في اللحظاتِ التاريخيةِ من تاريخِ الأوطانِ، حيثُ تتراكمُ الدلالاتُ وتتشابكُ الرموزُ، يصبحُ الحدثُ أكثرَ من مجردِ وقائعَ متسلسلةٍ وكأنَّهُ نصًّا مفتوحًا للقراءةِ، يستدعي منّا أدواتِ الفهمِ العميقِ لاكتشافِ ما وراءَ السطحِ الظاهرِ، والثلاثون من يونيو في مصرَ، ذلكَ اليومُ الذي احتشدتْ فيهِ الجموعُ بمدادِ الغضبِ والأملِ، ليسَ استثناءً من هذهِ القاعدةِ.. إنَّهُ مشهديةٌ بصريةٌ وسمعيةٌ وحركيةٌ تستحقُّ أن نتأملَها بعينِ السيميائيِّ، الباحثِ عن الشيفراتِ والمعاني الكامنةِ في ثناياها.
لقد شهدنا في الفترة التي سبقت ذلك اليوم المهيب كيف بدأ الخطر يتشكل حول ملامح الدولة الوطنية المصرية، وكيف حاولت قوى داخلية وخارجية أن تختزل كيان مصر التاريخي العريق في أيديولوجية فئوية ضيقة، فالدولة الوطنية ليست ملكًا لجماعة أو حزب، بل هي إطار جامع يتسع لكل أبنائه، يحمي حقوقهم ويضمن واجباتهم، ويستمد شرعيته من إرادة شعبه بأكمله، فإن الدولة الوطنية، كما خبرتها الأمم عبر التاريخ، هي الضامن لوحدة التراب، وهي الحاضنة للتنوع الثقافي والاجتماعي، وهي الإطار الذي يسمح بتحقيق التنمية والتقدم، حين تضعف هذه الدولة أو تختطف لصالح فئة قليلة، فإن النسيج الاجتماعي برمته يصبح عرضة للتمزق، وتفتح الأبواب أمام تدخلات خارجية تسعى لخدمة مصالحها على حساب استقرارنا ومستقبلنا.
وحين خرجت جموع المصريين في ذلك اليوم، لم يكن دافعهم مجرد رفض لسياسات بعينها أو أشخاص بذاتهم، بل كان هناك شعور عميق بخطر يهدد الدولة المصرية، خطر الانزلاق نحو حالة من الفوضى أو الانقسام، حيث تتغول المصالح الخاصة على المصلحة العامة، وحيث يصبح الولاء الأيديولوجي أسمى من الانتماء الوطني.
وبالتوقف أمام تلك الصورة المهيبة للملايين التي تدفقت إلى الشوارع والميادين، وهذا التدفق البشري الهائل ليس مجرد رقم، بل هو علامة دالة بحد ذاتها، فهو يشير إلى حجم الاستياء، وإلى عمق الإحساس بضرورة التغيير، وهذه الكثرة الكاثرة تحمل في طياتها رسالة واضحة: لقد بلغ السيل الزبى، ولم يعد الصمت خيارًا، إنها صرخة مدوية لإرادة شعبية صممت على استعادة زمام الوطن.
سؤال التغيير
كان مشهد الثلاثين من يونيو بمثابة صرخة إنذار مدوية تعبر عن رفض شعبي واسع لأي محاولة لاختطاف الدولة أو تهميش قطاعات واسعة من المجتمع، فإن مصر بتاريخها وحضارتها وموقعها الاستراتيجي، أكبر من أن تختزل في مشروع أيديولوجي واحد، فالحفاظ على الدولة الوطنية ليس مهمة تنتهي عند حدود يوم معين أو حدث فاصل، إنه مسعى مستمر يتطلب وعيًا دائمًا بالتحديات، وتضافرًا للجهود من جميع أبناء الوطن، وإدراكًا بأن قوة الدولة تستمد من قوة ووحدة شعبها، ويتطلب ذلك بناء مؤسسات قوية وعادلة، وتكريس مبادئ المواطنة المتساوية، وتوسيع قاعدة المشاركة الشعبية الحقيقية.
إن الثلاثين يونيو لم يكن نهاية المطاف، بل كان بداية لمرحلة جديدة تتطلب وعيًا عميقًا بالتحديات وإصرارًا على بناء مستقبل يليق بمصر وتاريخها، فلقد أثبت المصريون في ذلك اليوم قدرتهم على التعبير عن إرادتهم الحرة، وعلى تصحيح المسار عندما يشعرون بالخطر يحدق بوطنهم.
