ثورة شعب أراد البقاء والوجود وسط هذا الإقليم الذي تتساقط فيه الدول كأوراق شجر أصابتها رياح خريفٍ عاصفة، رياحٍ ظنتها بعض الشعوب نسيمًا لربيعٍ عربي، واستسلمت لمجرياتها، فجرفت دولهم إلى المجهول. بينما لم تنخدع مصر بالهوس الثوري الذي اجتاح المنطقة العربية تحت مسميات وشعارات خادعة، وتمسك الشعب المصري بتلابيب الوطن حينما كادت مصر أن تنجرف نحو فخ الثورات الربيعية الهدامة، استيقظت مصر وثارت على الفوضى، ورفضت التطرف والإرهاب، وأعلنتها دولة وطنية تؤسس لجمهورية جديدة ترتكز على مكونات الهوية المصرية التي شكلها التاريخ ورسمتها الجغرافيا.
فكانت ثورة 30 يونيو المجيدة التي أتت بصناعة وصياغة مصرية خالصة وإرادة شعبية متحصنة بجيشٍ يحمي ويصون إرادة الشعب، فكانت تجسيدًا لحالة الاصطفاف الوطني التي طالما كانت السبب الحقيقي في تخطي مصر كافة التحديات، تلك الحالة التي ظهرت إبان محطات عدة في التاريخ المصري الحديث، بداية من ثورة 1919، مرورًا بالعدوان الثلاثي وحرب الاستنزاف، ثم العبور وتحقيق النصر، وصولًا إلى ثورة 30 يونيو التي استكملت المسار وعزّزت اللحمة الوطنية، وأثبتت أن هذا الوطن جيشه شعبه، وشعبه جيشه، وأن مصر بمسلميها ومسيحييها على قلب رجل واحد، يجمعهم حب هذا الوطن، بل إنهم كالبنيان المرصوص دفاعًا عن وطنهم ومقدراتهم.
ثورة 30 يونيو المجيدة استردّت الوطن من يد جماعة الإخوان الإرهابية التي أرادت بهذا الوطن سيناريو كالذي هو حادث في بعض دول الجوار، حيث سعت لتعزيز الفرقة، وإعلاء الطائفية، وبث روح الإحباط واليأس لدى الشعب المصري، في محاولة بائسة ليصبح شعبًا خانعًا خاضعًا للفشل، وهو هدف حروب الأجيال الجديدة التي تعتمد على إفشال الدول من الداخل عبر بث الغضب واليأس في نفوس الشباب تحديدًا، ومن ثم تسقط الدول بأيدي أبنائها. سيناريو تكرر في المحيط الإقليمي، وفطن له الشعب المصري مبكرًا، وقرر إزاحة جماعة الإخوان الإرهابية من المشهد المصري، وقد كان، عبر ثورة شعبٍ حماها جيشٌ كان في مقدمة صفوفه قائدٌ جسور وضع روحه على كفّه وقرر حماية ثورة الشعب. فكان الشعب المصري مقدّرًا لهذا الموقف التاريخي الفاصل والمحوري في مستقبل الوطن، وقرر انتخاب المشير عبد الفتاح السيسي حينها رئيسًا للجمهورية بعد أن انضم إلى صفوف الجماهير، معلنًا عن استكمال تحقيق أهداف تلك الثورة المجيدة، والمضي نحو حلم الجمهورية الجديدة.
