الأربعاء 25 يونيو 2025

مقالات

الدولة الوطنية والفنون والثقافة.. مقاربات عالمية ووطنية

  • 24-6-2025 | 12:56
طباعة

مما لا شك فيه أن الثَّقافة هي سلوك اجتماعي ومعيار وجود في المجتمعات البشرية. يقول أندريه مالرو، الكاتب والروائي ووزير الثقافة الفرنسي الأسبق: "الثقافة هي ما يبقى حين ننسى كل شيء"، إذ تشكِّل الفنون والثقافة نسيجًا حيويًا للدولة الوطنية، فهي تبني الهوية، وتحمي التراث، وتوحد المجتمع، وتشكّل الجسور بين الماضي والحاضر والمستقبل، أو بالأحرى تشكّل الذاكرة الجمعية. كما أنها، على الرغم من نعومتها، قادرة على أن تواجه التحديات وتتغلب على الصعاب.

أندريه مالرو

يعتقد بعض المفكرين الغربيين أن الدولة القومية لم تنشأ من الحنكة السياسية أو من مصدر غير معروف وغير محدد، ولم تكن حادثة تاريخية أو اختراعًا سياسيًا، ولكنها ظهرت نتيجة ثانوية غير متعمّدة للاكتشافات الفكرية والجغرافية في القرن الخامس عشر، وفي الاقتصاد السياسي، والرأسمالية، والتجارة، وتحولات الجغرافيا السياسية. وهذا التوجه هو توجه مفكرين أمثال الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو وغيره. وهناك فريق آخر يشير أيضًا إلى أن الأمة نشأت أولًا، ثم ظهرت الحركات القومية من أجل السيادة، وأُنشئت الدولة القومية لتلبية هذا المطلب. كما أن بعض «نظريات التحديث» للقومية ترى أنها نتاج السياسات الحكومية لتوحيد دولة قائمة مسبقًا وتحديثها. وبشكل عام، ترى معظم النظريات أن الدولة القومية هي ظاهرة أوروبية نشأت في القرن التاسع عشر، وساعد على ظهورها بعض التطورات مثل التعليم الذي تفرضه الدولة، ومحو الأمية واسع النطاق، والإعلام.

وأيًّا كان موقفنا من نشأة الدولة القومية، وسواء كنا مع هذا أو ذاك، فلا شك أن ظهور مصطلح الدولة الوطنية أو القومية هو ظهور حديث، لكن مفهوم الدولة القومية هو مفهوم قديم في حد ذاته؛ فالأفكار العلمية والاجتماعية الحديثة تعود إلى القرن الخامس عشر، ومعنى ذلك أن المفهوم يسبق الاصطلاح. فالدولة القومية هي تجمع لشعب له ثقافة وإثنية محددة، وهو ما ينطبق على الدول ذات البعد الحضاري. وقد يختلف معي البعض، وقد يتفقون، إن ما يشد انتباهي هنا هو أن الدولة القومية تتميز بتعدد العرقيات التي تتجمع داخل أمة وشعب له ملامح ثقافية وعقائدية محددة. ويعوّل البعض على أن مفهوم الأمة نشأ أولًا، وأعقب ذلك ظهور الحركات القومية، لذلك فإن التاريخ الحديث لمصر وظهور مصطلح الدولة القومية لا يعني مطلقًا تأخر وجود المفهوم، فمصر دولة تسبق التاريخ، وأمة لها ملامح محددة عبر هذا التاريخ، وهذه الملامح لها بعد ثقافي وبعد عقائدي، وهو ما يؤكد أن مصر تسبق عشرات الدول وجودًا تاريخيًا وثقافيًا وفنيًا وعقائديًا، ووطنًا جغرافيًا له مفهوم متماسك.

من هذه النقطة يمكننا أن نبدأ الحديث: لماذا تُعد الفنون وتُعد الثقافة أمرين في غاية الأهمية لتحقيق مفهوم الدولة الوطنية؟ ولماذا يجب الاهتمام بهذين الأمرين بشكل أعمق كثيرًا مما يمكن تخيله؟ وسأعتمد في بقية ما سأسوقه من حجج على أقوال طائفة كبيرة من كتّاب وفناني العالم. إذ يمكن للفنون والثقافة أن تلعبا دورًا محوريًا في دعم وترسيخ الدولة الوطنية من خلال عدة جوانب، سأذكر بعضها هنا لضيق المقام وطبيعة المقال بشكل مختصر، وأرجو ألا يكون مجتزأً فيختل المعنى ويضيع المضمون!