وهي ثورة في جوهره العميق فعل استعادة للدولة الوطنية من محاولات الاختطاف، وتأكيد على أنها ملك للجميع، فلقد كانت لحظة تاريخية استشعر فيها المصريون الخطر الداهم وهبوا للدفاع عن كيانهم الجامع، عن الإطار الذي يضمن لهم الأمن والاستقرار والتقدم، وفي هذا السياق، يصبح هذا اليوم ليس مجرد ذكرى لحدث مضى، بل درسًا مستمرًا في أهمية الحفاظ على بلادنا قوية وموحدة وقادرة على مواجهة تحديات الحاضر والمستقبل.
سؤال السياسية
كانت اللحظة الفارقة حين خرجت الجموع الغاضبة، تحمل في حناياها إحساسًا عميقًا بأن مسار الأمور قد انحرف عن بوصلة الوطن، لم يكن الأمر مجرد اعتراض على سياسات أو أشخاص، بل كان رفضًا لنموذج حكم سعى لاختزال مصر بتاريخها المتشعب وتكوينها الاجتماعي المعقد في قالب أيديولوجي ضيق، وعليه كان تدخل المؤسسة العسكرية، تلك القوة الضاربة التي لطالما لعبت دورًا محوريًا في تاريخ هذا البلد، معلنة عن خارطة طريق" للمستقبل، هنا تجدر الإشارة إلى أن توصيف هذا التدخل سيظل محل تقدير وامتنان لكل من يراه بعين الحقيقة استجابة لإرادة شعبية ورسمًا لمسار جديد للسياسة المصرية.
وبدخول البلاد مرحلة انتقالية وفترة دقيقة وحساسة في حياة الدولة المصرية، تم تعطيل الدستور، وهو الوثيقة التي تحدد قواعد اللعبة السياسية، وتم تعيين قيادة مؤقتة لإدارة شؤون البلاد، ثم بدأت عملية إعادة بناء المؤسسات، بدءًا بتعديل الدستور، مرورًا بالاستفتاء الشعبي عليه، وصولًا إلى إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، هذه الخطوات، مهما اختلفت الآراء حول تفاصيلها وسرعتها، كانت ترمي إلى إعادة صياغة النظام السياسي ووضع أسس جديدة للممارسة الديمقراطية، وبالتالي شهدنا صعود قوى جديدة وتراجع أخرى متمثلة في الجماعة الإرهابية التي حكمت البلاد لفترة وجيزة وجدت نفسها خارج المشهد الرسمي، مصنفة ومحظورة، وفي المقابل، برزت تحالفات وقوى سياسية جديدة، وإن كانت لا تزال في طور التشكل والتعبير عن نفسها بشكل كامل، يبقى السؤال مطروحًا حول مدى قدرة هذه القوى على استيعاب التنوع السياسي وتمثيل مختلف أطياف المجتمع.
الحقيقة أنه كان الأهم هو التركيز على بناء مؤسسات الدولة وتعزيز دور القانون والقضاء من السمات البارزة لهذه المرحلة، فالدولة القوية هي تلك التي تستند إلى مؤسسات راسخة وعادلة، تحمي الحقوق وتفرض الواجبات على الجميع دون تمييز، كذلك على الصعيد الخارجي، فلم تكن التحولات الداخلية بمعزل عن التفاعلات الإقليمية والدولية، فلقد شهدت مصر تغيرات في تحالفاتها وعلاقاتها، وهو أمر طبيعي في عالم يموج بالمتغيرات ويشهد إعادة اصطفاف للقوى.
أما مالا يمكن إغفاله فهو التحدي الأمني الذي واجهته البلاد، والمتمثل في تصاعد العمليات الإرهابية في مناطق معينة، هذه الظاهرة قد فرضت على الدولة أولويات جديدة وأثرت على مسار التحولات السياسية، فإن مسيرة ما بعد الثلاثين من يونيو لا تزال مستمرة، وتحمل في طياتها الكثير من التحديات والفرص، فإن بناء "الجمهورية الجديدة"، يتطلب رؤية واضحة، ومشاركة واسعة، وتوافقًا وطنيًا حقيقيًا، فالتحولات السياسية الحقيقية ليست مجرد تغيير في الوجوه أو الهياكل، بل هي تغيير في العقليات والممارسات، وترسيخ لقيم الديمقراطية والمواطنة والعدالة.
سؤال المجتمع
كشفت تلك الأيام عن قدرة كامنة في المجتمع المصري على تجاوز الانقسامات الأيديولوجية الضيقة، والتوحد حول قضايا وطنية أعم وأشمل، رأينا تلاحمًا بين فئات اجتماعية ربما اختلفت في وجهات النظر السياسية، لكنها اتفقت على ضرورة الحفاظ على الهوية الوطنية الجامعة وعلى مستقبل أفضل للبلاد.
