون فورست المندوب السامى البريطانى .

وتواصل محمد فريد مع قادة حركة الاتحاد والترقى فى تركيا، وذهب لزيارة الاستانة، يوم 12 أبريل 1908، وفوجئ فى اليوم التالى 13 أبريل بحركة الاتحاد والترقى تطيح بالسلطان عبدالحميد، فتواصل مع قادة الحركة، والأهم عمل مراسلاً صحفياً لجريدة اللواء، حيث نقل كل تفاصيل عزل السلطان عبدالحميد، وفكر فى التواصل مع كل من تركيا وألمانيا، لمساندة مصر ضد الإنجليز، ولكنه اكتشف أن لكل منهما (مطامع)، لا تقل عن مطامع الإنجليز، وعندما نصحه بعض أعضاء الحزب بربط مصر بتركيا لمواجهة الإنجليز، كما كان يسعى مصطفى كامل، قال لهم (مصر أرقى من تركيا).

حاول الإنجليز بالاتفاق مع الخديو استمالة الزعيم محمد فريد، من خلال اشتراكه فى الوزارة، فقال لهم (كيف أشارك فى حكم البلاد، فى وجود الاحتلال)، فقالوا له إن موقفك المالى سيئ، بعد تآكل ممتلكاتك فرد عليهم (ضياع ثروتى لن يؤثر على مبادئى، وأرفض أي مركز فى الحكومة ما دام الإنجليز فى مصر).

ولم يكتف برفض الوزارة فقط، ولكنه دعا كل المصريين إلى رفض المشاركة فى الوزارة، وكتب قائلا (من لنا بنظارة (وزارة) تستقيل بشهامة، وتعلن للعالم أسباب استقالتها، ولو استقالت وزارة بهذه الصورة، ورفض كل مصرى بعد ذلك قبول الوزارة، مهما زيد راتبه، إذن تم إعلان الدستور ولنلناه على الفور).

رغم هذا الموقف الحاسم من المشاركة فى السلطة، إلا أن الزعيم محمد فريد راح يعمل بكل القوة، على تأسيس أركان الدولة المدنية، فعمل على مقاومة الجهل والأمية بإنشاء مدارس ليلية فى الأحياء الشعبية، أسماها مدارس الشعب، والدراسة فيها مجانية للفقراء وكبار السن الأميين، ويدرس روادها العربى والحساب وبعض المهن، ومثل تلك المدارس كانت ثورة اجتماعية حقيقية، بعد تفشى الأمية والجهل فى الأمة المصرية، وكان محمد على قد أنشأ بعض المدارس المجانية، ليعمل خريجوها فى الجيش، وعندما جاء الإنجليز ألغوا تلك المجانية، فتحداهم محمد فريد بمدارسه الليلية، قبل أكثر من ثلاثين عاما، على مجانية التعليم الابتدائى، بقرار رئيس الوزراء نجيب الهلالى عام 1944، وقبل قرار د. طه حسين عندما كان وزيراً فى حكومة الوفد الأخيرة (1950 – 1952)، بمجانية التعليم الثانوى، ذلك القرار الذى لم يطبق إلا بعد ثورة يوليو 1952، ثم جاء قرار الزعيم جمال عبدالناصر بمجانية كل مراحل التعليم من الابتدائى إلى الجامعة عام 1960.

واهتم محمد فريد كثيراً بالعمال، حيث لم يكن لهم أى حقوق، ويتعرضون للفصل التعسفى فى أى وقت، ذلك التعسف الذى لم يتوقف إلا بقرار حكومة ثورة يوليو بمنع الفصل التعسفى، وسعى فريد إلى تأسيس الحركة النقابية فى مصر، فأنشأ أول نقابة للعمال (نقابة عمال الصناعات اليدوية) فى مصر عام 1909، وكان مقرها فى بولاق، وعدد أعضائها 800 عضواً، كما وضع الأسس القانونية لحقوق العمال، وراح يهتم بالجانب المجتمعى لدى المصريين فى محاولة جادة لمواجهة الاحتلال.