يعتمد بناء الهوية الوطنية المشتركة على هذين العنصرين، حيث تبدو الفنون والثقافة كالمرآة التي تعكس روح الأمة، كما تعكس قيم المجتمع وتاريخه، مما يسهم في صياغة هوية وطنية موحدة، ذات وجود عميق له بعد تاريخي وآني ومستقبلي واضح ومتحقق. هنا تُعد الرموز الثقافية (كالأناشيد الوطنية، والأدب، والفنون البصرية) أدوات لتعزيز الانتماء وتذكير المواطنين بأسس الدولة ومُثلها العليا، ومثال ذلك اللوحات الفنية والأفلام التي تُجسّد نضالات التحرير أو إنجازات البلاد.

وعلى سبيل المثال، ففي مواجهة العولمة، تصبح الثقافة سلاحًا لحماية الهوية. وكنموذج لذلك، فالمقالات التي ناقشت التمدد التركي في العالم العربي أشارت إلى أن الثقافة العربية يمكن أن تكون حاجزًا ضد الاختراقات الخارجية. وهنا تحضرني مقولة إدوارد سعيد: "الثقافة مقاومةٌ صامتة ضد التهميش"، وأظن أنها من المقولات التي أشار إليها في كتابيه الشهيرين الاستشراق، والثقافة والإمبريالية، وكذلك في حواراته حول فلسطين.

وإذا كنا سنستعير نموذجًا من الفن العالمي، على سبيل المثال، ليوناردو دافنشي الذي وُصف بأنه "رجل عصر النهضة"، فقد استخدم فنه لتعزيز الهوية الإيطالية عبر أعمال مثل الموناليزا أو العشاء الأخير، والتي أصبحت رموزًا ثقافية عالمية تعكس عمق التراث الإيطالي. وهو ما فعله المصريون حين نحت مختار تمثال "نهضة مصر" ليعبّر عن روح الوطن المصري كله، بل استكتبت الأمة المصرية كلها من أجل هذا النموذج العظيم.

كما تعمل الفنون والثقافة بشكل مباشر على تعزيز التماسك الاجتماعي وكجسر لوحدة الشعوب. ولعل مقولة برتولد بريخت، الشاعر والمسرحي الألماني الكبير: "الفن ليس مرآةً تعكس الواقع، بل مطرقةٌ تُشكّله"، تعبر أفضل تعبير عن هذا المفهوم. إذ تُشكل الفعاليات الثقافية (مهرجانات، مسرحيات، معارض) مساحات للالتقاء بين فئات المجتمع المختلفة، مما يقلل الانقسامات العرقية أو الطائفية، ويُعزز قيم التسامح. وعلى ذلك، يمثل الفن معيارًا لقيمة التسامح داخل المجتمع، كما أن الفنون تخلق حوارًا حول القضايا الاجتماعية (كالفقر أو التمييز)، مما يُسهم في معالجتها بطرق إبداعية.

كذلك يساعد ازدهار الفنون والثقافة على حفظ الذاكرة الجماعية، أو كما يقول الشاعر والروائي الروسي بوشكين: "الأدب هو ذاكرة الشعوب". إذ لا يمكنك أن تمحو ذاكرة أمة لديها أدب وفنون عريقة وعميقة محشوة بالذاكرة التاريخية لهذه الأمة. فلا يُنظر، على سبيل المثال، لأعمال محفوظ، وطه حسين، ويوسف إدريس، على أنها مجرد أعمال درامية، أو لوحات الفن التشكيلي الخاصة بالوجوه المصرية أو الأشكال التعبيرية لمحمود سعيد، وحسن سليمان، وسيف وانلي، وغيرهم على أنها مجرد لوحات تتسم بجمال مطلق، بل هي ذاكرة للشعب المصري في حقب مختلفة. حيث تحافظ الثقافة على التراث المادي (كالمباني الأثرية) واللامادي (كالحكايات الشعبية)، الذي يُعد أساسًا لشرعية الدولة وامتدادًا لتاريخها. والمثال الأبرز في ذلك، المتاحف التي تُعيد إحياء قصص الأجداد، مما يُعزز فخر الأجيال الجديدة بالانتماء إلى الوطن. ومن هنا تظهر قيمة المتحف الكبير في العصر الجمهوري، وإعادة تشكيل منطقة الأهرام لتعكس الهوية التاريخية وتؤكد على قيمة الثقافة والفن في الحياة المصرية أمام العالم.