الطريق نحو الجمهورية الجديدة كان يستلزم إعادة بناء القوة الوطنية الشاملة للدولة المصرية، وهو ما لم يكن بالأمر الهين أو اليسير، في ظل تحديات داخلية على رأسها مواجهة التطرف والإرهاب، وخارجية تشمل محيطًا إقليميًا مضطربًا ومهددات خارجية متعددة تستهدف النيل من استقرار الوطن. ومن ثم كان الهدف الأول لتمهيد الطريق نحو بناء القوة الوطنية الشاملة هو استعادة الاستقرار الداخلي، وإعادة التموضع الخارجي. وهنا، بالتوازي، عملت مصر على محاربة فلول الجماعات الإرهابية، وخاضت معارك دبلوماسية شاقة لإثبات وجودها بمحيطها الإقليمي وأيضًا الدولي. بالتزامن، دارت عجلة التنمية والعمران، وبدأت ملحمة بناء قوة مصر الشاملة، والتي تتضمن عدة مفردات:
قوة الردع
لا يستقيم بناء ولا يستقر دون أمن، ومن ثم حافظت الدولة المصرية على مؤسساتها الأمنية الوطنية، ومساندة الشعب للجيش والشرطة في مواجهة التطرف والإرهاب والمخاطر الخارجية، ثم الانتقال إلى تحديث تلك المؤسسات وفق أعلى المعايير التي تحقق قوة الردع. الأمر الذي حقق الاستقرار الداخلي ومهد الطريق أمام بناء مفردات القوة الأخرى. وقد ارتكزت قوة الردع المصرية - بجانب تحديث بنيتها العسكرية وتنوع مصادر التسليح - على العنصر الأهم في تلك القوة، وهو المقاتل المصري، وذلك عبر تطوير منظومات التدريب والتأهيل لبناء إنسان قادر على أن يزود عن الوطن. قوة الردع المصرية واعتلاء الجيش المصري صدارة جيوش المنطقة عصم وجنب مصر من الانخراط في الكثير من المشكلات، فتلك القوة الرادعة رسمت خطوطًا حمراء شكلت سياجًا يحمي الوطن من الانخراط في الفوضى الإقليمية، ومهدت الطريق لاستكمال الحلم نحو الجمهورية الجديدة.
القوة السياسية
البناء السياسي القوي هو الضمانة الحقيقية للحفاظ على المكتسبات التي حققتها ثورة 30 يونيو المجيدة. ومن ثم، كان إيجاد دستور يرسم معالم الجمهورية الجديدة، ويدعم بناء القوة الوطنية الشاملة، ضرورة تحققت بدستور 2014 وما تبعه من تعديلات. ولأن الممارسة السياسية هي الدعامة الأساسية لتقوية البناء السياسي للدول، استطاعت مصر أن تنجز خلال عشر سنوات تسعة استحقاقات انتخابية، وتتيح مناخًا سياسيًا لتنمية الحياة الحزبية، وتمكين الشباب والمرأة وذوي الهمم. هذا بجانب خطوات أخرى متعددة، على رأسها إيجاد استراتيجية وطنية لحقوق الإنسان، وتنمية عمل المجتمع المدني، وصولًا لمحطة الحوار الوطني، مما مكّن مصر من إيجاد تنمية سياسية تسير بالتوازي مع التنمية العمرانية.
القوة الدبلوماسية
قُدِّر لمصر أن تثور وتسترد الوطن في ظل حالة استقطاب دولي وصراع إقليمي متسارع ومتسع، ما جعل الداخل متأثرًا بشكل مباشر بالأوضاع الخارجية. وبات الابتعاد عن الاستقطاب لأي من الأطراف الدولية وصناعة اتزان في العلاقات الخارجية ضرورة تتطلب عملًا شاقًا. ومن ثم أعادت القاهرة ترتيب أولويات عمل سياساتها الخارجية، ووضعت الدائرة العربية الأفريقية كدائرة اهتمام أولى، واتزنت في العمل على مختلف الدوائر الأخرى، وصنعت علاقات تحقق مصالح الداخل المصري أولًا مع كافة الأقطاب الدولية الكبرى، كما نشطت عملها داخل المنظمات الإقليمية والدولية. بل إن مصر تخوض معارك دبلوماسية على مختلف جبهات العمل الإقليمي والدولي، حفاظًا على قضايا الأمن القومي العربي، والأمن والسلم الأفريقيين، إيمانًا منها أن أمنها القومي مرتبط ارتباطًا أصيلًا بتلك النقاط. التموضع المصري خارجيًا باتزان وثقلٍ سياسي ينبع من الحفاظ على ثوابت العمل التي تتمتع بالشرف والنزاهة، هو ما أكسب القاهرة أدوارًا فعالة ومؤثرة في مختلف الساحات الدولية، وحجز للجمهورية الجديدة مكانة مرموقة في النظام العالمي الذي يتشكل من جديد.