كما كان فريد أهم الأسباب، التى أدت إلى إفشال مشروع مد امتياز قناة السويس لمدة أربعين سنة، لينتهى عام 2008، بدلا من عام 1968، حيث استطاع الحصول على نسخة من ذلك المشروع فى أكتوبر 1909، ونشرها فى جريدة اللواء، وراح يكتب معارضا ومندداً بهذا المشروع الذى يكرس الاستعمار الاقتصادى، ونتيجة هذا الجهد رفضت الجمعية العمومية (مجلس الشورى) المشروع، وفى إطار مشروعه المجتمعى أنشأ محمد فريد الجمعية الخيرية الإسلامية للعمل الاجتماعى، تلك الجمعية التى أنشأت مستشفى العجوزة، التى مازالت تقدم خدماتها حتى الآن، كما أنشأ جمعيات الشبان المسلمين، وأنشأ نادى المدارس العليا لخدمة الشباب، وأنشأ أول جمعية تعاونية فى مصر، وتوسع فى مهاجمة الاحتلال فجعل جريدة اللواء تصدر بالعربية والإنجليزية والفرنسية.

وقد انتهت أزمة مد إمتياز قناة السويس، باغتيال بطرس غالى رئيس الوزراء عام 1910، على يد إبراهيم الوردانى، الذى كان أحد شباب الحزب الوطنى، وبعد حادثة الاغتيال فكر محمد فريد فى العمل على قيام ثورة شاملة، من خلال إشراك كل طبقات الشعب فى تلك الثورة، والبحث عن قادة لها من قلب الشعب، إضافة إلى العمل على كسب الرأى العام العالمى، وراح يسافر كثيرا إلى أوربا لتحقيق هذا الهدف، فسافر إلى فرنسا، وحضر المؤتمر الوطنى المصرى فى بروكسل فى سبتمبر 1910.

وقدم محمد فريد من خلال أفكاره وكتاباته، رؤية واضحة فى سياسات حكم البلاد، حيث طالب بحق مجلس الشورى فى فحص ميزانية الحكومة بعد أن تعرض عليه، كما طالب بنشر التعليم الابتدائى، وجعله إجبارياً، حتى يعرف الفلاح حقوقه، كما سعى لإنشاء النقابات الزراعية، وطالب بتنظيم الرسوم الجمركية، بعدم تحصيل أى رسوم على المنتجات التى تحتاجها البلاد، ومضاعفة الرسوم، على المنتجات التى لها مثيل فى البلاد، كما هاجم بشدة فرض ضريبة قدرها 8 بالمائة على مصانع الغزل فى مصر، مما جعل أول مصنع للغزل يتوقف عام 1896، ولم يكن ذلك إلا خدمة لمصالح مصانع إنجلترا.

ولم يقتصر نشاطه على الخطب والكتابات والاجتماعات السياسية، أو ما يمكن أن نطلق عليه (كفاح الصالونات)، ولكنه كان أول من يقرن الفكر الوطنى بالعمل المباشر، فى محاولة لرفع وعى الناس، وتعليمهم وإرشادهم، كما كان أول من عمل على تنظيم المظاهرات الشعبية ضد المحتل، واستطاع نقل النشاط السياسى إلى الحياة الاجتماعية، ليعمل على محاربة الفقر والجهل والمرض.

لم يكن محمد فريد مجرد زعيم وطنى أو قاض أو محامى، ولكنه كان أيضا كاتباً ومؤرخا، حيث أصدر كتابه الأول (تاريخ الدولة العثمانية) عام 1894، ثم أصدر كتابه الثانى تاريخ الرومان 1903، وقد قام د. رؤوف عباس بتحقيق كتاب تاريخ مصر العثمانية، كما كتب فريد تاريخ مصر من خلال سيرته الذاتية فى الفترة من 1891 – 1897، ومن الفترة من 1904 – 1919، لتظل الفترة من 1897 – 1904 غامضة فى سيرة حياته، ويفسر تلميذه فى الحزب الوطنى المؤرخ عبدالرحمن الرافعى هذا النقص فى كتابه عن محمد فريد، بتأكيده أن فريد قام بحرق كثير من أوراقه بعد اغتيال بطرس غالى على يد إبراهيم الوردانى، الذى كان على صلة قوية بزعيم الحزب محمد فريد.