كما تساعد أيضًا على دعم الشرعية السياسية، فعندما تدمج الدولة الثقافة في سياساتها (كدعم الفنون المحلية أو تمويل المشاريع الإبداعية)، تُظهر احترامها لتنوع المجتمع، مما يُعزز ثقة المواطنين بمؤسساتها. فالفنانون غالبًا ما يكونون سفراء للدولة، ينقلون صورتها الإيجابية عالميًا عبر أعمالهم.

وبنفس الطريقة، فنحن لا نعتبر الاقتصاد الإبداعي مجرد نوع من الاقتصاد للدولة. فهو وإن كان يساهم في الصناعات الثقافية (كالسينما، والموسيقى، والسياحة التراثية) وفي النمو الاقتصادي وخلق فرص العمل، مما يُعزز استقرار الدولة، إلا أن الثقافة تعمل أيضًا "كقوة ناعمة" تجذب الاستثمارات وتعزز المكانة الدولية للدولة. ولألبرت أينشتاين مقولة طريفة في هذا الأمر، إذ يقول: "الإبداع هو الذكاء الذي يلهو"، فالفن ليس لهوًا وإن كان ذلك أحد جوانبه، لكنه أيضًا يعيد تشكيل الوجدان والحس الوطني. فلا يمكنك النظر لأفلام عادل إمام على أنها أفلام للتسلية والضحك، هو أو غيره، بل إن الكثير منها يعكس الروح المصرية في أعلى تجلياتها، كما أنها تعكس كثيرًا من القضايا الاجتماعية، وهو دور رائد للفن منذ ظهور السينما في الحياة المصرية في بدايات القرن العشرين.

كما يُلاحظ دور الفنون والثقافة الفارق في مواجهة التحديات والأزمات (كالحروب أو الكوارث)، حيث تُستخدم الفنون لرفع الروح المعنوية وتوحيد الصفوف، والنموذج الواضح هنا هو أغاني المقاومة أو الجداريات الفنية التي تُعبّر عن الصمود، والسينما الواقعية في زمن الحرب. وهناك مقولة شهيرة لمايا أنجيلو تقول فيها: "في أوقات الظلام، يكون الفن هو النور". نعم، يمكن للفن أن يلعب الدور الأكبر، وهو الجانب التنويري له داخل المجتمع في مواجهة القوى الظلامية أكثر من أي شيء آخر.

كما تلعب الفنون والثقافة أدوارها في التعليم ومن ثم في ترسيخ قيم المواطنة، إذ تحل الثقافة في المناهج التعليمية (كدراسة الأدب الوطني أو الفنون التقليدية) لتغذية وعي الشباب بتاريخهم وقيم المشاركة المدنية.

ومع ذلك، فهناك تحديات يجب مراعاتها في ذلك، إذ يجب أن تتجنب الدولة توظيف الثقافة كأداة لفرض رواية أحادية، مما قد يُهمّش تنوع المجتمع، إذ إن التوازن بين الهوية الوطنية واحترام التعددية الثقافية شرط لضمان الاستقرار.

كلمة أخيرة:

الفنون والثقافة ليست ترفًا، بل ركيزة لبناء دولة وطنية قائمة على الانتماء المشترك، والتضامن الاجتماعي، والشرعية التاريخية. نجاحها مرهون بتبني سياسات شاملة تحترم الإبداع وتوظفه لخدمة الصالح العام. كما أن الفنون والثقافة ليست مجرد تعبيرات جمالية، بل هي أدوات حيوية في تشكيل الهوية الوطنية وتعزيزها، كما تُجسّد القيم والتاريخ المشترك.

الفنون والثقافة مرآة تعكس روح الأمة كما تعكس قيم المجتمع وتاريخه، مما يسهم في صياغة هوية وطنية موحدة، ذات وجود عميق له بعدٌ تاريخي وآني ومستقبلي واضح ومتحقق

سيف وانلي

برتولد بريخت

حسن سليمان

محمود سعيد

تُستخدم الفنون لرفع الروح المعنوية وتوحيد الصفوف، والنموذج الواضح هنا هو أغاني المقاومة أو الجداريات الفنية التي تُعبّر عن الصمود، والسينما الواقعية في زمن الحرب

إدوارد سعيد

الفنون والثقافة ليست ترفًا،

بل ركيزة لبناء دولة وطنية قائمة على الانتماء المشترك، والتضامن الاجتماعي،

والشرعية التاريخية

ألكسندر بوشكين

ليوناردو دافنشي

أخبار الساعة

الاكثر قراءة