ولعل أحد أبرز الآثار الاجتماعية كان ذلك الشعور المتجدد بالانتماء الوطني، فلقد استعاد الكثيرون إحساسًا بالمسؤولية تجاه مصير الوطن، وتجلت مظاهر التكاتف والتضامن في مواجهة التحديات، تلك اللحظة عززت، ولو بشكل مؤقت، فكرة "نحن المصريون" التي تتجاوز الانتماءات الفرعية، لكن في المقابل، لم تخلُ تلك الفترة من آثار اجتماعية سلبية، فقد عمقت حالة الاستقطاب السياسي في البداية بعض الانقسامات داخل الأسر والمجتمعات المحلية، وربما تركت ندوبًا في العلاقات بين مؤيدي الأطراف المختلفة، فالتحولات الكبرى غالبًا ما تحمل في طياتها قدرًا من الألم والانفعال.
كما أن التغيرات السياسية التي أعقبت الثلاثين من يونيو كان لها تأثير مباشر على بعض الجماعات والفئات الاجتماعية، فصعود قوى جديدة وتراجع أخرى أثر على مواقعها ونفوذها في المجتمع، ولا يمكن إغفال التداعيات الاقتصادية التي صاحبت تلك الفترة، والتي أثرت بدورها على الأوضاع المعيشية لقطاعات من المواطنين، إضافة إلى ذلك، يمكن ملاحظة تحول في الخطاب العام ووسائل الإعلام، فقد برزت أصوات جديدة وتراجعت أخرى، وتغيرت الأولويات في تناول القضايا الاجتماعية، هذا التحول في الخطاب يعكس، ويساهم في تشكيل، القيم والاتجاهات الاجتماعية السائدة، فإن الأثر الاجتماعي لثورة الثلاثين من يونيو لا يزال قيد التشكل والتطور، فالمجتمعات لا تتغير بين عشية وضحاها، ولكنها عملية مستمرة تتفاعل فيها الأحداث السياسية والاقتصادية والثقافية لتنتج في النهاية صورة جديدة للواقع الاجتماعي.
ويبقى السؤال: هل نجح المجتمع المصري في تجاوز حالة الاستقطاب بشكل كامل؟ وهل تمكن من ترجمة تلك اللحظة من الوحدة الوطنية إلى أسس راسخة لبناء مجتمع أكثر تماسكًا وعدالة؟ .. الإجابة: نعم، فإن قدرة المصريين على تجاوز الأزمات هي مزيج من الوحدة، والصبر، والإرث الحضاري، والحس الوطني، والقدرة على التعلم من التجارب، مما يجعلهم شعبًا صامدًا وقادرًا على التغلب على مختلف الصعاب، وذلك يتجلى من خلال نظرة متعمقة ومتابعة دقيقة للتحولات الاجتماعية الجارية، فتاريخ المصريين لا يتوقف عند نقطة معينة، بل يواصل مسيرته، حاملًا معه آثار الماضي وتطلعات المستقبل.
سؤال الرسوخ
بعد فترة عصيبة اتسمت بالاضطرابات وعدم الاستقرار، سعت الدولة المصرية جاهدة نحو ترسيخ دعائم الاستقرار الداخلي واستعادة مكانتها المحورية على الخريطة الإقليمية والدولية، فعلى الصعيد الداخلي، واجهت مصر تحديات جسيمة في أعقاب تلك اللحظة التاريخية، كان في مقدمة هذه التحديات خطر الإرهاب والتطرف الذي استهدف أمن البلاد واستقرارها، استلزم ذلك جهودًا مضنية وتضحيات جسيمة من قبل القوات المسلحة والشرطة المصرية في مواجهة التنظيمات الإرهابية، خاصة في منطقة سيناء، وقد أثمرت هذه الجهود، وإن تطلبت وقتًا وجهدًا متواصلين، في الحد من العمليات الإرهابية واستعادة الشعور بالأمن في ربوع البلاد.
بالتوازي مع المعركة ضد الإرهاب، انصب التركيز على إعادة بناء وتقوية المؤسسات الدستورية والقانونية، فكان إقرار دستور جديد للبلاد، وما تلاه من انتخابات رئاسية وبرلمانية، خطوات حاسمة نحو إرساء أسس دولة القانون وتعزيز المشاركة السياسية هدفت هذه الإجراءات إلى طي صفحة الماضي وبناء نظام سياسي أكثر استقرارًا وتمثيلًا لإرادة الشعب.
إلى جانب الجهود الأمنية والسياسية، لعبت التنمية الاقتصادية والاجتماعية دورًا لا يقل أهمية في تعزيز الاستقرار الداخلي، من خلال إطلاق مشروعات كبرى لتوفير فرص العمل وتحسين البنية التحتية ورفع مستوى المعيشة وتلبية الاحتياجات الأساسية للمواطنين، سعت الدولة إلى معالجة جذور الاحتقان الاجتماعي وتوفير مناخ إيجابي يسهم في الاستقرار.