وإذا كان الإنجليز وأعوانهم من الحكومات العميلة، لم يستطيعوا إغراءه أو تخوينه نتيجة نشاطه السياسى، فإنهم تربصوا له واصطادوه عن طريق (الكتابة)، حيث كتب مقدمة لديوان وطنيتى للشاعر على الغاياتى، تحت عنوان (أثر الشعر فى تربية الأمم)، جاء فيها (لقد كان من نتيجة استبداد حكومة الفرد إماتة الشعر الحماسى، وحمل الشعراء بالعطايا والمنح على وضع قصائد المدح البارد، والإطراء الفارغ، للملوك والأمراء والوزراء، وابتعادهم عن كل ما يربى النفوس، ويغرس فيها حب الحرية والاستقلال، كما كان من نتائج هذا الاستبداد، خلو خطب المساجد من كل فائدة تعود على المستمع، وأصبحت كلها تدور حول موضوع التزهيد فى الدنيا، والحض عن الكسل وانتظار الرزق بلا مسعى أو عمل).

كتب تلك المقدمة وسافر إلى أوربا ليحشد معارضى الاحتلال، فى مؤتمر كبير على نفقته الخاصة، وفجأة تم تحويل الشاعر على الغاياتى ومعه محمد فريد والشيخ عبدالعزيز جاويش إلى المحاكمة، انطلاقا من قانون المطبوعات، وتم اعتبار فريد شريكا للشاعر، وبادر كل أصدقاء فريد ومحبيه بنصحه بعدم العودة لأنهم سيسجنونه، ولكن ابنته الكبيرة فريدة كتبت له رسالة رائعة كتبت فى نهايتها (أتوسل إليكم باسم الوطنية والحرية، التى تضحون بكل عزيز فى سبيل نصرتها، أن تعودوا وتتحملوا آلام السجن)، وكانت كلمات ابنته وكأنها صوت ضميره، فعاد إلى مصر لتنفيذ حكم السجن لمدة ستة أشهر، كانت خلال الستة أشهر الأولى من عام 1911، والشيخ عبدالعزيز جاويش ثلاثة أشهر، والغريب فى هذا الأمر أن سعد زغلول فى ذلك الوقت كان وزيراً للحقانية (العدل)، ومن المؤكد أن من سلطاته منع هذا الظلم عن هذا الزعيم الوطنى ولكنه لم يفعل.

وكان الإنجليز قد استخدموا قانون المطبوعات لتقييد حرية الصحافة الوطنية.

شعر الخديو عباس حلمى الثانى وكل حاشيته بالندم الشديد، لأنهم تورطوا فى سجن الزعيم الوطنى محمد فريد، فأرسل الخديو أحد المقربين منه وهو عثمان غالب إلي فريد فى سجنه، يطلب منه مجرد ورقة للخديو يطلب فيها العفو، فرد بكل القوة (أنا لن أطلب العفو، ولا أسمح لأحد من عائلتى أن يطلبه عنى، وإذا صدر هذا العفو فلن أقبله).

وبعد خروجه من السجن كتب فى جريدة اللواء (مضى علىّ ستة أشهر فى غيابات السجن، ولم أشعر أبداً بالضيق إلا عند إقتراب خروجى، لعلمى أنى خارج إلى سجن أكبر، سجن الأمة المصرية، الذى تحده سلطة الفرد، ويحرسه الاحتلال، ولأنى سأصبح مهدداً بقانون المطبوعات، ومحكمة الجنايات، محروماً من الضمانات التى منحها القانون العام، للقتلة وقطاع الطرق).

واصل الاحتلال الإنجليزى وأعوانه، التضييق على محمد فريد، فقاموا بإغلاق جريدة اللواء فى سبتمبر 1912، والغريب أن شكوكه تركزت فى كل من عمر سلطان ، طلعت حرب، على فهمى (شقيق مصطفى كامل)، أنهم السبب فى غلق اللواء، ورغم ذلك لم يتوقف عن ترديد مطالب الأمة فى كل خطبه أمام الناس، فاستدعته الحكومة بعد إحدى هذه الخطب، وكان ذلك فى بداية مارس 1913، ووجهت له العديد من الاتهامات، فخشى أهله وأصدقاؤه أن يتم اعتقاله مرة أخرى، فنصحوه بالسفر خارج مصر، فغادر وطنه للمرة الأخيرة فى 26 مارس 1913، ورغم سفره تمت محاكمته، وحكموا عليه بالسجن لمدة عام مع الشغل، وقد طارده الإنجليز فى كل مكان يذهب إليه، فتنقل بين برلين وباريس وجنيف وبروكسيل، وقد منعت الحكومة المصرية بأوامر من الاحتلال الإنجليزى أسرة محمد فريد، من إرسال أى أموال له فى منفاه الذى أجبر عليه، ووصل بهم الظلم إلى حد منع إبنه عبدالخالق، وكان فى العاشرة من عمره أن يسافر لكى يرى والده قبل وفاته.

