الأحد 29 يونيو 2025

مقالات

احترام التنوع.. الطريق إلى الدولة الوطنية

  • 28-6-2025 | 12:50
طباعة

في الدولة الوطنية الحديثة يعيش مواطنون مختلفون في المعتقد، والثقافة، والنوع، والعرق، الخ، إذا نظرنا إلى خبرات التاريخ، البعيد والقريب، نجد مجتمعات نجحت في إدارة التنوع، فاستطاعت أن تحافظ على تماسكها الوطني، وتحقق نهضة اقتصادية، ورأس مال بشري واجتماعي حقيقي. وهناك مجتمعات أخرى أظهرت فشلا في إدارة التنوع، مما أدى إلى تمزقها، وتبعثر كيانها، وجلب عليها التدخل الخارجي، بل وتسبب في احتلال أراضيها في بعض الأحيان. الأمثلة كثيرة، وجميعها ليست بعيدة عن المجتمع المصري. من هنا فإن عماد الدولة الوطنية هو مفهوم المواطنة، وبدونه، لن تكون هناك دولة بالمعنى الحقيقي وطنية.

معنى المواطنة

هناك معان عديدة للمواطنة، قانونيًا واجتماعيًا وثقافيًا، وينحو بعض الدارسين إلى اعتبار المشاركة في الشأن العام سمة أساسية للمواطن، حيث لا يستقيم أن يكون مواطنًا في أي مجتمع دون أن يكون حاضرًا في الشأن العام، مشاركًا في صنعه. وأضيف إلى ذلك بعدًا مهما يتعلق باحترام التعددية. فلا توجد دولة في العالم تضم مواطنين من خلفية واحدة، ثقافيا ودينيا واجتماعيا، حيث يختلف المواطنون فيما بينهم في اللون أو المعتقد أو الثقافة، في إطار رابطة المواطنة التي تجمعهم في وطن واحد. وتعتبر التعددية مثل رأس المال، تحتاج إلى استثمار دائم، وإثراء، وإدارة كفء.

مصر: تجديد رابطة المواطنة

طيلة عقود طويلة شكلت دول أخرى في المنطقة مركزا للمسيحيين العرب، ليس نتيجة ثقل عددي، بقدر ما كانت تمثل مجالا لاحترام التنوع الديني على كافة المستويات. احتلت لبنان موقعًا مهما في هذا الخصوص، خاصة بعد انتهاء الحرب الأهلية، وتوقيع صلح الطائف في مطلع تسعينيات القرن العشرين، حيث كانت مركزًا أساسيا للعديد من الأنشطة التي جمعت المسيحيين العرب سواء في سياق مجلس كنائس الشرق الأوسط، الذي تأسس في سبعينيات القرن العشرين، وقدمت الأردن نموذجا في التعايش والالتقاء بين الأديان، في ظل حكم الأسرة الهاشمية. واحتضنت سوريا في ظل نظام الأسد، الأب ثم الأبن، الأقليات في إطار الرغبة في الاستحواذ على السلطة، وضمان ولائها. أما بالنسبة لمصر، التي تحوي أكبر تجمع مسيحي في الشرق الأوسط، بما يفوق تعداد المسيحيين في المنطقة مجتمعين، فقد غلب على توجهات النظام السياسي – في السبعينيات وما تلاها- الحذر في التعامل مع المسألة الدينية، خاصة في ضوء رغبته تحقيق التوازن بين المكون المسيحي في مواجهة الإسلام السياسي، وهي نظرة فضلا عن كونها غير دقيقة منهجيًا وعمليًا، فقد أدت إلي كثير من المشكلات، ليس أقلها التوترات الدينية المتتابعة، وشعور قطاع واسع من المسيحيين بالغبن من ناحية، وترويج التيارات الإسلامية أن المسيحيين يحصلون على أكثر من حقوقهم من ناحية أخرى، في سياق نظرتهم إلى تقسيم المجتمع على أسس دينية. وزادت مخاطر الفرز الطائفي، رغم أن مصر لا تعرف نظام الطوائف، في اعقاب حكم الإخوان 2012-2013، وواجهت مصر تحديات مصيرية، كادت تعصف بها، خاصة مع اندلاع موجات متتابعة من الإرهاب، طال المسيحيين، ومؤسسات الدولة، والشرطة والجيش. وقد خرج المجتمع المصري من هذه الخبرة بتصورات مختلفة، واتجه النظام السياسي الذي أعقب تلك الفترة إلى التأكيد على عدد من الركائز الأساسية:

• مبدأ المواطنة، سواء في شغل المواقع العامة، أو الوظائف العليا، أو المقاعد البرلمانية، وهو ما أتاح مساحة أوسع ليس فقط للتنوع الديني، ولكن أيضا للتنوع على أساس النوع الاجتماعي.