أما على الصعيد الدولي، فقد بذلت مصر جهودًا حثيثة لاستعادة وتعزيز مكانتها ودورها المحوري على الساحتين الإقليمية والدولية، انطلاقًا من ثقلها التاريخي والاستراتيجي، سعت مصر إلى استعادة دورها القيادي في المنطقة العربية والقارة الأفريقية، والانخراط بفاعلية في جهود حل النزاعات الإقليمية وتعزيز التعاون المشترك، كما حرصت مصر على بناء علاقات دولية متوازنة ومتنوعة، وإقامة شراكات استراتيجية مع مختلف القوى العالمية، بما يخدم مصالحها الوطنية ويعزز من استقلال قرارها الدولي، وفي مجال مكافحة الإرهاب الدولي، أصبحت مصر شريكًا أساسيًا في التحالف الدولي، مقدمة خبراتها ومتعاونة في تبادل المعلومات لمواجهة هذا الخطر العابر للحدود، ولم يقتصر الدور المصري على الجانب الأمني والسياسي، بل امتد ليشمل تعزيز التعاون الاقتصادي والاستثماري مع مختلف الدول والمنظمات الدولية، سعيًا لجذب الاستثمارات ودعم جهود التنمية الاقتصادية، كما نشطت الدبلوماسية المصرية في المحافل الدولية، مدافعًة عن القضايا العربية والأفريقية، ومساهمة فاعلة في جهود حفظ السلام والأمن الدوليين
سؤال الهوية
الهوية المصرية هي جلد ثانٍ متجذر في الوجدان والذاكرة الجمعية، لها تلك القدرة الفريدة على استيعاب المختلف والتفاعل معه دون الذوبان أو فقدان الخصوصية، إنها تلك النزعة الفطرية نحو الوسطية والابتعاد عن التطرف والغلو، فلقد كانت ثورة الثلاثين من يونيو بمثابة صرخة مدوية للتأكيد على هذه الثوابت، وتعبير واضح عن رفض أي محاولة لاختطاف الهوية أو فرض قوالب غريبة عليها، كانت استعادة للبوصلة نحو ذلك التيار الرئيسي الذي يمثل روح مصر الحقيقية.
وهي ثورة أسميها من مقاعد المتخصصين "ثورة الحفاظ على الهوية المصرية" وهي ليست مهمة سهلة في عالم يموج بالتحديات الثقافية والعولمة المتسارعة، إنه يتطلب وعيًا دائمًا بجذورنا التاريخية، واعتزازًا بتراثنا المتنوع، وانفتاحًا واعيًا على العالم دون الانسياق الأعمى وراء التيارات الغريبة، فحين خرجت جموع المصريين في ميادين يونيو، كان هناك شعور عميق بأن هذا النسيج بدأ يتمزق، وأن محاولات فرض رؤية أحادية تهدد هذا التنوع الثري الذي طالما ميز الشخصية المصرية، لم يكن الأمر مجرد رفض لسياسات آنية، بل كان دفاعًا عن جوهر الذات، عن تلك التركيبة الفريدة التي شكلت عبر العصور "مصر" كما نعرفها.
إن ثورة الثلاثين من يونيو كانت محاولة لإعادة تأكيد هذا الجوهر، ولحماية مصريتنا من محاولات التشويه أو الاختزال، فكانت لحظة استشعر فيها المصريون خطرًا يهدد عمق انتمائهم وخصوصيتهم بتراثهم الغني وتنوعه الفريد، وفي هذا السياق، يصبح هذا اليوم علامة فارقة في مسيرة الحفاظ على الهوية المصرية الأصيلة للأجيال القادمة، فهي مسؤولية مستمرة للحفاظ على هذا الإرث الحضاري العظيم للمصريين وتوريثه للأجيال القادمة بكل ما يحمله من قيم وخصوصية.
كانت اللحظة الفارقة حين خرجت الجموع الغاضبة، تحمل في حناياها إحساسًا عميقًا بأن مسار الأمور قد انحرف عن بوصلة الوطن
كان مشهد 30 يونيو بمثابة صرخة إنذار مدوية تعبر عن رفض شعبي واسع لأي محاولة لاختطاف الدولة أو تهميش قطاعات واسعة من المجتمع
رأينا في 30 يونيو تلاحمًا بين فئات اجتماعية اختلفت في وجهات النظر السياسية، واتفقت على ضرورة الحفاظ على الهوية الوطنية الجامعة وعلى مستقبل أفضل للبلاد
ثورة 30 يونيو كانت محاولة
لإعادة تأكيد جوهر الذات، ولحماية مصريتنا من محاولات التشويه
أو الاختزال