وقد ترك ابتعاد محمد فريد عن مصر آثاراً سلبية على الحزب الوطنى، حيث إنقسم الحزب إلى ثلاثة أقسام، الجزء الأكبر ظل ولاؤه للزعيم الوطنى محمد فريد، بينما انضوى قسم آخر تحت لواء عبدالعزيز جاويش، أما الجزء الثالث فتزعمه على فهمى شقيق مصطفى كامل فقد أعلن الولاء للخديو عباس حلمى الثانى.

وراح فريد يخطب فى كل مكان يذهب إليه، يجمع المصريين، ويشرح للأوربيين فظائع الاحتلال الإنجليزى فى مصر، ورغم هذا الجهد الشاق، راح البعض ينتقد فكرة النضال من الخارج، وكأن الرجل قد اختار ذلك ولم يجبر عليه، خاصة وأن النضال السياسى كان الخيار الوحيد أمام المصريين، بعد هزيمة إبراهيم باشا فى معركة نافارين، ثم هزيمة أحمد عرابى فى معركة التل الكبير، ثم تفكيك الجيش المصرى على يد الاحتلال الإنجليزى، فلم يعد فى يد زعماء الحركة الوطنية المصرية مصطفى كامل، محمد فريد، ومن بعدهم سعد زغلول إلا وسيلة النضال السياسى، سواء فى داخل مصر أو خارجها، حيث اعتمدت الحركة الوطنية على الصحافة والخطابة.

وتعرف محمد فريد فى سويسرا، على الزعيم الشيوعى لينين، وحضرا معاً عدة مؤتمرات، وارتبط بصداقة مع سكرتيره تيودور رونشتين، الذى ألف كتاباً عن القضية المصرية بعنوان (خراب مصر).

وفى باريس تعرف محمد فريد على مدام دى روشيرن، وتزوجها وأنجب منها إبناً اسمه ريشار، وقد نشر د. محمد أنيس مذكرات هذه السيدة، وبها الكثير من رسائل محمد فريد.

وقد عانى شظف العيش فى المنفى، بعد أن تآكلت ممتلكاته فى مصر، ورفض الإنجليز إرسال أى أموال إليه عن طريق أهله، فاضطر إلى أن يبيع معطفه وعصاه، ليوفر بعض احتياجاته من الغذاء والدواء.

ونتج عن كل ذلك إصابته بأمراض الكبد، مما يستلزم الحياة فى بيئة دافئة، ومناخ مصر يوفر تلك البيئة، ورغم علم المسئولين بمرض هذا المناضل الكبير، لم يبادروا بدعوته للعودة إلى أحضان الوطن، وعرض عليه الأطباء الألمان، التحدث مع مسئولى الاحتلال الإنجليزى، لكى يسمحوا له بالعودة إلى مصر، ولكنه رفض تماما أن تكون عودته عن طريق الإنجليز.

وعندما اندلعت ثورة 1919، كتب رسالة إلى الأمة قال فيها (إن هذا الصوت يناجيكم من وراء البحار، ليهنئ الأمة المصرية على تضافرها وتضامنها، لا فرق فى ذلك بين أبنائها وبناتها مسلمين وأقباط)، وختم رسالته قائلا : (وأكتب هذه السطور اليوم وذكرى 14 سبتمبر (بداية الاحتلال الإنجليزى)، تملأ فؤادى حزناً، ولكنى أرى فجر الأمل، يرسم على الأفق خطاً من النور اللامع، نأمل أن يكون طليعة حريتنا المنشودة، واستقلالنا المرجو).

وكان محمد فريد قد عمد إلى تسجيل يومياته، منذ خروجه الأخير من مصر فى 27مارس 1913، وحتى وفاته، وقبل وفاته بعدة أيام أرسل إلى صديقه إسماعيل لبيب، الذى كان يعيش فى جنيف، فجاءه إلى برلين، ليسلمه صندوقا مليئا بالأوراق، وأوصاه أن يسلم هذا الصندوق إلى ابنه عبدالخالق فريد فى مصر، ولكن مفارقات القدر عملت على رحيل إسماعيل لبيب قبل توصيل الأمانة، فقامت أرملته بالمهمة، ولم تكن تلك الأوراق إلا مذكرات محمد فريد من 1904 – 1919، تلك المذكرات التى نشرتها الهيئة العامة للكتاب فى عام 1978، تحت عنوان (أوراق محمد فريد)، وتتكون هذه الأوراق من ثلاثة أقسام، قسم عن مبادئه وأفكاره التى دافع عنها، وقسم عن تجربة الهجرة والمنفى، أما الجزء الأهم فكان يومياته فى الفترة من 1904 – 1919.