• إصلاح الخطاب الديني، والتأكيد على مسئولية الحديث في الشأن العام، ومواجهة التطرف والإرهاب بإجراءات حاسمة.

• التعامل الجدي بإجراءات قانونية مع العديد من المشكلات ذات الطبيعة الدينية الموروثة، مثل بناء وترميم الكنائس، وغيرها.

• الاهتمام بالمسارات الروحية التراثية مثل مسار العائلة المقدسة، ومسار آل البيت، ومشروع التجلي الأعظم، وغيرها، وربط هذه المسارات بتمكين المجتمعات المحلية، وتحقيق التنمية المستدامة.

• ضبط الخطاب الإعلامي في الحديث عن الشأن الديني، على نحو يحول دون الانخراط في مساجلات عقيدية، أو خطابات طائفية، وإن ظل الفضاء الإلكتروني يحوي العديد من صور السجال الديني، والتحريض الطائفي، والطعن في المعتقدات.

في ضوء ذلك التحول الذي حدث في غضون عقد من الزمن، اختلف شكل الحضور المسيحي في مصر في سياق مجتمع يقوم على التعددية والتعايش، ونظرا لأن القيادة السياسية تتبنى خطابا للمواطنة، فإن ذلك انعكس إيجابا على أداء المؤسسات العامة، وعرف طريقه إلى التفاعلات المجتمعية من خلال المجتمع المدني التي باتت تحتضن ألوانا من البرامج والمبادرات التي تؤكد على التعايش، وتواجه التعصب، وتدعو إلى الحوار والتنمية والعيش المشترك. وترتب على ذلك أن صارت مصر هي أساس الحضور المسيحي في المنطقة، فهي الأكثر استقرارا، والأفضل استيعابا للتعددية الآن، ليس هذا فحسب، بل هناك تفاعل إيجابي بين المؤسستين الدينية الإسلامية والمسيحية مما يعمق أواصر اللقاء المشترك على أرضية وطنية.

تحديات على الطريق

حقق النموذج المصري تقدما خلال الفترة الماضية في التأكيد على مبدأ المواطنة، عماد الدولة الوطنية، ولا يزال يواجه عددا من التحديات/ المهام من أهمها: الثقافة المحافظة، حيث لا تزال أفكار التعصب والكراهية موجودة في المجتمع، تبث سمومها في الفضاء الإلكتروني، بهدف إشعال حرائق طائفية بين المواطنين، ونشر السجال الديني البغيض، وتحدى جهود الدولة الرامية إلى تعزيز المواطنة. وقد لا يكون التعصب سافرًا أو مباشرًا، لكنه يجد حاضنته في الثقافة المحافظة التي تتغذى على بقايا خطابات التطرف. وهناك أحداث تشير إلى ذلك بوضوح، مثل توقيف طالبة على باب الجامعة لأنها ترتدى فستانًا، ومساعي الفصل بين الجنسين في الفرق المسرحية، وتبرير العنف الذي يٌمارس ضد المرأة بحجج واهية، ومنع الفتيات من ممارسة بعض ألوان الفنون، وتديين الأحداث الجنائية أو القانونية المتكررة مثل حادث الطفل "ياسين" وغيرها. وتمثل الثقافة المحافظة، مزيجًا من التعصب، والتزمت الاجتماعي، ومعاداة التنوير، وتستند إليها جماعات التطرف في تسويغ ونشر أفكارها حتى إن أصابها التراجع سياسيًا، والهزيمة أمنيًا.

من ناحية ثانية رغم أن التوجهات العليا للدولة المصرية، الصادرة على وجه الخصوص من رئيس الجمهورية تتسم بالجرأة في مواجهة التطرف، والحرص على نشر قيم المواطنة والتسامح وقبول الآخر، قولا وفعلا، وهكذا تمضي بقية مؤسسات الدولة ولاسيما الدينية والإعلامية والثقافية على مستوى خطابات قياداتها العليا، إلا أن هناك تحديات تكمن في وصول هذه الخطابات إلى القواعد العريضة في المجتمع، التي لا تزال تصارعها أفكار التطرف، وقد يقف الجهاز البيروقراطي عائقا أمام انتشارها.