القوة الاقتصادية
لم يكن قرار الإصلاح الاقتصادي بالأمر اليسير، بل هو بمثابة دواءٍ مرٍ لمرضٍ ينهش في الجسد الاقتصادي المصري. فمن الصعب أن تمضي ثورة يونيو المجيدة في تحقيق أهدافها الاجتماعية، سواء على صعيد بناء الإنسان، وتوفير الخدمات الصحية والتعليمية، والتخلص من العشوائيات، وغيرها من الآفات التي تراكمت عبر العقود، إلا عبر تأسيس نظام اقتصادي وطني حقيقي قادر على تحقيق تلك الطلعات. خاصة أن مصر تأرجحت لعقود ما بين الاشتراكية والرأسمالية، الأمر الذي انعكس على تردي الخدمات وانهيار البنية التحتية، على سبيل المثال. لهذا، فإن قرار الإصلاح الاقتصادي وبناء اقتصاد وطني حقيقي يرتكز على بنية تحتية ولوجستية، وعنصر بشري مدرّب وقادر على الإنتاج، بجانب فتح الشراكات الاقتصادية والاستثمارية مع الخارج، جميعها عوامل أسهمت في أن يكون الاقتصاد أحد دعائم القوة الوطنية الشاملة التي ترتكز عليها مصر وهي تواجه المزيد من التحديات في الوقت الراهن.
القوة الناعمة
الوعي الجمعي المصري هو صمام بقاء الوطن، ومحاولات اختراق هذا الوعي مستمرة ولن تنتهي، بغرض استهداف التماسك الداخلي الذي يرتكز على وعيٍ تام، وإيمانٍ راسخ في الوجدان المصري بأهمية مفهوم الدولة الوطنية التي تتسع للجميع. وعيٌ أحبط مخططات الفتنة التي حاولت جماعة الإخوان الإرهابية بثها في الداخل المصري. بل هذا الوعي كان الدافع الأساسي لقيام ثورة 30 يونيو المجيدة. لهذا، فإن الوعي الجمعي المصري المتمسك بمفردات الهوية المصرية ودولته الوطنية يُعَدُّ أحد أهم مقومات القوة الناعمة المصرية، التي لديها مفردات أخرى لا تقل أهمية مثل الإعلام، والسينما، والثقافة، وغيرها من روافد معرفية تُشكِّل الوعي المصري، والتي عملت الدولة على تقويتها وتحديث أدواتها، بما يمكِّنها من التصدي المبكر لحروب الشائعات والتشكيك التي تحاول النيل من هذا الوعي.
تلك المكونات وغيرها، والتي تشكل قوة مصر الوطنية الشاملة، لم تكن لتوجد اليوم لولا ثورة 30 يونيو المجيدة التي شكلت واقعًا مصريًا يتماشى مع المتغير الدولي القائم الآن في النظام الدولي، بما يحقق لمصر النصر في معركة البقاء. فقد كانت تلك الثورة السبيل نحو جمهورية جديدة تستطيع أن تحيا في هذا العالم الذي يتشكل من جديد.
رسمت القوة الرادعة خطوطا حمراء شكلت سياجا يحمي الوطن من الانخراط في الفوضي الإقليمية ومهدت الطريق لاستكمال الحلم نحو
الجمهورية الجديدة
شكلت ثورة 30 يونيو المجيدة واقعا مصريا يتماشى والمتغير الدولي القائم الآن في النظام الدولي بما يحقق لمصر النصر في معركة البقاء
الوعي الجمعي المصري المتمسك بمفردات الهوية المصرية ودولته الوطنية يُعَدُّ أحد أهم مقومات القوة الناعمة المصرية