وفى ساعاته الأخيرة، وهو على فراش الموت، فى مصحة بالعاصمة الألمانية برلين، قال لمن حوله (لست أخاف الموت، فقد سبق أن ناديته، فى الأيام الأولى من شبابى، حين رأيت مصر فى اليوم الأول من أيام احتلالها البغيض، ولقد عشت بعدها وليس لى من أمنية فى الحياة، إلا أن أراها متمتعة باستقلالها وحريتها).

ورحل ذلك المناضل النبيل يوم 15 نوفمبر 1919، رحل غريباً بعيداً عن وطنه وأهله، فحضر جنازته وصلى على جثمانه عدد كبير من المصريين والعرب، من بينهم الشيخ عبدالعزيز جاويش، الذى ألقى كلمة مؤثرة فى جموع المشيعين، ولكن أسرته لم تكن تمتلك من المال ما يمكنها من إعادة جثمانه الطاهر إلى أرض الوطن، إلى أن تبرع أحد التجار الوطنيين، واسمه الحاج عفيفى من الزقازيق، بالسفر إلى ألمانيا لإعادة جثمان الزعيم الوطنى الكبير على حسابه الخاص، ووصل الجثمان إلي ميناء الاسكندرية فى الثامن من يونيو عام 1920، ليعود هذا المناضل العظيم إلى وطنه، بعد أن عاش مقاوماً ومناضلا للاحتلال الإنجليزى، ولكل أشكال الظلم، وبعد أن كان أول من طالب بأن تحصل مصر على كل أركان الدولة المدنية، والغريب أن حزب الوفد وزعماءه الذين من المفترض أنهم ساروا على نهج محمد فريد، لم يكرموا الرجل، بل إن بعضهم راح يعيب عليه بحجة أنه كان يناضل من الخارج، وكان على هذا الزعيم الوطنى الكبير أن ينتظر، حتى ثورة يوليو 1952، بقيادة جمال عبدالناصر، لتضعه وفى المكانة التى تليق به، فأقيم له تمثال فى قلب القاهرة، وأطلق اسمه على واحد من أهم شوارعها، وتم تدريس سيرته ونضاله فى كتب التاريخ.

امتلك الفتى “محمد فريد” وعياً مبكراً، وحساً وطنياً راقياً، ولذلك بكى كثيرا، عندما رأى جنود الاحتلال الإنجليزى، يخترقون شوارع القاهرة لأول مرة

فى عام 1882

فريد بصحبة الزعيم مصطفى كامل

اهتم محمد فريد كثيراً بالعمال، حيث لم يكن لهم أى حقوق، ويتعرضون للفصل التعسفى فى أى وقت، ذلك التعسف الذى لم يتوقف إلا بقرار حكومة ثورة يوليو بمنع الفصل التعسفى

محمد فريد مع عبدالرحمن الرافعى،

منصور رفعت وأحمد وفيق

مصطفى كامل

قدم محمد فريد من خلال أفكاره وكتاباته، رؤية واضحة فى سياسات حكم البلاد، حيث طالب بحق مجلس الشورى فى فحص ميزانية الحكومة بعد أن تعرض عليه

بطرس غالى

صورة نادرة للزعيم محمد فريد

عباس حلمى الثانى

لم يكن محمد فريد

مجرد زعيم وطنى أو قاض أو محامى، ولكنه كان أيضا كاتباً ومؤرخا، حيث أصدر كتابه الأول (تاريخ الدولة العثمانية)

عام 1894

أحمد نجيب الهلالى

اللورد كرومر

الشيخ على يوسف

رحل ذلك المناضل النبيل

يوم 15 نوفمبر 1919، رحل غريباً بعيداً عن وطنه وأهله،

فحضر جنازته وصلى على جثمانه عدد كبير من المصريين والعرب

الاكثر قراءة