ومن ناحية ثالثة، يبدو التعليم عاملا أساسيًا مشتركًا في مواجهة التعصب، ونشر التسامح، وقبول الآخر. فإذا كانت الدولة بذلت جهودًا واسعة في مواجهة التطرف سواء في تسعينيات القرن العشرين في عهد وزير التعليم الراحل الدكتور حسين كامل بهاء الدين، وتجددت هذه الجهود، بصورة أكثر حسمًا عقب 30 يونيو 2013، إلا أن اجتثاث الخطابات المتطرفة من كتب التعليم، أو محاصرتها في الحياة الجامعية، ليس كافيا، طالما أنه لا يرتبط بنشر التربية المدنية في المدارس، وثقافة المشاركة المجتمعية بالنسبة لطلاب الجامعات، وتشير الخبرة إلى أن مواجهة التطرف تحتاج إلى جهود تراكمية من نشر الثقافة المدنية، والأنشطة الفنية والثقافية، والانفتاح على التنمية والعمل الاجتماعي، وذلك حتى يتشكل وجدان مدنى لدى النشء والشباب، يُمثل في ذاته حصانة تلقائية مستدامة ضد الفكر المتطرف.

ومن ناحية رابعة ينبغي الاهتمام بوصول الخدمات الثقافية إلى كافة الربوع ولاسيما المناطق المهمشة اقتصاديا وثقافيا. تظل العدالة الثقافية مسألة محورية، لأن التطرف يغزو الأماكن النائية، مثل القرى والكفور والنجوع، والتي لا تصلها خدمات ثقافية، وهذه مسئولية مباشرة للمثقفين خاصة المهتمين بالثقافة المحلية، والجهات المعنية بنشر الثقافة والفنون، لأنه وفقا لنظرية «ملء الفراغ»، فإن التطرف والتزمت والجمود يحل محل الثقافة عند غيابها.

التنوع والقوة الناعمة

في ضوء ما سبق يمكن القول إن مصر تسير بخطى جادة على درب بناء الدولة الوطنية وسط منطقة تموج بالصراعات وعوامل التمزق على أسس عرقية أو طائفية أو دينية، نراها بوضوح في العراق وليبيا وسوريا والسودان. يؤكد ذلك امرين أساسيين: الأول أن الدولة الوطنية التي تقوم على المواطنة هي أساس الاستقرار والحفاظ على التنوع. الأمر الثاني: أن التطرف والإرهاب يرمي في المقام الأول إلي تقويض أسس الدولة الوطنية، حتى يتسنى له ضرب المجتمعات من داخلها، والهيمنة عليها بخطابات شديدة التطرف، تحقق مصالحه في نهاية المطاف. من هنا فإن الحفاظ على التنوع يمثل في جوهره حفاظًا على الدولة الوطنية، وبناء أسس التعايش بين المواطنين المتنوعين ثقافيا ودينيا وعرقيا، ويعد السبيل الوحيد للحفاظ على مقدرات المجتمعات، وتصدير نماذج إيجابية في التعايش البناء. وإذا لم تتحقق الإدارة الوطنية للتعددية في المجتمعات العربية، فإن ذلك سوف يؤدي ليس فقط إلى تمزيق المجتمعات من الداخل، ولكن سوف يحول دون تحقيق التنمية، والانزلاق في فصول من العنف والفقر وغياب المعنى، وقد يمهد السبيل أمام التدخل الأجنبي الذي اثبت في كل مراحل التاريخ، وفي خبرة المجتمعات التي اكتوت به، أنه لن ينتج سوى مزيدا من الضعف والتداعي الوطني، ويخلف صيغا مستدامة من عدم الاستقرار، فضلا عن ذاكرة وطنية تحمل كثيرًا من الانقسامات والانكسارات.

لا توجد دولة في العالم تضم مواطنين من خلفية واحدة، ثقافيا ودينيا واجتماعيا، بل يختلف المواطنون فيما بينهم في اللون أو المعتقد أو الثقافة

الحفاظ على التنوع يمثل في جوهره حفاظًا على الدولة الوطنية، وبناء أسس التعايش بين المواطنين المتنوعين ثقافيا ودينيا وعرقيا

أخبار الساعة

الاكثر قراءة